الفصل 34
لكن الباب لم يتحرك قيد أنملة.
شدّت تاليا المقبض عدة مرات، ثم سرعان ما أدركت أن أحدهم أقفل الباب من الداخل، فعضّت على شفتيها بغيظ.
“اللعينة آيلا…”
الغضب الذي كتمته طوال الليل كان على وشك الانفجار.
حدّقت في الباب المغلق بينما كانت تلوك شفتها المتشققة بدم متجلّط، ثم أدارت جسدها مبتعدة.
ربما كان هذا أفضل. لو تصرفت بتهوّر ودون تخطيط وفشلت، لدفعت الثمن وحدها.
لا بد من الإعداد الجيد قبل التنفيذ. لا يزال الطريق طويلاً، وسيأتي الوقت المناسب عاجلًا أم آجلًا.
استعادت تاليا هدوء أنفاسها وغادرت الممر بخطوات سريعة. وبينما كانت تنزل الدرج متجهة لغرفتها، سمعت صوت خشخشة من مكان ما.
فزعت واختبأت خلف أحد الأعمدة.
بزوغ الفجر بدأ يضيء الممر، وظلٌ باهتٌ امتد على الأرضية.
أطلت تاليا برأسها بحذر من خلف الظل لتتفقد المشهد. أمام الغرفة المجاورة لغرفتها وقفت امرأة ذات جسد نحيف.
ضيّقت تاليا عينيها لتتفحص ملامحها. امرأة في منتصف العمر، ذات شعر بني داكن وملامح بسيطة.
وبعد برهة، تذكرت أنها إحدى المساعدات اللواتي أرسلتهن والدتها.
أغلقت المرأة الباب برفق، ثم سحبت قلنسوة داكنة على رأسها وغادرت الممر بهدوء. لحقت بها تاليا من بعيد دون أن تصدر صوتًا.
خرجت المرأة من المبنى وسارت بخفة في طريق موحل فيه برك ماء. خطواتها السريعة دلت على أنها خضعت لتدريبات متقدمة.
توقفت أخيرًا قرب حديقة خلفية صغيرة خلف المبنى الرئيسي، وتاليا لا تزال تراقبها من خلف عمود مقوس.
وقفت المرأة لوقتٍ طويل قرب مقصورة خشبية وكأنها تنتظر أحدًا، وفجأة تحركت بخفة عندما رأت شيئًا.
تبعت تاليا نظراتها فرأت رجلاً يرتدي زيًّا كهنوتيًا أسود يخرج من الظلام ببطء.
تذكّرت تاليا وجهه، كان أحد الرهبان الذين حضروا الوليمة.
أخرج الراهب، الذي بدا في الأربعين من عمره، زجاجة صغيرة من طيات ردائه وسلّمها للمرأة.
فتحت المرأة الزجاجة وتفقدت محتواها، ثم أغلقتها وأخفتها داخل كمّ رداءها، وعادت أدراجها في صمت.
ركضت تاليا عائدة نحو المبنى، وصعدت الدرج بسرعة ثم دخلت غرفتها منهكة.
أسندت ظهرها إلى الباب تلهث، ثم حبست أنفاسها عندما سمعت حركة بالخارج. بعد لحظات، سُمِع صوت فتحٍ وإغلاقٍ للباب، تلاه صمت تام.
بلعت ريقها بصعوبة.
لم تكن تعرف تمامًا ما الذي رأته… من كان ذلك الراهب؟ هل هو من أنصار والدتها؟ وإن كان كذلك، فما الذي سلّمه لها؟ هل من الممكن أنهم يخططون لقتل أحدهم بالسم؟
شعرت بحلقها يضيق، وبلعت لعابها بجهد.
إن كان ذلك سمًا، فقد كان بالإمكان الحصول عليه بطرق أسهل. لا حاجة لكل هذه السرية إلا إن كان السم من نوعٍ ممنوع تمامًا في العاصمة.
“ما الذي تخطط له أمي بحق السماء؟”
حاولت جمع خيوط الاحتمالات في ذهنها، لكنها لم تستطع التوصل لشيءٍ واضح.
الشيء الوحيد الأكيد أن هناك أمرًا خطيرًا يُحضّر له.
فوالدتها، سينيفيير، لا تتراجع عن أي شيء إن أرادت تحقيقه. وإن كانت تخطط للتخلص من أعدائها القدامى، فهذا يعني أن ولي العهد بات في خطر حقيقي، وربما آيلا أيضًا لن تنجو.
شعرت بقلبها يخفق بقوة من شدة الانفعال، وارتسمت على شفتيها ابتسامة راضية.
*************
بدأت رحلة طويلة ومملة من جديد.
تحركت فرقة الحراسة، المكونة من مئات الجنود والفرسان، بصمت تحت شمس حارقة. إن استمروا بهذا النسق، فسيصلون حدود مملكة أوسيريا القديمة بعد عشرة أيام.
كان إدريك روبون يطالع الخريطة ليتفقد المسافة المتبقية، ثم ألقى نظرة على العربة المغلقة التي تسير بصمت كأنها تابوت.
كالعادة، جلست الأميرة خلف ستائر كثيفة دون أن تخرج.
اقترب من العربة على صهوة حصانه، وحدق في الظل الخافت خلف الستار. حتى الخيول كانت تلهث من الحرّ، فماذا عنها؟ ماذا لو عُثر عليها ميتة اختناقًا؟
“مولاتي، هلّا سمحتِ ببعض التهوية؟”
“…اغرب عن وجهي.”
على الأقل كانت لا تزال على قيد الحياة.
تنهد إدريك بخفة، ثم عاد إلى مقدمة الركب.
وهناك، كالمعتاد، كان ولي العهد جالسًا على جواد ذهبي من سلالة نادرة.
راقبه إدريك بحذر. وجه غاريس كان محمرًا وهو يصب جام غضبه على القائد سير شيوركان، ويبدو أنه يتذمر من تأخر وقت الراحة.
“يبدو أن هذه الرحلة لن تكون سهلة أبدًا.”
فالطريق في الأيام القادمة سيقودهم إلى أراضٍ وعرة، كالصحراء والجبال. هل سيحتمل ولي العهد هذا العناء؟
اقترب إدريك من باركاس، القائد، الذي لم يعر تذمر ولي العهد أي اهتمام، وكان يحدق في الطريق بنظرات ثابتة.
شعر إدريك مجددًا بالرهبة من هذا الرجل. لم يسمعه قط يصرخ أو يفقد أعصابه، ومع ذلك كان حضوره وحده يفرض الهيبة.
بلع ريقه وقال بهدوء:
“سيدي شيوركان، يبدو أن الجنود مرهقون بفعل الحر. ربما من الأفضل أن نتوقف قليلًا للراحة؟”
باركاس، الذي لم يحرك عينيه عن الطريق، التفت إليه أخيرًا.
ارتبك إدريك لا إراديًا، ثم أضاف:
“أعتذر إن كنت متطفلًا، لكن المؤخرة بدأت تتأخر كثيرًا…”
“بعد نصف ساعة سنصل إلى بحيرة. سنتوقف هناك.”
قاطع باركاس حديثه. رمقه إدريك بنظرة متفاجئة، ثم انحنى برأسه موافقًا. من بعيد، تذمر ولي العهد بصوت عالٍ:
“كلامي لا يؤخذ به، بينما يستمعون لكلام هذا الفتى؟”
“مولاي، لم أتكلم لأنني شعرت أن ردي غير مطلوب. لكني أسمع كل ما تقولونه.”
“ومن سمح لك بتقرير ما إذا كان الرد ضروريًا؟!”
صرخ ولي العهد بغضب، وصوته الجهوري كاد يصمّ الآذان.
كتم إدريك امتعاضه وعاد إلى الخلف.
كان من المثير للدهشة كيف يتحول ولي العهد، المعروف بعنفه، إلى طفل مدلل أمام شيوركان.
“…ماذا سيحدث بعد أن يغادر شيوركان؟”
حين يغادر باركاس شرقي البلاد، لن يتبقى من يستطيع كبح جماح ولي العهد. ومع الأميرة الأولى المغادرة أيضًا، سيبقى في القصر كل من غارث وتاليا فقط.
فكّر إدريك في حال الفوضى التي قد تعمّ الحرس حينها، وشعر بالقلق.
توقف بجانب عربة تاليا.
بعد قليل، دوّى صوت الصافرة معلنًا وقت الاستراحة.
أمر إدريك رجاله بنصب خيمة مؤقتة فوق أرض مستوية، ليصنعوا ظلًا يحتمون به.
أوقف العربة قرب الخيمة وطرق على نافذتها برفق.
“آنسة تاليا، وقت الراحة. ألا تخرجين؟”
“…”
“إلى متى ستستمرين بهذا العناد؟ قضيتِ اليوم كله هناك، وإن واصلتِ هذا الحال فستنهارين.”
حتى وإن كلفه الأمر أن يتلقى صفعة، فقد رأى أنه من الضروري أن يُخرجها من هناك، لذا تعمّد أن يكون صوته قاسيًا وحادًا.
لكن من الداخل، لم يأتِه أي رد.
عقد إيدريك حاجبيه بقلق.
ترى، هل فقدت وعيها حقًا؟
تملّكه شعورٌ مريب، فتوجه إلى الباب وفتحه بعنفٍ نسبي.
وما إن فعل ذلك، حتى اندفعت نحوه رائحة حلوة ممزوجة بعطر العسل وحليب الأم، مع هواء خانق كأنه بخار حمامٍ يغلي، لطم وجهه دفعةً واحدة.
وبينما كان يتأفف ويتفحّص الجزء المظلم من داخل العربة، جمد مكانه حين لمح الأميرة ممددة على الأرض، ساقطةً بلا حراك.
التعليقات لهذا الفصل " 34"