الفصل 42
خلال الأيام القليلة الماضية، كانت تاليا تراقب تلك المرأة بعيون متيقظة. رأتها الآن تتحرك بصمت بين الخيام.
حدّقت تاليا فيها بعيون متقلصة، ثم تبعتها بحذر.
كانت المرأة تتحرك ببراعة دون أن تجذب الانتباه، بخطوات هادئة وسريعة. لولا أن تاليا معتادة على حركات عائلة تارين المدربة، لكانت فقدتها بسهولة.
في غمضة عين، عبرت المرأة المخيم واختفت بين عربات الأمتعة الطويلة.
ترددت تاليا لحظة، ثم اقتربت بحذر من خلف إحدى العربات الكبيرة وألقت نظرة على الفجوة الضيقة بين العربات. لكن المرأة كانت قد اختفت.
نظرت تاليا حولها بوجه مرتبك، ثم تسللت بين عربات الأمتعة. فجأة، تعثرت قدمها بشيء.
‘ما هذا…؟’
انحنت تاليا واكتشفت قارورة زجاجية صغيرة تحت عجلة العربة، فعبست.
رفعتها لتتفحصها، لكنها شعرت بقطرات زلقة من سائل في فوهة القارورة تبلل أصابعها.
ألقت القارورة برعب، وقربت يدها من وجهها لتشمها.
رائحة زهور نفاذة ممزوجة بنكهة كريهة تشبه رائحة سوائل الحيوانات، فشعرت بالغثيان من الرائحة البشعة التي تسببت في دوار. عبست ومسحت السائل الغريب بمنديل، لكن الرائحة لم تتلاشَ.
‘يا للكارثة.’
ألقت المنديل المتسخ على الأرض واستقامت، لتجد ظلًا داكنًا يخيم فوق رأسها.
رفعت رأسها بسرعة وصرخت وهي تجلس على الأرض. كان باركاس ينظر إليها بوجه بارد.
“ما الذي تفعلينه في مكان كهذا؟”
حدّقت فيه بدهشة، ثم نهضت بسرعة.
منذ متى كان يراقبني؟
على الرغم من أنها لم ترتكب شيئًا بعد، كان قلبها يخفق بقوة. حاولت تظاهر بالهدوء وأطلقت صوتًا حادًا.
“أفزعتني! ما الذي تفعله تتسلل كالفأر؟”
“لم تجيبي على سؤالي بعد.”
تجاهل باركاس سخريتها وفك ذراعيه المتشابكتين، واقترب خطوة أخرى.
تراجعت تاليا، ثم رفعت حاجبيها.
“لماذا عليّ الإجابة؟ ما شأنك بما أفعله وأين أذهب؟”
حاولت الفرار، لكن باركاس تحرك بسرعة وقطع طريقها بجسده الطويل.
شعرت تاليا وكأنها محاصرة بين العربة وجسده، فنظرت إليه بعيون مضطربة.
“ما، ما الذي تفعله؟”
“إذا تركتك تتجولين وحدك، من يدري أي منظر قذر سأراه.”
تقلصت كتفاها عند نبرته الحادة.
نظر إليها باركاس بحدة، ثم تنهد وأشار بذقنه.
“سأرافقك إلى خيمتك، تقدّمي.”
“لا، لا حاجة. أستطيع…”
“هل هناك سبب يمنعني من مرافقتك؟”
أمسكت تاليا بمقبض السكين في جيبها دون وعي. كان تصرفًا غبيًا، كأنها تعلن أنها تخفي شيئًا.
عندما رأت عينيه تتقلصان، دفعت صدره بقوة بكلتا يديها.
“ما شأنك! ابتعد!”
دفعته بكل قوتها، لكنه لم يتحرك. كان جسده النحيل صلبًا كالحديد.
أخفت تاليا خوفها ورفعت ذقنها بتحدٍ.
“ألم تسمعني؟ ابتعد!”
نظر إليها باركاس بهدوء، ثم تراجع ببطء.
استغلت تاليا الفرصة وتسللت بسرعة بينه وبين العربة. حاولت الفرار، لكن يدًا قوية أمسكت بذراعها وأدارتها بحزم.
قبل أن تصرخ، اندسّت يده في جيب ردائها وأخرج السكين الحاد.
نظرت تاليا إليه بوجه شاحب. مرر باركاس أنامله على الشفرة بأناقة، ثم نظر إليها بعيون خالية من العاطفة.
كان بإمكانها القول إنها للحماية فقط. لكن عندما قابلت نظرته الحادة، التي بدت وكأنها تقرأ أفكارها، تحطمت رباطة جأشها.
اندفعت نحوه كطفل فقد لعبته الوحيدة.
“أعدها لي!”
رفع يده التي تمسك بالسكين عاليًا.
وقفت تاليا على أطراف أصابعها، وشدت زيه بقوة محاولة الوصول إلى يده.
“أعدها! أعدها، أقول!”
نظر إليها باركاس بوجه متصلب وهي تفقد رباطة جأشها، ثم ألقى السكين بعيدًا.
تهافتت تاليا لالتقاطها، لكن قبل أن تمسكها، ركلها حذاؤه الذهبي بعيدًا تحت العربة.
حدّقت تاليا في السكين وهو ينزلق، ثم انحنت لتلتقطه، لكن ذراعًا طويلة وقوية التفت حول خصرها ورفعتها بالقوة.
عبست تاليا بوجه غاضب ونظرت إليه بنظرة قاتلة. لكن باركاس بدا غاضبًا بنفس القدر.
“لن أسأل عما كنتِ تنوين فعله بهذا.”
اقترب من وجهها ونطق بكل كلمة بحدة. كان صوته المنخفض كشفرة حادة.
“من الآن فصاعدًا، سيكون هناك دائمًا من يراقبك. لذا، تخلّي عن كل الخطط الغبية التي تملأ رأسك الصغير.”
من أنت لتتحدث إليّ بهذه الطريقة؟
من أنت لتأخذ ما هو لي؟
من أنت؟
ستصبح زوج امرأة أخرى.
ستغادر إلى الأبد.
لماذا تجعلني أرغب في قتلها ثم تمنعني من فعل أي شيء؟
انسدت الكلمات المشوشة في حلقها.
أرادت أن تصرخ بالشتائم، لكنها إذا فتحت فمها، شعرت أنها ستبكي وتصرخ كفتاة في العاشرة، فأغلقت فكيها بإحكام.
نظر إليها باركاس بهدوء، ثم استقام وأشار بذقنه كي تسير أمامه.
حدّقت تاليا فيه بنظرة مليئة بالكراهية، ثم سارت بسرعة بين العربات. بدا أن تهديده بالمراقبة المستمرة لم يكن كلامًا فارغًا، إذ تبعها كالظل.
كانت تلك الخطوات، التي كانت تتوق إليها ذات يوم، مقززة الآن. لم يكن موجودًا عندما كانت تريده بجانبها، لكنه ظهر في اللحظة التي اتخذت فيها قرارها العظيم ليعيقها.
‘يحاول حماية آيلا…’
لا، ربما يحاول حماية غاريس.
لن يفهم سبب حملها للسكين. لن يخمن أبدًا لماذا تطحن أسنانها على أختها غير الشقيقة التي تتحمله بهدوء، بينما لا تهتم بأخيها غير الشقيق الذي يضربها كلما سنحت الفرصة.
أدارت رأسها لتنظر إلى المخيم الذي بدأ الظلام يخيم عليه.
آيلا الآن تستمتع بوقتها، محاطة بمن يحبونها، تفكر في مستقبلها السعيد القادم.
عندما تخيلت وجهها المشرق، غلت أحشاؤها المتعبة أصلاً. امرأة منافقة. تملك كل شيء، لكنها تنظر إليّ دائمًا بعيون حزينة، ووجه بائس. كل شيء فيها مقزز.
“أريد قتلها حقًا.”
بينما كانت تفكر هكذا وتعض شفتيها المتقشرتين، أمسكها باركاس فجأة ودفعها بعنف إلى الخلف.
نظرت إليه بعيون مرتعبة.
للحظة، ظنت أنه قرأ أفكارها، فغاص قلبها. لكنه لم يكن ينظر إليها.
تبعت عينيه الجادتين نحو السماء، وشهقت بقوة. كان شيء بحجم منزل يهبط بسرعة مرعبة. قبل أن تدرك ماهيته، هزّ صوت ارتطام مدوٍ الأرض وتصاعدت سحابة من الغبار.
التعليقات لهذا الفصل " 42"