الفصل الثاني والخمسون
***************
شعرت تاليا، وهي ملفوفة بمشاعر غريبة لا يمكن تفسيرها، وهي تنظر إلى بوّابة المدينة التي تقترب شيئًا فشيئًا.
قريبًا، ستتحرّر من هذا الألم الشديد.
لن يكونوا مجرّد معالجين غير كفؤين يهتمّون برضى غارسيل، بل سيكونون سحرة من الدرجة الأولى تابعين لقصر الإمبراطورة، سيُعيدون لها حالتها المثاليّة السابقة.
بلّلت شفتيها الجافّتين، وأنزلت بصرها بحذر لتتفحّص جسدها.
كان جسدها، المغطّى بفستان كريميّ خفيف، في حالة لا يمكن وصفها بالجميلة حتّى بمجاملة.
كانت الضمادات السميكة التي تغطّي ساقيها من الفخذ إلى الكاحل تظهر بشكل قبيح تحت تنّورتها الرقيقة،
وعلى الرغم من أنّ آثار الحروق على راحتي يديها شفيت تمامًا بالسحر، إلّا أنّ أظافرها كانت لا تزال ملطّخة بالدم المتخثّر الأسود.
كما أنّ النحافة الناتجة عن قلّة الطعام طوال الرحلة زادت من مظهرها البائس.
فجأة، اجتاحتها موجة من القلق.
هل سيسخر الجميع من مظهري هذا؟
تذكّرت الخادمات اللواتي كنّ يضحكن وهنّ يقلن إنّها جنت على نفسها، فتجمّع العرق البارد على ظهرها.
أغلقت تاليا الستارة على النافذة بسرعة.
إذا رآها أحدهم وقال إنّها تعرّضت لعقاب إلهيّ وهو يضحك، فلن تستطيع الحفاظ على سلامتها العقليّة.
جذبت الغطاء اللين الخفيف الملقى على الأرض وغطّت رأسها به.
بعد قليل، سمعت صوت التفتيش عندما مرّت العربة عبر بوّابة المدينة.
أخرجت تاليا رأسها من بين طيّات الغطاء، وأصغت إلى الضوضاء القادمة من الخارج.
صدحت أصوات حوافر الخيول وأوامر المشاة، وأصبحت نغمة المسيرة الجنائزيّة البطيئة أكثر كآبة.
اختلطت همهمات الحشود بتلك الأصوات، كأنّها آلاف الحشرات المجنّحة تصدر أصواتًا في وقت واحد.
شعرت تاليا بأعصابها تتوتر أكثر، فجذبت الغطاء إلى رأسها مجدّدًا.
كم مضى من الوقت وهي على هذه الحال؟ توقّفت العربة التي كانت تسير ببطء على طريق الحصى، وأصبح المحيط أكثر ضجيجًا.
يبدو أنّ خدم القصر الإمبراطوريّ قد خرجوا جميعًا.
تكوّرت تاليا في زاوية العربة، تنتظر أن تهدأ الضوضاء.
كانت تنوي البقاء محبوسة هنا حتّى يذهب غارسيل وآيلا لمقابلة الإمبراطور وفقًا لتشريفات الدخول إلى القصر.
لم تكن ترغب في أن يرى أتباعهما مظهرها البائس.
فركت تاليا ساقيها النابضتين بالألم وهدأت أنفاسها بهدوء.
فجأة، انفتح الباب دون سابق إنذار، وتسلّل ظلّ كثيف إلى داخل العربة.
رفعت تاليا رأسها، ورأت ظلًّا مألوفًا يقف في مواجهة ضوء الشمس، فاتسعت عيناها.
صعدت مربّيتها، التي كانت تترنّح، إلى العربة، وأحاطتها بذراعيها الممتلئتين في عناق قويّ.
“يا إلهي، يا سيّدتي المسكينة، ما هذا الحال؟”
أمسكت وجهها بيديها الكبيرتين، تفحّصته من كلّ زاوية، ثمّ أجهشت بالبكاء، ودموعها تنهمر كدموع الدجاج.
“كيف أصبحتِ نحيفة هكذا؟ لم يكفِ أنّكِ جُرحتِ، بل أصبح وجهكِ نصف وجه!”
حدّقت تاليا بها بذهول، ثمّ سرعان ما تشوّه وجهها، وألقت نفسها في رقبتها، تعانقها بقوّة.
كما لو كانت حيوانًا صغيرًا يحتمي في حضن أمّه، غاصت في صدرها الممتلئ، فبدأت المربّية بتمرير يدها على ظهرها لأعلى وأسفل.
اندلعت دموعها بقوّة تحت لمستها كأنّها تهدّئ طفلًا رضيعًا.
دفنت وجهها في شعرها المجعّد المعبّق برائحة القرفة، وأطلقت شهقات مكتومة.
“مربّية، أنا… أتألّم كثيرًا. أشعر وكأنّني سأموت من الألم.”
“لا تقلقي، ستهتمّ السيدة سينيفيير بكِ وستُعيدكِ إلى حالتكِ السابقة.”
مسحت المربّية الدموع من خدّيها، وأشارت إلى مدخل العربة.
لاحظت تاليا رجلًا غريبًا يقف عند الباب، فتقلّصت كتفاها.
كان الرجل، الذي غطّى نصف وجهه السفلي بقماش أبيض، يتفحّصها بعيون رماديّة ذات إطار ذهبيّ.
شعرت تاليا، تحت نظرته التي كأنّها تفحّص سلعة، بالخوف، فتشبّثت بمربّيتها غريزيًّا.
ربّتت المربّية على ظهرها بلطف، وقالت بهدوء:
“ما إن سمعَت السيدة سينيفيير بإصابتكِ حتّى استدعت سحرة عائلة تارين. هؤلاء سيُعيدونكِ إلى حالتكِ السابقة.”
ثمّ أبعدت يدها بحزم، وتنحّت جانبًا لتفسح المجال للسحرة للدخول.
نظرت تاليا إلى الظلال التي تقترب منها، وتراجعت بخوف.
ارتفعت غريزة الحذر المتصلّبة بداخلها.
“سأذهب على قدميّ، ابتعدوا!”
“بهذه الساقين؟”
مال رأس رجل نحيف كان ينحني نحوها.
احمرّ وجه تاليا من الإهانة.
“لا مشكلة في الذهاب إلى قصر الإمبراطورة!”
ضاقت عينا الرجل فوق الحجاب.
شعرت تاليا بقلق غريب.
فرك الرجل ذقنه كأنّه يفكّر، ثمّ أمسك بساقها فجأة.
صرخت تاليا من الألم الذي جعل عينيها تبيضّان.
كان قبضته قويّة لدرجة أنّ الدم بدأ يتسرّب من الضمادات.
“إذا تركناكِ تمشين بهذه الساقين وانفجرت الجروح، فنحن من سيتعب. لا تعاندي عبثًا.”
نظرت تاليا إليه بعيون مصدومة.
أفلت الرجل ساقها، وأشار برأسه إلى الرجل الواقف على الجانب الآخر.
“انقلها أنت.”
انحنى الرجل الآخر على الفور، وأدخل ذراعه تحت ظهرها.
انتشرت القشعريرة في جسدها كما لو أنّ ثعبانًا لمسها.
لوّحت تاليا بذراعها، محاولة تفادي يده، وهي تدير جسدها.
“لا تلمس جسدي!”
تمتم الرجل، الذي أصابت ذقنه و هي تتلوى بعنف، بشيء غير مفهوم بصوت خشن.
أدركت تاليا أنّه يتحدّث بلغة الإلف، فتصلّب جسدها.
رأت من بين غطاء رأسه أذنين طويلتين بشكل غير طبيعيّ، وبشرة شاحبة كالجصّ، وشعرًا أبيض يميل إلى الأزرق.
كان إلفًا أصليًّا، وليس نصف إلف أو ربع إلف.
علمت تاليا جيّدًا مدى انعدام إنسانية هذه الكائنات، فأصابها الرعب.
ضغط الرجلان على ذراعيها بقوّة من الجانبين بينما كانا يتناقشان بلغتهما.
فتحت تاليا فمها لتصرخ.
في تلك اللحظة، غطّت يد باردة ورطبة عينيها، وشعرت بأنّ قوّتها تُسحب من جسدها، كما لو أنّ عظامها وعضلاتها ذابت تمامًا.
“إنّها تجعلنا نهدر طاقتنا السحريّة عبثًا.”
تمتم الرجل، وهو يرفع يده من وجهها.
نظرت تاليا إليه بعيون متوسّعة الحدقات.
أرادت أن تصرخ: “ما الذي تفعلونه؟” لكنّ حلقها لم يُصدر سوى أصوات أنين خافتة.
استقام الرجل وأعطى تعليمات للرجل الجالس على الجانب الآخر.
“الآن لن تتمكّن من الحركة. هيّا، انقلها إلى غرفة العلاج.”
أطاع الرجل، الذي تلقّى ضربة على ذقنه، الأمر على الفور.
رُفعت تاليا ككيس قماش، وألقت نظرة استغاثة نحو مربّيتها.
لكن، كالعادة، كانت المربّية غير حسّاسة لخوفها.
“تحمّلي قليلًا، يا سيّدتي. كلّ شيء سيكون على ما يرام.”
مسحت المربّية عينيها بكمّها، وقفزت من العربة.
تبعها الرجل الذي يحمل تاليا إلى الخارج.
عندما أغرق ضوء الشمس القويّ شبكيّتها، عبست تاليا.
بعد أن رمشَت عدّة مرّات، رأت جنود قصر الإمبراطورة يحيطون بالعربة.
نظرت إليهم بعيون قلقة، ثمّ رأت، من خلف صفّ الجنود الذين يقفون كالحاجز، فارس الحرس الذي بدا مضطربًا.
حين حاول الفارس تجاوز جنود قصر الإمبراطورة للاقتراب منها، منعه ساحر من عائلة تارين بحزم.
“لقد انتهت مهمتك. سنتولّى رعاية الأميرة، فابتعد.”
“لكنّني فارس حراستها. يجب أن أرافقها…”
“بما أنّ الأميرة وصلت إلى هذه الحالة، أليس من الأفضل اعتبار منصبك قد أُلغي؟”
فقد الفارس قدرته على الكلام وأغلق فمه.
نقر الساحر بلسانه بخفّة، ودفعه بيد واحدة، ثمّ عبر الفناء المزدحم حيث اصطفّت عربات الأمتعة.
نظرت تاليا حولها بحيرة.
بعد قليل، تمكّنت من العثور على شعر أشقر باهت بين فرسان المدخل الرئيسيّ للقصر.
كادت تنادي اسمه دون تفكير، لكنّها استفاقت فجأة وعضّت لسانها.
باركاس لن يتدخّل من أجلها أبدًا.
في الحقيقة، لم تفهم لماذا شعرت برغبة في طلب مساعدته.
هؤلاء كانوا سحرة أرسلتهم سينيفيير. لن يؤذوها.
كرّرت ذلك في ذهنها، محاولة تهدئة قلقها، لكنّ الرجل الذي يحملها بدأ يتقدّم نحو باركاس.
توترت تاليا وهي ترى وجه باركاس يقترب تدريجيًّا.
التعليقات لهذا الفصل " 52"