الفصل 38
“اتركني!”
ركلت تاليا ساقه بقوة، لكن غاريس لم يكن غبياً ليتلقى نفس الضربة مرتين. تفاداها بسرعة، وأمسك بذراعها بعنف، ثم ضحك بوقاحة على وجهها.
“لم أكن أصدق فعلاً… أن شوكة العائلة المالكة تكنّ مشاعر لنبيلٍ من الشرق!”
رفعت تاليا عينيها المرتعبتين إليه، وكأن دماءها قد تجمّدت. لكنها تمالكت نفسها بسرعة وأعادت إلى وجهها رباطة الجأش.
“كفّ عن الهراء… من قال إنني—”
“بالضبط، مجرد هراء. فتاة لقيطة تطمع بوريث دوقية شيوركان؟ أنتِ لا تعرفين حجمك!”
ضحك غاريس بقوة، سعيداً لأنه أمسك نقطة ضعف أخته التي لطالما كانت شوكة في حلقه. ثم أمسك بذقنها، وزفر أنفاسه النتنة من أثر الشراب في وجهها.
“الدم لا يُنكر. ما عساها تكون فتاة لعوب تطمع برجل لا يخصها؟”
نظرت إليه تاليا بنظرات مشتعلة. نظر إليها بازدراء وهو يضحك، ثم دفعها عنه. وقال وهو يضحك بسخرية:
“من الأفضل أن تصحي من أحلامك. فباركاس رجل لا يمكن لأمثالك الوصول إليه…”
لكنها قاطعته ببرود قاتل:
“نسيتَ شيئاً يا أخي… فأنا لا أحمل فقط دم امرأة لعوب، بل أيضاً دم رجل خان زوجته الحامل ليطارد فتاة شابة.”
اختفى الابتسامة من وجه ولي العهد في لحظة.
ورفعت تاليا رأسها لتكمل ببطء، وهي تحدق في وجهه المشوه بالغضب:
“وتلك الدماء، أليست تجري في عروقك أيضاً؟”
توترت عضلات جسده الضخم بشكل واضح.
كانت تعلم أنها يجب أن تتوقف هنا، لكنها لم تكن لتقبل أن تنتهي المواجهة وقد كشفت ضعفها فقط. ابتسمت ابتسامة مماثلة لما فعل قبل قليل، وهمست:
“بما أنك اكتشفت سري… فربما آن الأوان لأكشف أنا سرك أيضاً؟”
ظهر القلق في عيني غاريس للحظة، وتاليا، التي كانت تستمتع بالمشهد، اقتربت وهمست في أذنه:
“هناك شائعة بين الخادمات… تقول إن ولي العهد لا ينام إلا إذا كانت المرأة تملك شعراً كالعسل الداكن، وعينين كزرقة البحر.”
شحبت ملامح وجهه البرونزي على الفور.
وابتسمت تاليا بمكر قائلة:
“أعتقد أنني أعرف من كانت الفتاة التي رأيتها في حلمك يوم فقدت عذريتك لأول مرة… هل تريد أن أُخمن؟”
اهتز جسده بعنف وكأنه صُعق بالكهرباء. أدركت أنها تجاوزت الحد، وربما تقتل هذه المرة، لكن كما دائمًا، استسلمت لصوت الشيطان بداخلها.
“لا تقلق، أنا أخت طيبة. لن أفشي سرك… فقط سأحتفظ بمعلومة أنك وريث أبٍ تجرى في عروقه نفس الدماء القذرة.”
وقبل أن تُنهي كلامها تماماً، تلقت صفعة عنيفة جعلت رأسها يدور جانبًا.
سقطت تاليا على الأرض، تمسك وجهها الذي احترق كأن النار قد اشتعلت فيه. ارتجّ بصرها، ودوّار شديد ضرب رأسها. وبينما كانت تحاول الوقوف، انقض عليها غاريس وخنقها بكلتا يديه. كادت عيناها تخرجان من محجريهما.
قاومت تاليا بكل ما أوتيت من قوة. خدشت ذراعيه بأظافرها وركلته بجسدها الواهن، لكن جسدها المرهق لم يسعفها.
وفي النهاية، تراخت أطرافها تماماً، وعندها فقط، خفف قبضته عن عنقها فجأة.
بدأت تسعل بجنون، تحاول التقاط أنفاسها، ومن خلال دموعها، رأت باركاس ممسكًا بذراع غاريس ويمنعه من الاستمرار.
نقل باركاس نظراته من تاليا إلى غاريس، الذي لا يزال يحدق بأخته بنية القتل، وجهه يقطر بالغيظ والخذلان. ضحكت تاليا بخفة وسط سعالها، من فرط السخرية من تمثيل غاريس لدور الضحية.
أحمر وجهه غاريس ورفع قبضته:
“سأقتلك أيتها الحقيرة—!”
لكن تلك القبضة لم تصل إليها.
باركاس أمسك بذراعه كأنها معصم طفل، وصرخ غاضبًا في وجهه، ثم نظر إلى الجنود الواقفين مصدومين:
“خذوا سمو الأميرة إلى جناحها.”
اقترب أحد الحراس وأراد مساعدتها، لكنها أبعدته بقسوة، ووقفت متهادية. صفّت ملابسها بتأنٍ كما لو أن شيئاً لم يحدث، وغاريس يصرخ في باركاس:
“أطلقني حالًا!”
“توقف عن هذا الجنون!” صرخت آيلا من بعيد. وجهها شاحب من هول ما رأت.
اقتربت من شقيقها وقالت بحدة:
“هل جننت؟ أنت ولي عهد هذه الإمبراطورية! كيف تفعل شيئًا كهذا؟!”
“أنتِ لا علاقة لك!” زأر كوحش مفترس.
ارتجفت آيلا وتراجعت، مصدومة من شقيقها الذي كان دومًا لطيفاً معها. فنظرت إليها تاليا بسخرية:
“نعم، أختي، ابتعدي عن شؤوننا.”
ضاق بريق عيني آيلا الزمرديتين، لكنها جمدت في مكانها عندما رأت حال تاليا، التي مسحت خدها المتورم وقالت بابتسامة خبيثة:
“مجرد شجار أخوي، أليس كذلك… يا أخي العزيز؟”
صرير أسنانه كان كفيلاً بالإجابة.
تقدمت نحوه، رغم محاولة الحارس منعها، ورفعت عينيها إلى عينيه:
“نحن قريبان لدرجة أن بيننا أسرار، أليس كذلك؟”
كان وجهه محمّرًا للغاية، كأنه سينفجر في أية لحظة. لكن يبدو أنه لم يشأ فضح نفسه أمام شقيقته، فتنهد وقال بصوت مبحوح:
“…أبعد يدك عني.”
أطلق باركاس سراحه أخيرًا، وظهرت علامات أصابع واضحة على جلده الأسمر. تمتم غاريس بشتائم في سره، ثم استدار وعاد إلى المخيم، يشبه المهزومين تماماً.
ضحكت تاليا من المشهد، لكن نظرات باردة سريعة أوقفتها. رفعت رأسها، ووجدت باركاس يحدق بها بتعبير بارد خالٍ من أي عاطفة.
لكنها رأت بوضوح الغضب والاشمئزاز في عينيه.
أمسكها من ذراعها وأشار للحارس:
“رافِقوا صاحبة السمو إلى جناحها.”
ثم انحنى قليلًا لآيلا التي وقفت متيبسة، وسحب تاليا وراءه بين الأشجار.
قطّبت تاليا وجهها بغضب.
هي أميرة الإمبراطورية، لا يحق لخادم مثل باركاس أن يجرّها كما لو كانت كلباً!
سحبت ذراعها بعنف:
“أيها الوقح! أطلقني فوراً—!”
لكن فجأة، شعرت بجسدها يُرفع عن الأرض.
صرخت وهي تجد نفسها محمولة على كتف باركاس كأنها حقيبة لباركاس الذي تجاهل كل النظرات من حوله، وشق طريقه عابراً الخيام بثبات.
تاليا كانت تتلوّى كوحش مسعور، ووجهها محمرّ بالكامل من الغضب. راحت تضربه بقبضتيها على ظهره وكتفيه بلا هوادة، وتركله بعنف، لكن رغم كل ذلك، لم يتحرك باركاس قيد أنملة.
التعليقات لهذا الفصل " 38"