الفصل 37
لم تجد تاليا ما تقوله لتبرر موقفها، واكتفت بتحريك شفتيها دون صوت. كانت ترغب في التظاهر باللامبالاة كما اعتادت، لكنها كانت مستنزفة جسديًا ونفسيًا، فلم تسعفها أفكارها.
سحبت غطاء الرأس لتُخفي وجهها المرتبك بسرعة، ثم حاولت تجاوز أخيها الذي وقف عند المدخل، لكن غاريس أمسك بمعصمها بسرعة.
“سألتك، لماذا كنتِ تفتشين خيمة باركاس؟”
“اتركني!”
حاولت أن تفلت ذراعها بقوة، لكن يده كانت كالغراء، لم تتحرّك.
شدّها بعنف وهو يزمجر مثل ذئب غاضب،
“ماذا كنتِ تحاولين فعله؟”
عضّت تاليا شفتها من شدّة قبضته،
ما أقساه، كل قوته عضلات فارغة!
فجأة، ركلت ساقه بقوة دون رحمة. وبما أنه لم يكن مرتديًا درعًا، قفز غاريس متألمًا وهو يشتم.
استغلت تلك اللحظة وسحبت ذراعها منه، ثم خرجت من خيمة باركاس وركضت بكل ما أوتيت من طاقة.
خلفها، سُمعت أصوات تحطم أشياء، وكأن غاريس يطاردها بعنف. لكنها لم تلتفت، وركضت بين الخيام بلا توقف.
سرعان ما لمحت عربتها، فاندفعت إليها وقفلت الباب بإحكام، ثم جلست في زاوية منها وهي تتنفس بصعوبة.
بدأ القلق يتسلل إليها…
ماذا لو حاول غاريس تحطيم العربة في نوبة غضب؟
لكن مرت دقائق دون ضجيج. يبدو أنه استسلم بسبب وجود الناس حولهم.
تنفّست الصعداء ودفنت وجهها بين ركبتيها. ثم ما لبثت أن شعرت بالاشمئزاز من نفسها، فقد تصرفت كالأحمق.
لماذا فقدت السيطرة عليه فجأة؟ لماذا اهتممت إن كان بخير؟
وأسوأ من ذلك، أنها أظهرت مشاعرها أمام غاريس!
هل يمكن أن يكون قد لاحظ شيئًا؟
عضّت تاليا شفتها بقلق، ثم نظرت بحذر من النافذة.
رأت الفرسان وهم يفككون الخيام، ولم يبدُ أنهم لاحظوا ما حدث.
اقتربت أكثر من النافذة، تمعّنت، ثم أسدلت الستائر مجددًا.
مع بزوغ الفجر، بدأ الفرسان يمتطون خيولهم ويصطفّون. من بينهم، ظهر باركاس، يتفقد الصفوف كعادته. تاليا، التي كانت تراقبه من خلف الستارة، اختبأت بسرعة عندما اقترب من عربتها.
هل سمع شيئًا من غاريس؟ هل سيواجهني؟
راحت تبحث في ذهنها عن مبررات مقنعة، لكن باركاس توقّف قليلًا، قال شيئًا للفرسان، ثم عاد إلى المقدمة.
ارتخت كتفاها بارتياح.
ثم دوّى صوت أحد الحراس:
“سننطلق الآن، يا مولاتي.”
لم ترد. ويبدو أن الحارس لم يكن يتوقع ردًا، فانسحب بصمت، وسرعان ما تحرّكت العربة.
تاليا اتكأت إلى الخلف، نظرت إلى السماء من بين الستائر، وهي تبهت تدريجيًا إلى بياضٍ باهت.
وهكذا، يبدأ يوم ممل جديد… دون أن يحدث أي شيء.
—
بدأوا السير مع بزوغ الفجر، لكنهم توقفوا قبل غروب الشمس بقليل.
فقد نفد صبر غاريس، وأعلن من تلقاء نفسه أنهم لن يتقدموا أكثر اليوم.
صحيح أن باركاس هو القائد الأعلى للحملة، لكن من يجرؤ على مخالفة وليّ العهد؟
وهكذا، بتغاضٍ من باركاس، نصبوا مخيمهم على بُعد بسيط من التلة الثانية المقدسة، “أولغرام”.
كان الجنود مستائين، فهم يفضلون الخروج من السهول في أسرع وقت ممكن، لكن تاليا رأت في ذلك فرصة جيدة. فقد كانت مرهقة تمامًا من الجوع والسفر في العربة المهتزة طوال اليوم.
تمدّدت فوق المقعد، تحدّق بعينين متعبتين في السقف، عندما سمعت صوتًا مألوفًا من الخارج.
“مولاتي، جلبت بعض الفاكهة.”
زمّت تاليا جبينها، غير مصدقة أن هذا الفارس عاد مجددًا بعد أن طردته أمس.
ما قصده؟ لماذا يلحّ عليّ بهذا الشكل؟ هل يخطط لشيء؟
أجابت بحدة:
“اختفِ من أمامي.”
“قلتِ إنك لا تأكلين شيئًا إن لم تكوني واثقة مما فيه، أليس كذلك؟ هذه فواكه طازجة غير مصنعة، لن تضر.”
لم ترد. وعندها، وبوقاحة، فتح الحارس باب العربة وقرّب منها صينية فضية مليئة بالفاكهة.
“أخشى أن يتحوّل هذا الموكب إلى جنازة حقيقية، أرجوكِ، توقفي عن العناد وكلي شيئًا.”
نظرت إليه بصدمة، ثم أزاحت نظراتها إلى الصينية. تفاح ناضج، برقوق، وعنب أخضر.
تمتمت بصوت منهك:
“كيف أعلم أن القشر ليس مدهونًا بالسم؟”
أي شخص آخر كان ليستسلم، لكن الحارس لم يتحرّك. تنهد، وأخذ تفاحة من الصينية، ثم قضم منها قطعة كبيرة، وأراها لها.
“هل اطمأننتِ الآن؟”
“هل تمزح؟ أتأمل أن آكل ما قضمته أنت؟ قذر! أبعدها عني!”
بدت عليه ملامح الانزعاج وكأنه يريد خنقها، لكنها تجاهلته وأدارت ظهرها.
كانت تتضوّر جوعًا، لكنها لم تكن قادرة على ابتلاع طعام لمسته أيدٍ غيرها. ستتقيأه على الفور.
“كفى، لا تزعجني واغرب عن وجهي.”
“هل لا تعرفين غير كلمة ‘اغرب’ يا مولاتي؟”
بدأت كلماته تتخطى الحدود، فاشتعل غضبها.
نهضت واقفة بسرعة. داهمها الدوار للحظة، لكنها تماسكت، رافضة أن تظهر ضعفها.
وحين اتضحت رؤيتها، خرجت من العربة متجاهلة نظرات الحارس القلقة.
كانت السماء قد بدأت تصطبغ بلون برتقالي باهت. نظرت تاليا إليها للحظة، ثم تحرّكت بعيدًا نحو طرف المعسكر، هربًا من العيون المراقبة.
أحتاج إلى مكان هادئ، وحدي.
لكنها تعلم أن الحرس سيتبعها إن ابتعدت كثيرًا.
فكّرت قليلًا، ثم اتجهت نحو غابة كثيفة قريبة من عربات الإمداد، على مسافة مناسبة تتيح رؤيتها دون اقتراب.
استندت إلى شجرة ضخمة، وتنفست الهواء البارد بعمق. لا تعلم كم بقيت هناك، لكن ضحكة خافتة صدحت قريبًا منها.
فتحت عينيها بسرعة.
لم تكن الوحيدة التي أرادت الابتعاد. بين أشجار التنوب، رأت آيلا تمشي بخفّة.
تغيّرت ملامح تاليا على الفور. كانت مستنزفة تمامًا، ولم تحتمل رؤية ذلك الوجه السعيد.
همّت بالرحيل، لكنها حين خطت خطوة، وقع بصرها على شخص كان خلف الشجرة… باركاس.
الرجل الذي، حتى هذا الصباح، كانت تدعو فقط أن يكون حيًا.
كان يسير بهدوء خلف آيلا، ممسكًا بلجام حصانه بيد واحدة، وملامحه هادئة على غير العادة.
طالما اعتادت رؤيته عبوسًا، متجهّمًا، حتى صدمها هذا الوجه المسالم.
هل يبدو هكذا دائمًا حين يكون معها؟
تابعته بعينين مذهولتين. ثم شدّت آيلا ذراعه، ورفعت رأسها على أطراف قدميها.
فهمت تاليا ما كانت تريده منها… فتوقّف نفسها.
لا، لا أريد رؤية هذا…
لا أريد مشهدًا سيتكرر في ذهني مدى الحياة.
رغبت في إغلاق عينيها، لكن لم تستطع التوقف عن النظر إليهما.
ربما، كانت تأمل أن يرفضها.
لكن باركاس… استجاب لرغبتها ككلب وفيّ.
رأت تاليا أنه انحنى نحوها، فما كان منها إلا أن استدارت وبدأت بالركض. لكنها لم تكد تبتعد كثيرًا حتى أمسك بها أحدهم.
رفعت عينيها بدهشة، لتجد غاريس وقد احمرّ وجهه كمن شرب الخمر، وهو ممسك بذراعها يحدّق فيها بثبات.
تحت نظرته التي بدت كأنها تراقبها عن كثب، سارعت تاليا إلى خفض رأسها. لكنها كانت قد كُشفت بالفعل؛ فقد لمح الدموع المتجمعة عند طرفي عينيها.
“لا تقولي إنكِ…”
تمتم غاريس ضاحكًا بسخرية.
حاولت تاليا الإفلات منه بعنف، وهي تلوي ذراعها بقوة، لكنه لم يتحرك قيد أنملة.
كان يحدّق بوجهها، وكأن ملامحها المضطربة كانت مشهدًا نادرًا يستحق التأمل، ثم انفجر ضاحكًا بصوت عالٍ.
“أهذا ما في الأمر إذًا؟”
التعليقات لهذا الفصل " 37"