تذكّرت الأيّام التي كانت تجمع فيها كلّ كلمة تخرج من فمه كما لو كانت جواهر، فتتأمّلها وتعيد تأمّلها مرّات ومرّات.
حتّى الكلمات الحادّة كالخناجر كانت تغرسها في قلبها، ثمّ تُعاود لمسها مرّة بعد أخرى.
لكنّها الآن سئمت الألم. لقد ملّت من إضفاء معانٍ خاصّة على كلماته وتصرّفاته التافهة، ثمّ الشعور بالخيبة.
لم تكن بعدُ تلك الفتاة المراهقة الساذجة، وقد أدركت تمامًا أنّ تاليا روم غيرتا لا تعني شيئًا بالنسبة له.
بذلت جهدًا جبّارًا لئلّا تتعلّق بذراعيه القويّتين اللتين تحملانها بحذر، وقطعت بلا رحمة أيّ برعم أمل يحاول التمدّد بحماقة.
كان السبب الوحيد لتصرّفه معها هكذا هو شعوره بالمسؤوليّة.
لقد راقبته وحلّلته لأكثر من عشر سنوات، وقد حلّلت شخصيّته في ذهنها مئات المرّات. كانت تعرف جيّدًا كيف يعمل عقله.
على الرغم من نفوره الشديد من تاليا روم غيرتا، كانت بالنسبة له كائنًا يجب حمايته. ليست بأهميّة غارسيل أو آيلا، لكنّها ليست شخصًا يمكن تركه ليصبح في حالة يُرثى لها.
كان من الطبيعيّ أن يشعر رجلٌ يعيش لأداء واجباته الموكلة إليه بالذنب إذا فشل في أداء مسؤوليّاته.
“سأذهب لتحضير الطعام.”
قال باركاس وهو يضعها على السرير داخل الخيمة المعتمة التي دخلها للتوّ.
نظرت تاليا، التي كانت غارقة في أفكارها إلى ساقيها.
بدأت تشعر بوخز ينتشر من ساقها إلى حوضها، كما لو أنّ مفعول الدواء بدأ يتلاشى.
“لا حاجة للطعام، فقط أشعل بعض الأعشاب العطريّة.”
“بعد الطعام.”
رنّ صوت حازم فوق رأسها.
ركّزت قوّتها في عينيها المغبّشتين وحدّقت به بنظرة غاضبة.
لكنّ باركاس كان قد استدار بالفعل، يعطي تعليمات لخادمه.
أرادت أن ترمي وسادة على ظهره المزعج، لكنّ أطرافها كانت ثقيلة كالقطن المبلّل، فلم تستطع الحركة.
في النهاية، تخلّت عن غضبها ودفنت وجهها في الغطاء المشبع برائحة خشب العرعر وأوراق النعناع.
بعد قليل، عاد باركاس يحمل وعاءً يحتوي على حساء. أمسكت تاليا الملعقة على مضض.
كان إدخال أيّ شيء إلى معدتها أمرًا مؤلمًا، لكنّها كانت تعلم أنّ هذا الرجل العنيد لن يسمح أبدًا بإشعال الأعشاب العطريّة إذا لم تتظاهر على الأقل بتناول الطعام.
بتأثير الألم المتزايد، أجبرت نفسها على وضع الحساء الأخضر المليء بالأعشاب في فمها.
“هل هذا يكفي الآن؟”
ألقت الوعاء، الذي أفرغت نصفه تقريبًا، كما لو كانت ترميه.
الرجل الذي كان يراقبها كالسجّان وهي تأكل، فحص الوعاء كما لو كان مفتّشًا.
أضافت تاليا بنفاد صبر:
“لقد أكلت! ماذا تريد منّي أكثر من ذلك؟”
نظر باركاس إلى وجهها المغطّى بالعرق البارد بسبب الألم، ثمّ استدار وأمر خادمه بإحضار المبخرة.
كأنّها داخل سحابة باردة. بدأ حضور الرجل، الذي كان يجرح أعصابها كالسكّين، يتلاشى تدريجيًّا.
بينما كانت مستغرقة في هذا الشعور الهادئ، لمحت ظلًّا مزعجًا في رؤيتها المغبّشة.
ركّزت عينيها غير القادرتين على التركيز جيّدًا، ونظرت إليه بعناية.
كان ظلّ امرأة أنيقة تقف معتمدة على ضوء الغروب قد ارتسم على شبكيّتها.
بعد لحظة، أدركت أنّ هذا الظلّ يخصّ أختها غير الشقيقة النبيلة.
راقبت تاليا وجهها المتجهّم كما لو كانت تتفحّص زخرفة في خزانة.
بدا أنّ شيئًا مزعجًا قد حدث، إذ كان هناك تصدّع خفيف على وجهها المنمّق كالخزف المصنوع بعناية.
أثار ذلك فضولها قليلًا.
كانت هذه المرأة، التي نادرًا ما تفقد رباطة جأشها حتّى عندما كانت تاليا تُزعجها بكلّ الطرق، تبدو كئيبة اليوم.
ما الذي جعلها بهذا المزاج؟
“أعلم أنّك تشعر بالمسؤوليّة تجاه هذا الوضع. لكنّك خطيبي. ليس من المناسب أن تستمر في إبقاء تلك الفتاة في خيمتك…”
تسلّل صوت آيلا الناعم إلى أذنيها المكتومتين، كما لو كان الماء يملأهما.
عبست تاليا. لم يكن مضمون الكلام هو ما أزعجها، بل نبرة الصوت الناعمة التي صدحت بها.
هل تظلّ هذه المرأة متأنّقة حتّى عندما تغضب؟
بالنسبة لتاليا، التي لا تشعر بالرضا إلّا بعد أن تُفرغ كلّ مشاعرها، كان هذا التحكّم بالنفس شيئًا لا تستطيع تقليده. ربّما كان هذا أحد الأسباب التي جعلتها تكره آيلا أكثر.
كان وجود امرأة تمتلك فضائل لا تستطيع تاليا محاكاتها، وهي أختها غير الشقيقة، أمرًا مروّعًا.
لو لم تكن مضطرّة لتحمّل المقارنة المستمرّة معها، لربّما كانت تكره آيلا أقلّ ممّا تفعل الآن.
واصلت آيلا حديثها:
“إذا كنت قلقًا من تركها وحيدة، يمكنني أن آخذها إلى مكاني. هكذا لن تضطر للقلق بشأنها بعد الآن…”
“هل هناك من يضع ثعبانًا وقطّة بريّة في قفص واحد؟”
قاطع صوت جافّ مشبع بالإرهاق كلام الأميرة بحدّة.
حرّكت تاليا عينيها لتنظر إلى باركاس، الذي كان يقف متّكئًا على عمود الخيمة بكتفه.
كان من النادر جدًا أن يتّخذ الرجل، الذي يحافظ دائمًا على وقفة مستقيمة، مثل هذه الوضعيّة.
هل كان موجودًا هنا طوال الوقت بينما كنت أستنشق الدواء؟ إذا كان الأمر كذلك، فمن المدهش أنّه قادر على الوقوف بهذا الثبات. أمّا هي، فكانت بالكاد قادرة على رفع جفنيها.
“هل تقارنني الآن بحيوان حقير كهذا؟”
ارتفعت نبرة آيلا قليلًا بحدّة.
بذلت تاليا جهدًا أكبر لتركّز عينيها.
أرادت أن ترى بنفسها كيف يتشوّه وجه آيلا.
لكنّ كتفي باركاس العريضتين، بعد أن استوى في وقفته، حجبتا رؤيتها.
سرعان ما رنّ صوت بارد:
“أليس من الواضح كالنار ما سيحدث إذا بقيت الأميرة الثانية في مكانك، يا مولاتي؟”
تنهّد بهدوء، ثمّ أضاف بنبرة ساخرة قليلًا:
“أم أنّكِ ترغبين في رؤية رؤوس خادماتكِ اللواتي تحبّينهنّ تُقطع جميعًا؟”
بدت آيلا وكأنّها فقدت قدرتها على الكلام، فأغلقت فمها.
حدّقت تاليا بعيون مشوّشة في ظهره المغطّى بالظلال.
‘…كما توقّعت، كان يراقبني. وضعني بجانبه ليمنعني من إثارة المزيد من الفوضى.’
لم تكن لديها أيّ توقّعات منذ البداية. لذا، يفترض ألّا تشعر بخيبة الأمل.
لكن لماذا، إذًا، أشعر بهذا الألم مرّة أخرى؟
أغلقت عينيها، ساخطة على نفسها.
عندما أفلتت خيط الوعي الذي كانت تتشبّث به، تلاشت الأصوات المزعجة بسرعة. كأنّها تغرق في الماء العميق. استسلمت بسرور لعالم اللاوعي.
**************
مرت أيّام من الحرارة الخانقة المستمرّة.
بالنسبة لأولئك الذين كان عليهم نقل عشرات الجثث، كان هذا بمثابة كارثة.
لمنع التعفّن، ملؤوا تجاويف الجثث بملح التنقية والأعشاب المجفّفة، ودهنوا الجلد الرمادي بالمرّ والزيوت، لكن مع مرور الأيّام، بدأت رائحة كريهة تنبعث من التوابيت.
تشوّهت وجوه السائرين في الموكب بشكل طبيعيّ.
كانت تاليا، التي كانت تتّكئ على النافذة تنظر إلى هذا المشهد، تتذكّر فجأة أمنيتها عند مغادرة القصر الإمبراطوري بأن يتحوّل هذا الموكب إلى رحلة إلى الجحيم.
هل استجاب الإله لصلواتي؟
أم أنّه يعاقبني؟
بينما كانت غارقة في هذه الأفكار، تداعب ركبتها النابضة بالألم، سمعت صوت صفّارة من بعيد.
فتحت عينيها المرهقتين قليلًا ونظرت إلى ما وراء التلّ.
تحت أشعّة الشمس الحارقة، كان جدار رماديّ يرتفع بشموخ تحت التلّ اللطيف.
لقد وصلت أخيرًا هذه الرحلة البائسة والكئيبة، التي بدت وكأنّها لن تنتهي أبدًا، إلى نهايتها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 51"