الفصل 40
أخرج معطف فرسانه الذي كان قد وضعه جانبًا، نفض عنه الغبار، ثم ارتداه فوق درعه المصنوع من الأورِيهايْلكون اللامع بلون الذهب. كان الـ”تابارد” الذي صُنع خصيصًا من قِبل جنّيات الغابة مطرزًا بشعار الكأس الذهبية المشتعلة، بلغة قديمة غامضة، ومحميًا بتعويذات سحرية تحصنه من أي ضرر مهما كانت قوته. ومع ذلك، بدا أن السحر يعجز عن إزالة التجاعيد.
ربّت على أطراف المعطف المجعدة، ثم نظّف الغبار العالق على حذائه المعدني ونهض واقفًا.
ما إن أنهى تجهيز نفسه وخرج من خيمته، حتى ملأ الضباب الرمادي السماء أمامه. كانت الرياح تعصف بشدّة منذ الظهيرة، مما ينبئ بقرب هطول أمطار مفاجئة.
قطّب إيدريك حاجبيه، تناول عباءته الواقية من المطر، واتجه نحو خيمة تالْيا. وفي تلك اللحظة، دوّى صوت الجرس المقدّس معلنًا بداية الطقوس.
استدار بسرعة فرأى ولي العهد والأميرة الكبرى، وقد أتما استعداداتهما، يقودان حاشيتهما نحو مدخل المعبد.
سارع إيدريك يعبر المعسكر. ولدى مروره بين الأعمدة الضخمة المنحوتة، ودخوله عبر البوابة المقوسة، انكشفت له صورة المعبد الداخلية الغارقة في ضوء أزرق باهت.
توقف لحظة، ناظرًا إلى الحاضرين. الصفوف كانت ممتلئة بالمرافقين، وعلى امتداد الجدران اصطف الفرسان بهدوء.
وقف ولي العهد والأميرة الكبرى أمام المذبح، على ما يبدو يتلقيان بركة رئيس الكهنة قبل بدء المراسم.
وبينما كان إيدريك يضرب الأرض بقدمه بتوتر، لمح السير شيوركان واقفًا في التقاطع ينتظر، فسارع بالعبور إليه.
“سيدي القائد، التحضيرات الخاصة بالأميرة الثانية شارفت على الانتهاء. هل بإمكانكم الانتظار قليلًا؟”
اقترب منه وقال ذلك بتحفّظ، فما كان من القائد إلا أن رمقه بنظرة هادئة جعلته يحبس أنفاسه.
لم يكن باركاس مرتديًا زيه الرسمي كقائد للفرسان، بل ارتدى “دوبليت” أسود اللون، وعليه درع صدر يحمل شعار عائلته، وعلى كتفه عباءة فريدة التصميم. كان مظهره مهيبًا إلى درجة أن حتى إيدريك، وهو رجل، وجد فيه شيئًا مهيبًا يبعث على القشعريرة. وتذكّر فجأة كلمات الأميرة التي وصفته فيها بالقبح. نشأتها وسط رجال مثل هذا الرجل يفسر سبب ازدرائها للآخرين.
تشتّت ذهنه بهذه الفكرة، لكن قائده الذي كان يرمقه بصمت، أطلق زفرة خفيفة وسار ببطء نحو المذبح.
“يبدو أننا مضطرون لإيقاف الطقوس. سمو الأميرة الثانية قررت المشاركة.”
رئيس الكهنة، الذي كان يردد أدعية البركة، توقف فجأة، وقد ارتبك وهو ينظر بين باركاس وإيدريك الواقفين.
كفرد من العائلة المالكة، كانت تالْيا ملزمة بحضور الطقوس. فإن أعلنت رفضها فربما يكون ذلك مختلفًا، لكنها عبّرت عن رغبتها بالمشاركة، وكان من الطبيعي الاستجابة لذلك. ومع ذلك، لم يجرؤ الكاهن على الرد مباشرة، ونظر بتوتر نحو ولي العهد.
“أتقصد… أن ننتظر تلك اللقيطة؟” قالها ولي العهد بكلمات باردة، يحدّق في باركاس بغضب.
“ابدأوا الطقوس فورًا! لن أضيع ثانية واحدة بسببها!”
تجمّد وجه إيدريك. كان يعلم مدى كراهية ولي العهد لأخته غير الشقيقة، لكنه لم يتوقع أن يُظهر رفضه بهذه العلنية أمام الجميع. ألم يكن حضورها جزءًا من أوامر الإمبراطور نفسه؟
بتردد، فتح فمه:
“سموها أميرة مُعترف بها رسميًا من قبل الإمبراطور. وبحسب الأعراف، فهي تملك الحق في نيل بركة القديسين.”
انتقل نظر ولي العهد إليه، بعينين تشتعلان غضبًا.
ابتلع إيدريك ريقه بصعوبة، بينما يقترب ولي العهد منه بخطى بطيئة كوحش مفترس.
“هل تعرف حتى من تُخاطب؟”
“أعتذر، سمو الأمير… لم أقصد…” تمتم وهو ينحني.
لكن فجأة، شعر بقبضة تخنقه من عند الياقة. كان غاريس قد أمسكه من عنقه وجذبه نحوه بعنف.
حاول إيدريك ألا يتجهم وهو يحدّق مباشرة في وجه الأمير الغاضب. ويبدو أن ذلك أغضب الأمير أكثر، فزمجر بغضب حيوان جريح:
“أتحاول تلقيني درسًا أيها الفارس التافه؟”
“أنا… آسف…” قالها بصعوبة وهو يقبض يده بقوة كي لا يحاول دفعه.
في تلك اللحظة، وضع باركاس يده بهدوء على كتف ولي العهد.
“سمو الأمير.”
مع صوت باركاس المنخفض العميق، تصلّب جسد غاريس. لاحظ إيدريك ارتباكًا طفيفًا على وجه الأمير، وكأنه شعر بالخزي لأنه سمح لنفسه بالتراجع ولو للحظة.
أطلق غاريث سراح إيدريك ونظر بغضب إلى باركاس.
“كم مرة قلت لك ألا تلمسني دون إذني؟ أتظنني سأتحملك إلى الأبد؟”
أبعد يد باركاس عن كتفه بخشونة، وقرّب وجهه منه مهددًا، كأنه يوشك على الانقضاض عليه. تحرّك الفرسان وبعض من الحاشية، وحتى الأميرة الكبرى، لردعه.
وفجأة، دوّى صوت أنثوي بارد كحبات الجليد عبر أرجاء المعبد:
“لو كنت أعلم أن هناك عرضًا ممتعًا كهذا، لحضرت المراسم السابقة أيضًا.”
استدار الجميع بتوتر، وإذ بهم يرون تالْيا، تمشي ببطء يتبعها عدد من الوصيفات، متجهة نحو المذبح.
إيدريك شهق بصمت، ولم يستطع أن يشيح ببصره عنها.
كانت ترتدي زينة كاملة تليق بمقامها، تمشي بخطى واثقة، وفي ضوء الشمس الذي تسلل من النوافذ، انعكس جمالها المتجمّد في هيبة، وكأنها طيف من الماضي، صورة طبق الأصل عن والدتها الإمبراطورة الراحلة.
حتى من في المقاعد، كلهم تجمّدوا ينظرون إليها، بمن فيهم إيدريك. ثم ألقى نظرة على ولي العهد والأميرة الكبرى. كان وجه غاريث غارقًا في الحقد، بينما بدت الأميرة الكبرى هادئة ظاهريًا، لكن قبضتيها المشدودتين بلونها الشاحب فضحتا توترها.
شعر إيدريك بتلك التوترات تتصاعد، فتقدّم ليقف بجانب الأميرة الثانية. لكن لا أحد من الحاضرين انتبه له، سوى تاليا التي رمقته بنظرة سريعة قبل أن تعود بعينيها نحو باركاس وغاريث.
“ما الأمر؟ ألم تكونا على وشك الاشتباك؟ لمَ التردد؟”
انسحب غاريس ببطء عن السير شيوركان، ثم راح يتفحّص أخته من أعلى رأسها حتى أسفل قدميها، وابتسم بسخرية:
“لا أدري لمن تحاولين أن تتجمّلي، لكن لا تظني أن المظاهر قادرة على إخفاء أصلك الدنيء.”
ردّت تاليا بابتسامة تحمل نبرة خفية:
“قبل أيام فقط انتقدتِ ملابسي، لذا فكّرت أن أرتب مظهري اليوم خصيصًا. ألا ترى أنه من الظلم أن تقول هذا الآن؟”
اقتربت منه أكثر، ونظرة المشاكسة في عينيها تزداد.
إيدريك شهق مجددًا في داخله. رغم ما جرى لها بالأمس، ها هي مرة أخرى تثير الأمير دون تردد.
ثم همست له بنبرة ناعمة:
“لقد تعبت كثيرًا لأبدو على ذوقك تمامًا، أتعلم؟”
التعليقات لهذا الفصل " 40"
انت اسطورية… بالفعل