الفصل 48
*********
شعرتْ تاليا بقطرات العرق تتجمع على جبهتها، تنزلق لتُبلّل زاوية عينيها.
ربّما كان الدواء يسبّب ألمًا مروّعًا، أو ربّما كان سمًا قاتلًا.
على الرغم من هذه الشكوك التي لم تستطع التخلّص منها، فتحت تاليا شفتيها.
أمالَ الرجل قارورة الدواء، فتدفّق سائل مرّ المذاق إلى فمها.
حين حاولتْ أنْ تدير رأسها جانبًا بفعل السعال الخفيف الذي أصابها، أمسك ذقنها بقوة وأعاد القارورة إلى فمها.
ابتلعت تاليا السائل الذي تسرّب إلى فمها بضعف، ونظرت
إليه.
رأتْ ضوءًا يتراقص فوق عينيه الباهتتين التين تبدوان كما لو كانتا مغطّاتين بحجاب.
حاولت تاليا، وهي تنظر إلى تلك العينين الجامدتين كالمعدن أن تجد أثرًا لأي عاطفة، لكنّها سرعان ما أرخَت أطرافها باستسلام.
شدّدت قبضتها حول عينيها، محاولةً بكل قوتها التمسّك بخيط الوعي، لكنّ عقلها بدأ يغرق تدريجيًا في ضبابية، وأصبحت رؤيتها تتلاشى بسرعة.
أغمضت تاليا جفنيها ببطء، ثم غرقت في صمت يشبه الموت.
لم تعرف كم مرّ من الوقت. ربّما كانت ثوانٍ قليلة، أو ربّما عمرٌ كامل.
نظرت تاليا إلى الفراغ بعينين شاردتين، ثم عبست حين سمعت صوت حوافر الخيول يرنّ بانتظام وصوت العجلات تتخبّط. بدأت رؤيتها المغشّاة كالضباب تتّضح تدريجيًا، فظهرت أمام عينيها تفاصيل داخل العربة المظلمة.
للحظة، تساءلتْ إن كان كلّ شيء مجرّد حلم. الوحش المرعب الذي ظهر، وباركاس الذي اندفع لإنقاذ آيلا تاركًا إيّاها، وكادت تُقتل على يد التنين المجنّح، ألم يكن كلّ ذلك مجرّد كابوس من الليلة الماضية؟
لكنّ الألم الشديد الذي انتشر من ركبتيها إلى خصرها نفى هذه الفكرة.
عضّت تاليا شفتها السفلى، وأمسكت ركبتيها المشتعلتين كما لو كانتا تحترقان.
شعرت بملمس خشن لقماش تحت ثوبها الرقيق. وبينما كانت أصابعها تتحسّسه، أدركت أن ساقها اليسرى ملفوفة بضمادات سميكة، فاتّسعت عيناها بدهشة.
رفعت طرف ثوبها، فرأت قطعة قماش ملطّخة بالدماء والصديد ملتصقة بفخذها وجانب خصرها.
تحسّستها بيد مرتجفة، ثم أنزلت ثوبها ورفعت جذعها لتجلس.
كانت العربة الفسيحة مبطّنة بملاءة سميكة محشوّة بالقطن، وتناثرت حولها وسائد وبطانيات صيفيّة في فوضى.
نظرت إليها في ذهول، ثم أمسكت مقبضًا مثبتًا على الحائط وحاولت رفع جسدها بصعوبة. لكنّ ساقيها لم تستجب، فلم تستطع الوقوف بسهولة.
حاولت تاليا تقويم ساقيها المتيبّستين كالرصاص، لكنّ ألمًا شديدًا تسلّق عمودها الفقري فجلست على الأرض بصوت خفيض، وهي تصرخ من الألم الذي اخترق جسدها.
“هل أنتِ بخير؟”
سمعَ صوتها، فتوقّفت العربة فجأة، وانفتح الباب بقوة.
نظرت تاليا بعينين متقلّصتين إلى الرجل الذي وقف في مواجهة الضوء. كان فارس الحرس الملكي، الذي بدا شعره المبعثر أكثر فوضى من المعتاد، ينظر إليها بعينين قلقتين.
صعد إلى العربة وبحث في صندوق صغير في الزاوية.
“الألم شديد، أليس كذلك؟ لقد أعدّ المعالج مسكّنًا هنا. إذا شربتِ هذا…”
“لماذا لم يُستخدم سحر الشفاء على جسدي؟”
توقّف الرجل عند سؤالها الحادّ وأدار رأسه.
جذبت تاليا الملاءة إليها وألقت نظرة متيقّظة.
“هل أمرَ أخي بعدم علاجي؟”
“لا، ليس الأمر كذلك.”
لوّح الرجل بيده بسرعة.
“لقد قام المعالج بتوصيل العظام مؤقتًا وشفى بعض الجروح، لكنّ إصابات سموّكِ كانت شديدة جدًا لدرجة أنّه لم يتمكّن من علاجها دفعة واحدة. وقال إنّه من الأفضل تسليم الأمر إلى معالج متخصص في القصر الإمبراطوري لضمان الشفاء.”
نظرت تاليا إليه بنظرة مليئة بالشك، ثم خفضت عينيها إلى ساقيها.
تذكّرت بشكل غامض صخرة كبيرة سحقت ركبتيها وفخذيها.
بالتأكيد، لو أغلقت الجروح كما هي، لكانت ساقها أصبحت غير صالحة للاستخدام إلى الأبد. وعلى مضض، أقرّت بهذه الحقيقة، لكنّها لم تتوقّف عن التذمّر.
“إذن، هل يفترض بي أن أبقى على هذه الحال حتى أصل إلى القصر؟”
“أعلم أنّه مؤلم، لكن تحمّلي قليلًا من فضلك. سنتّجه إلى جيليان عبر أسرع طريق.”
نظرت تاليا إليه بعينين متقلّصتين، ثم أدارت نظرها إلى النافذة.
رأت أشعة الشمس الباهتة تنسكب على سهلٍ شاسع، وفرسان يصطفّون في خط طويل. وبينما كانت تبحث دون وعي عن شعر أشقر رمادي، شعرت بالاشمئزاز من نفسها وسحبت الستارة بقوة. شعرت بإرهاق شديد بعد تحريك جسدها قليلًا.
“من الغريب أنّ أخي وافق على اقتراح العودة إلى القصر.”
“بعد هجوم التنين المجنّح، وقعت خسائر كبيرة. وحتى من أجل إقامة مراسم دفن الضحايا، كان لا بدّ من العودة بسرعة، فلم يستطع معارضة ذلك علنًا.”
فوجئت تاليا بردّه الساخر غير المتوقّع، وعندما التفتت إليه، أدرك الفارس نبرته الساخرة متأخرًا وحاول تغيير الموضوع بسرعة.
“على أي حال، يبدو وجهكِ شاحبًا. تناولي الدواء أولًا.”
مدّ الرجل غطاء قارورة الدواء أمام وجهها. نظرت إليه للحظة، ثم لوّحت بيدها بنفاد صبر.
“لا حاجة لي به، خذه واخرج. أريد أن أرتاح الآن.”
“إذا كنتِ لا تثقين بي، سأستدعي السير شييركان.”
توقّفت تاليا، التي كانت تستلقي على السرير، ونظرت إليه بوجه متصلب.
شعرت للحظة وكأنّ قلبها توقّف، كما لو أنّها تعرّضت لهجوم مفاجئ. ولمّا أخفت ذلك بسخرية باردة على شفتيها، ردّت بحدّة:
“هل يبدو لك أنني أثق بذلك الرجل؟”
“لكن سموّكِ كنتِ…”
“أنا لا أثق بأحد.”
قاطعت تاليا كلامه بنبرة حادّة، ثم أضافت وهي تنطق كل كلمة بغضب أمام وجهه العنيد:
“خاصة ذلك الرجل.”
“…”
“لذا توقّف عن هذا الهراء واخرج من هنا.”
تنهّد الرجل بصوت خفيف بعد أن بدا وكأنّه يريد قول شيء آخر، ثم خرج.
بعد قليل، بدأت العربة التي توقّفت تتحرّك مجددًا.
جذبت تاليا بطانية صيفيّة خفيفة حتى كتفيها. عاد الألم الذي هدأ قليلًا ليشتدّ من جديد، وشعرت كأنّ جلدها يحترق. حاولت تاليا، وهي تتقلب وتبتلع أنينها، أن تغلق عينيها بقوة هربًا من الألم.
عند غروب الشمس، جاء ساحر ذو جسد ممتلئ ليضع تعويذة شفاء عليها.
قبلت تاليا لمسه بهدوء. كان لمس يد شخص آخر أمرًا مقززًا، لكنّها لم تملك الطاقة للرفض بعد الآن.
“سأضع شمعة عطريّة تقلّل من حساسيّة الألم. ستخفّف من وطأته.”
ربّما سمع الساحر أنّها رفضت الدواء، فوضع مدفأة صغيرة عند المدخل وأشعل النار فيها.
سرعان ما امتلأت العربة برائحة ثقيلة. كادت تاليا أن تصرخ به ليتوقّف عن هذا العمل الغبي، لكنّها شعرت بأعصابها المتوتّرة ترتخي تدريجيًا، فأرخت كتفيها.
بدأ الألم الذي كان يخترق عظامها يهدأ ببطء، وأصبح وعيها ضبابيًا. يبدو أنّ الأعشاب التي أحرقها كانت تحمل تأثيرًا منومًا.
رحّبت تاليا بالنعاس الذي اجتاحها، لكنّ النوم لم يدم طويلًا. بعد فترة قصيرة، عاد الألم ليشتدّ مجددًا.
استيقظت تاليا وهي تئنّ، ورفعت جفنيها بصعوبة. يبدو أنّ عليها استدعاء الساحر وإخباره بإشعال المزيد من الشموع العطريّة.
فركت رأسها النابض وحاولت رفع جذعها بصعوبة، لكنّ أنفاسها توقّفت فجأة.
نظرت تاليا بعينين متوسّعتين إلى الظلام الدامس حولها.
لم تكن تعرف سبب ذعرها.
التعليقات لهذا الفصل " 48"