“يبدو أنك لا تدرك بعد أن هناك حدودًا لا ينبغي تجاوزها.”
قالها باركاس بصوته الخالي من الانفعالات، كما اعتاد، لكن ملامح وجهه الجميلة بدت مشدودة وقاسية، وقد نفد صبره تمامًا.
حاولت تاليا أن تفلت من قبضته وهي تلوي ذراعها، لكن يده القوية، المدربة كفارس، كانت كالأصفاد الحديدية. وقف باركاس حاجزًا مخلصًا أمام ولي العهد وآيلا، ثم جذب تاليا نحوه أكثر وقال بنبرة حادة كأنما يبصق كلماته في وجهها:
“كم عليكِ أن تنحدري أكثر لتشعري بالاكتفاء؟ أليس عرضكِ للحضيض كافياً بعد؟”
“أنا؟ أنا التي أظهرت الحضيض؟”
رفعت تاليا ذقنها في كبرياء وضحكت بسخرية لاذعة.
“أوه، سمو الأمير شيركان المتعالي، أترى نفسك خبيرًا بأدنى مستويات البشر؟ لا تتفاخر كثيرًا.”
ثم اقتربت منه حتى كادت تلتصق به، ترسم على شفتيها ابتسامة خبيثة. على عكس الرجال الآخرين الذين كانت نظراتها وعطرها كفيلة بإرباكهم، ظل باركاس ساكنًا، بعينين ممتلئتين بالضجر.
شعرت تاليا برغبة جارفة في غرز أظافرها، التي كانت تشحذها بعناية كل ليلة، في عينيه الباردتين كالجليد.
“من حيث تقف، لا بد أنني أبدو وضيعة للغاية. لكنني لم أصل بعد إلى القاع الحقيقي. لا يزال أمامي الكثير لأصل إليه.”
نظرت في عينيه مباشرة، فرأت هاوية سحيقة تكمن فيهما.
هذا الرجل، عاجلاً أم آجلاً، سيدفعها إلى تلك الهاوية. وإن كان لا مفر من السقوط، فهي على الأقل ستخدش طريقهم الطويل قبل أن تنهار. أليس هذا ما يُسمى بالعدالة؟
توهّجت عيناها الزرقاوان بالحنق، تنفثان سمًا خالصًا. وكان في عيني باركاس أيضًا بريق خطر وهو يحدق في وجهها الحاقد. وبينما كان التوتر يكاد يتفجر بينهما، جاء صوت حزين للغاية من خلفه.
“باركاس…”
استدار فورًا، وقد تخلّى عن تاليا، نحو خطيبته.
كانت آيلا تبدو بائسة إلى حدٍ يمزق القلب. أمسكت بطرف سترته برقة وقالت بصوت متوسل:
“أريد أن أبدّل ثيابي… هل يمكنك أن تخرجني من هنا؟”
“…كما تأمرين.”
أحاط باركاس كتفها بذراعه وغادر المكان دون أن يلتفت. عامل تاليا، وكأنها لم تكن موجودة.
شعرت تاليا وكأن الجنون الذي كان يسيطر عليها قد تبخر فجأة.
وحلّ مكانه يأس مرير، وألم، وغيرة خانقة. لكنها تظاهرت بالقوة، متحلية بهدوء زائف.
بابتسامة مصطنعة كأنها انتصرت، اتجهت تاليا إلى التراس حيث تنتشر المشروبات والطعام. فتفرق الناس من حولها كأنهم يتهربون من وباء.
لم تأبه لذلك، التقطت كأسًا بأناقة ورفعتها إلى شفتيها. لكنها لم تشرب سوى جرعتين، حتى اندفع الكونت سريان، الذي كان يراقب المشهد من بعيد، ليأخذ الكأس من يدها.
“من الأفضل أن تغادري القاعة الآن.”
“ولمَ ذلك؟”
قالت بهدوء وهي تمد يدها إلى طبق الرمان.
“ألم تسمع أن صاحبة السمو، الأميرة الأولى، أمرت بأن نستمتع بالاحتفال؟ وأنا لم أستمتع بعد بما فيه الكفاية.”
“أُقدر شجاعتك، لكنّ هناك وحش خلفك على وشك الانقضاض عليك.”
أشار بعينيه إلى ولي العهد.
بالفعل، بدا غاريس كأنه على وشك ارتكاب جريمة. عروقه بارزة على رقبته البرونزية، وعضلات فكه ترتجف. بالكاد كان يتمالك أعصابه.
في الظروف العادية، كانت تاليا لتتعمّد استفزازه أكثر حتى يدفعه جنونه لارتكاب فضيحة. لكنها الآن لا تملك القوة لذلك.
تخلّت عن كبريائها، ووضعت يدها على ذراع الكونت سريان. غادرا القاعة بخطى سريعة لكنها غير متسرعة.
—
عند مدخل الحديقة، كانت العربة بانتظارها. فتح الحارس الباب في الوقت المناسب، فصعدت تاليا بخفة. لكنها ما إن همّت بالجلوس، حتى دُفعت بعنف إلى الداخل.
سقطت على الأرض ونظرت إلى الأعلى، لتجد غاريس وقد اقتحم العربة، يرمقها بنظرة قاتلة.
“نحن بالكاد نحتمل وجودك.”
قالها وهو يزأر، ثم قبض على عنقها بيد خشنة مليئة بالندوب. الحارس، غير قادر على لمس ولي العهد، لم يفعل سوى الصراخ محتجًا.
غاريس تجاهله، وضغط بيديه بقوة أكبر. بدأت تاليا في الركل، وغرزت أظافرها في يده، لكنه بدا وكأنه لا يشعر بأي شيء من شدة غضبه.
ثم همس في أذنها بنبرة زاحفة:
“تحملنا كثيرًا، وصبرنا أكثر مما ينبغي.”
عينا ولي العهد الخضراوان توهجتا كجمرتين.
“فلا حاجة للمزيد من الاستفزاز، أختي. لقد بلغ كرهنا لك ذروته…”
أخيرًا، أفلتها ونهض.
أمسكت تاليا بعنقها بيديها، تلهث في ألم. كانت تسعل بشدة، غير قادرة على التنفس. وبينما كانت تتنفس بصعوبة ووجهها محتقن، جاء صوته الغادر يخترق سمعها:
“تذكّري هذا جيدًا. عبث أمك في القصر، وتجوّلك أنت، تلك النغلة القذرة، بين أروقته، لن يدوم طويلاً.”
ثم أغلق باب العربة بنفسه، ورحل.
كانت تاليا على وشك النهوض حين لاحظت أن اثنين من أظافرها المشحوذة قد انكسرا، وقطرات من الدم علقت بأطرافهما. لمستها بحنو وهمست بصوت مبحوح:
“…يبدو أنني بحاجة لتقليمها من جديد.”
لكن هذه المرة، سأجعلها أكثر حدة. حادة بما يكفي لاختراق العظام.
ضحكت. ضحكة خافتة، كأنها ريح تمر عبر شقوق مغلقة.
لم تكن تدري لماذا تضحك.
كان الحارس، الذي فتح الباب للاطمئنان عليها، يحدّق بها بدهشة. لا بد أنه يظنها مجنونة. وربما… كان محقًا. فهي قد فقدت عقلها منذ زمن بعيد.
تمدّدت على أرضية العربة المظلمة، وظلت تضحك بهدوء طويلًا.
—
كانت أروقة القصر تعجّ بالضجيج. فلم يتبقَ سوى أيام قليلة قبل أن تنطلق الأميرة الأولى وولي العهد في رحلتهما المقدسة. كان ذلك تقليدًا ملزمًا لكل وريث من نسل الإمبراطور العظيم دارين، موحّد الممالك.
عادةً ما تبدأ النساء رحلتهن قبل الزواج، بينما يبدأها الرجال بعد بلوغهم العشرين. وبما أن الأميرة وولي العهد وُلدا في اليوم ذاته، أصرّ الأخير على أن يتلقيا بركة الآلهة معًا.
ولأجل حمايتهما، جُهزت نخبة من فرسان القصر لمرافقتهما، وكان من الطبيعي أن يُعهد بقيادة هذه الحملة إلى قائد الحرس الإمبراطوري، باركاس. ولهذا، كانت تاليا تراه كثيرًا من نافذة جناحها الجانبي، وهو يتنقل منشغلاً في الساحة الداخلية.
واليوم، كان يقف تحت المطر المنهمر، يتفقد الأسلحة والخيول ومستلزمات السفر الأخرى. كانت تاليا مستلقية على حافة النافذة، تراقبه دون أن ترمش.
رفع باركاس رأسه نحو السماء كمن يحاول تقدير الوقت، بينما كانت قطرات المطر الفضية تنساب على وجهه، تملأ عينيها بمشهد لا يُنسى.
لقد كانت تمطر أيضًا… يوم وقعت تاليا في حبه.
استسلمت لذاكرتها، وغرقت في استرجاع ذلك اليوم.
التعليقات لهذا الفصل " 5"
احس صار شي بينهم زمان
مشاكل عائلية ملناش دعوه فيها