كما هو متوقع من شخص يكره لفت الأنظار دون داع، أوقف بيد واحدة خادمه الذي همّ بمناداة اسمه، ثم بدأ ينزل الدرجات بهدوء وأناقة.
لكن رغم حرصه على عدم التميز، سُلِّطت عليه كل الأنظار. حتى حضور ولي العهد بدا باهتًا مقارنةً بظهوره.
تأملت تاليا ملامحه بشغف، تمعنته من رأسه حتى أخمص قدميه.
كان يرتدي الزي الرسمي للحرس الإمبراطوري، كما اعتاد دومًا. غير أن تفصيلة واحدة ميزته اليوم: بدلًا من درعه الذهبي الذي يرمز إلى فرسان رويم، كان يرتدي درعًا أسود مطرزًا بشعار الحصان الأسود – رمز دوقية شيركان.
وهذا يعني أنه حضر بصفته وريث دوقية شيركان وخطيب إيلا.
كما توقعت تاليا، توجه باركاس مباشرة نحو وسط القاعة، حيث كان يجلس غاريس وإيلا.
“تحية لولي العهد.”
قالها لولي العهد بأدب دقيق لا يزيد ولا ينقص، ثم التفت إلى إيلا التي كانت تبتسم بخجل.
أصاب تاليا رجفان في أطراف أصابعها، واشتدت قبضتها على الكأس حتى ابيضّت مفاصلها من شدة الغضب.
حين مد باركاس يده نحو “الأميرة الشرعية”، وضعتها إيلا في يده برقة. في تلك اللحظة، شعرت تاليا بألم يمزق أحشاءها.
لا تلمسها. لا تلمس باركاس!
أرادت أن تصرخ بذلك رغم أنها لا تملك أي حق. لكنها لم تسمح لنفسها بإظهار انهيارها، فعضّت شفتيها لتكبح غضبها.
“ربما من الأفضل أن تغادري القاعة الآن؟”
قال الرجل الجالس بجانبها وهو يراقب وجهها بقلق. كان يبدو كمن يستمتع بالفوضى، غير أن كلماته أعادتها إلى رشدها. لم تأتِ إلى هنا لتخرج منهزمة ومذلولة.
تماسكت تاليا، ورفعت رأسها، ثم مشت بخطوات أنيقة نحو وسط القاعة. تنحّى الجميع جانبًا حين رأتهم يحيطون بولي العهد، والأميرة الأولى، ونبيل الشرق.
من الواضح أنهم يتوقّعون مشهدًا مثيرًا. وتاليا كانت تنوي ألّا تخيّب ظنهم.
“مرحبًا، أخي العزيز… وأختي الغالية.”
تجاهلت وجود باركاس تمامًا، وألقت التحية ببطء على الاثنين فقط. كانت تعرف أنها لو نظرت مباشرة في وجه باركاس، لفقدت السيطرة على نفسها.
أبقت عينيها مثبتتين على إيلا، وقالت بنبرة ساخرة:
“يبدو أنكِ استعدتِ عافيتك. أتذكرين؟ آخر مرة لم تكوني في أفضل حال.”
“شكرًا لاهتمامك.”
قالتها إيلا بابتسامة دافئة، خالية من أي أثر للغضب.
شعرت تاليا بقشعريرة.
من المستحيل ألا تكون عرفت أنني سممت كأسها. ومع ذلك، لم يكن في نظرتها أي حقد أو غضب. وكأنها كانت تنظر إلى شيء تافه – كأس، طبق، أو حتى شمعدان.
شعرت تاليا بندم قاتل.
كان عليّ أن أضع لها سماً حقيقيًا، لا مجرد مُقيء. حتى لو واجهت العقوبة القصوى، حتى لو احترقت بنيران الجحيم…
بجانب إيلا، بدا غاريس – الذي لا يخفي غضبه – أكثر “إنسانية” على الأقل.
“ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟”
قالها غاريس وهو يقترب منها، يضغط أسنانه ويحدّق فيها بازدراء.
“وبهذا المظهر الوقح! هل أمرتك أمك، تلك العاهرة، بأن تغوي رجالي؟”
“وقح؟ هذا كثير.”
ابتسمت تاليا وهي تنشر تنورتها أمامه.
“هذه الفستان تحديدًا… هو ما كانت أمي ترتديه يوم التقت بجلالة الإمبراطور لأول مرة. فستان له معنى كبير.”
ساد القاعة صمت ثقيل.
اشتعلت عينا غاريس بنار الغضب. لكن تاليا كانت تعشق اللعب بالنار.
“أعتقد أن والدنا أحبه كثيرًا… أليس كذلك؟”
ارتفع كتف غاريس وكأنه يهم بصفعها.
لكن إيلا، الحكيمة، لم تسمح بذلك. وضعت يدها برفق على ذراعه لتوقفه، ثم التفتت إلى أختها غير الشقيقة وابتسمت ببراءة.
“بالفعل. يليق بك كثيرًا.”
لم يكن في صوتها أي خبث. فقط كلمات هادئة، وكأنها تقرّ بحقيقة مرئية، وهذا ما أثار غيظ تاليا أكثر من أي شيء.
ربما كانت إيلا تعتبر الرد على استفزازات “الابنة غير الشرعية” أمرًا يقلّل من شأنها.
ثم نظرت إيلا إلى توأمها غاريس نظرة مهدئة، وتقدّمت نحو خطيبها. مالت برأسها على كتفه، وقالت بوجه يفيض سعادة:
“شكرًا لقدومك. هذا اليوم مهم جدًا… لي أنا على وجه الخصوص. أردت أن يحتفل أكبر عدد ممكن من الناس معي.”
وضعت يدها الرقيقة على ذراع باركاس، الذي ظل واقفًا بصمت.
نظرت تاليا إلى تلك اليد وكأنها تريد أن تمزقها إربًا. لم تجرؤ على رفع عينيها. خشيت أن ترى باركاس يبتسم لإيلا.
ثم قالت إيلا بصوتها الناعم:
“لقد تحدد أخيرًا موعد زفافنا الرسمي. سيكون مع بداية فصل الرياح. سأغادر إلى الشرق لأصير فردًا من آل شيركان. وقبل ذلك، سأذهب في رحلة الحج للحصول على بركة القديسين. لا بد أن أرحل قبل اشتداد الحر. لذا… قد يكون هذا اللقاء الأخير بيننا.”
تظاهرت بالحزن.
“من حسن الحظ أننا التقينا اليوم. على الأقل وداعًا أخيرًا.”
ثم استندت على باركاس وقالت بلطف:
“استمتعي بالاحتفال، واحتفلي لأجلنا.”
ابتسمت إيلا بود، ثم التفتت، لكن تاليا لم تستطع كبح نفسها.
“بما أنه اللقاء الأخير… دعيني أبارك مستقبلكِ.”
وبخطوة واحدة اقتربت من إيلا. وما إن فعلت، حتى امتدت ذراع أمامها، وكأن باركاس يحاول حماية خطيبته.
اشتعل وجه تاليا غضبًا.
لكنها لم تتوقف. قبل أن يحول باركاس بينها وبين إيلا، سكبَت كأس النبيذ على صدر إيلا.
الخمرة الحمراء انسابت على الفستان الأبيض المطرز باللآلئ، ملوثةً إياه بلون الدم. وكأن أحدًا طعنها في القلب.
قالت تاليا:
“سأدعو كل يوم أن تصبحي هكذا يومًا ما.”
شهق الجميع من بشاعة ما قالته.
حتى وجه إيلا، الذي بقي طوال الوقت هادئًا، شحب بشدة. بدا عليها الذعر الحقيقي، وكان منظَرها مضحكًا لتاليا لدرجة أنها كادت تنفجر ضاحكة.
لكن النشوة لم تدم.
قبضت يد قوية على معصمها وسحبته بعنف. فاضطرت تاليا أخيرًا إلى مواجهة الرجل الذي حاولت تجاهله طوال الوقت.
عيناه الزرقاوان اللامعتان كانت تشعّان بغضب جليدي، تحدق فيها بثبات قاتل.
التعليقات لهذا الفصل " 4"
ذي فجرتها
ويييييه
I have seen this movie before.
تف
Oh shit here we go again