الفصل 44
اندفعت تاليا عبر المخيم الفوضوي، متجاوزةً الجنود الذين كانوا يتجولون مذعورين بأسلحتهم، ورأت بضع جثث مهشمة تقريبًا بين الخيام الممزقة.
شعرت أن معدتها تتقلص بألم من الخوف. لكن فكرة أن باركاس قد يواجه مصيرًا مشابهًا جعلتها عاجزة عن التوقف.
هرعت لتلحق به، متجاوزة الفوضى المتناثرة في المخيم.
فجأة، دوى صوت ارتطام مدوٍ.
أدارت تاليا رأسها نحو مصدر الصوت، فشحب وجهها. رأت تنين وايفرن يهبط على مقربة، يبتلع جنديًا كاملاً.
كلما تحرك فمه الضخم، تدفق الدم بغزارة، مبللاً ذقنه الأسود.
كان المشهد غير واقعي لدرجة أنها لم تشعر بالخوف حتى. تراجعت تاليا بخطوات مرتجفة، لكنها رصدت باركاس بين الجنود الذين كانوا يهرعون حاملين رماحهم، فصرخت بصوت عالٍ:
“باركاس! باركاس!”
مثل طفلة وجدت والديها في سوق مزدحم، اندفعت نحوه بعنف. التفت إليها باركاس، الذي كان يعطي أوامر للفرسان.
في لحظة تقاطع أعينهما، اتسعت عيناه قليلاً ثم تقلصتا.
بدا غاضبًا لأنها تجاهلت أوامره وخرجت.
برغم الخوف الذي أثارته نظرته الحادة، لم تتوقف تاليا وواصلت الاقتراب منه. كانت فكرة واحدة تملأ رأسها:
يجب أن تذهب مع باركاس إلى مكان آمن.
“لا تقاتل. دع أتباعك يتولون الأمر. يجب أن تبقى بجانبي.”
اختلطت كلماتها العنيدة مع أنفاسها المتقطعة.
على الرغم من استحالة سماع صوتها وسط هذه الفوضى، اقترب باركاس منها بخطوات واثقة كما لو أنه سمعها. مدّت تاليا يدها نحوه.
في تلك اللحظة، دوت صرخة رقيقة من مكان ما.
“باركاس!”
أدار باركاس رأسه على الفور.
تبعت تاليا نظرته، فرأت آيلا تقف وحيدة وسط الفوضى، فاتسعت عيناها.
يبدو أنها انفصلت عن حراسها في الزحام، وكانت تحاول الهرب بفوضوية بينما يخيم ظل أسود فوق رأسها. رأى باركاس ذلك واندفع نحوها دون تردد.
بينما كانت تراقبه وهو يبتعد عنها بسرعة، فتحت تاليا فمها مذهولة. خرجت من حلقها المشدود أنة بائسة:
“لا تذهب. لا تذهب إليها.”
خرجت دموع حارقة كالبركان من حلقها.
أمسك باركاس بآيلا ولفّها بذراعيه، ثم تدحرج بها بعيدًا في اللحظة الأخيرة.
زأر الوحش، الذي أضاع فريسته، وخدش الأرض بمخالبه السوداء بعنف.
شهر باركاس سيفه ليحمي آيلا، وأبعدها خلفه.
لكن الوحش لم يتشبث بفريسة فشل في اصطيادها. هز رأسه الضخم وشم الهواء، ثم أدار عينيه فجأة نحو تاليا.
حدّقت تاليا، المجمدة في مكانها، في عينيه الحمراوين المتوهجتين.
اتسعت حدقتاه كأنه متحمس لاكتشاف فريسة جديدة. في اللحظة التالية، انقض جسده الضخم نحوها كأفعى تنزلق على الماء.
كان تحركه سريعًا لدرجة أنها لم تجد وقتًا للصراخ.
علقت تاليا بمخالبه الحادة وارتفعت في الهواء.
نظرت إلى الأرض التي تبتعد بسرعة، وأدارت عينيها مذهولة. رأت الجنود يركضون في فوضى، ثم صغروا في لمح البصر إلى حجم راحة يدها.
بدأت تاليا، التي استولى عليها شعور بالخطر، تلوح بأطرافها بيأس.
لكن القوة التي كانت تعتصر صدرها كانت تزداد. شعرت أن المخالب الحادة ستخترق جلدها وتقطع جسدها نصفين في أي لحظة.
نظرت برعب إلى الوحش الذي أمسكها، ثم صرخت بصوت عالٍ:
“ساعدوني…! شخص ما…!”
لكن صوتها بدا ضعيفًا حتى في أذنيها.
هلّت أنفاسها بقوة، وحاولت فتح فمها مجددًا بصعوبة.
فجأة، لمع وميض في الظلام الأزرق، وهبت ريح ساخنة على وجهها. صرخت تاليا. بدأ الوحش يزأر ويهتز بعنف.
أغمي عليها للحظة من شدة القوة التي كادت تقطع
خصرها.
أرخَت أطرافها بإرهاق شديد. فجأة، ارتفع جسدها في الهواء ثم بدأ يهوي.
بعد ثوانٍ، هزّها صدمة قوية، وغرق كل شيء في الظلام.
لم تكن تعرف إن كانت مستيقظة أم فاقدة للوعي. ربما ماتت. لكن الألم الهائل الذي اجتاحها نفى ذلك.
هلّت تاليا أنفاسها كحيوان يُذبح، وأطلقت أنينًا.
كان الألم شديدًا، لكنها لم تعرف مصدره بالضبط.
“آه… آه…”
حاولت الزحف بعيدًا عن الشيء الذي كان يضغط عليها دون وعي، لكنها لم تتحمل الألم المتزايد ودفنت جبينها في التراب البارد. شمّت رائحة دخان نفاذة، فرفعت رأسها بصعوبة.
رأت جسد الوايفرن المترهل في ظلام اعتادت عليه عيناها. أدركت تاليا، التي كانت تبكي برعب، أن الوحش مات، فأغمضت عينيها مرتبكة.
كأن النار التهمته، كان جناح الوحش محترقًا نصفه، وبدا أن النار لا تزال تحرق ساقه الخلفية المجردة من الحراشف.
حدّقت في المشهد بدهشة، ثم دعمت يديها على الأرض وحاولت رفع جسدها بصعوبة.
رأت صخرة كبيرة وأكوام تراب تسحق ساقها. يبدو أنها تدحرجت إلى أسفل منحدر أثناء السقوط.
‘يجب أن أخرج…’
حاولت تاليا تحرير ساقيها من تحت الصخور بيأس، لكنها سقطت مجددًا عاجزة عن تحمل الألم. لم يكن هناك جزء في جسدها لا يؤلمها: صدرها، كتفيها، ذراعيها.
هل كُسرت كل عظامها؟
كان ذلك ممكنًا. لم تفهم كيف لا تزال على قيد الحياة. أو ربما كانت تموت الآن.
نظرت حولها بعيون مليئة بالخوف.
خيم الظلام الدامس. هل هذا هو شعور أن تُدفن حيًّا؟ أصبح التنفس أصعب.
تمنت لو تفقد وعيها، لكن وعيها أصبح أكثر وضوحًا.
عاجزة عن تحمل الألم المتزايد، خدشت الأرض بأظافرها المحطمة. تدفقت دموعها بلا توقف.
“يؤلمني… يؤلمني كثيرًا… باركاس…”
لم تعرف لماذا نطقت باسمه. تذكرت صورته وهو يدير ظهره لها ويندفع نحو آيلا.
لم تكن أبدًا شخصًا مهمًا بالنسبة لباركاس. كان عليه دائمًا حماية آيلا وغاريس فقط.
شعرت بدموعها الحارة تبلل خديها.
“لا… لكنه سيأتي ليبحث عني.”
تمتمت كأنها تقنع نفسها. كانت ابنة الإمبراطور. شخص مثل باركاس، المسؤول، سيبحث عن جثتها على الأقل. لن يتركها هكذا.
تشبثت بهذه الفكرة، محدقة في الظلام المتزايد.
عندما خمدت الشرر على جلد الوحش، غرق العالم في الظلام.
لم يظهر أحد للبحث عنها، فأجبرت حلقها الجاف على النطق بصوت أعلى:
“لا بأس. لا بأس. سيأتي قريبًا. قريبًا…”
لكن صوتها غرق في بكاء مفاجئ.
عضت تاليا شفتيها وسدت فمها بيدها المرتجفة. لم ترغب في البكاء.
“إذا بكيت، سأعترف أن لا أحد سيبحث عني…”
دفنت عويلها الممزوج بالألم واليأس في أحشائها. كررت التمتمة. إذا انتظرت قليلاً، سيأتي باركاس بالتأكيد.
سيخرجها من هذا الوحل كما فعل ذات يوم.
بالتأكيد. بالتأكيد…
التعليقات لهذا الفصل " 44"