الفصل 33
بعد أن صرفت مرافقيها، لحقت به خارج الرواق، فبدت لها حديقة غنّاء تتكاثف فيها زهور القطيفة والأقحوان وإكليل الجبل.
كانت النباتات المشبعة بماء المطر تبث في الأجواء رائحة عشبية نفاذة، استنشقتها “آيلا” بعمق قبل أن ترفع رأسها وتنظر إلى “باركاس”.
“هل حصل شيء البارحة؟”
سألتها بتردد، فالتفت الرجل الذي كان يسير بهدوء نحوها.
نظرت آيلا في عينيه مباشرة. عيناه الزرقاوان الشاحبتان كانتا كمرآة لا تعكس شيئاً، فقط السكون… هذا الجمود الصامت خنق صدرها فجأة.
هل سأتمكن يوماً من الدخول إلى أعماقه؟
وبينما كانت شاردة في هذه الأفكار، نطق “باركاس” أخيرًا:
“لا شيء يدعو للقلق، جلالتك.”
“لكن يبدو أن شيئًا ما قد حصل فعلًا، أليس كذلك؟”
لم يجبها، بل خطا مباشرة إلى الحديقة الغارقة في المطر.
كان المطر الغزير ينهال على كتفيه العريضتين، يغمره حتى صار كتمثال من الرخام الأبيض. تابعت آيلا خطواته الباردة بنظرة متضايقة، لكن فجأة مد يده نحوها وقال:
“المستنقع عميق هنا.”
فهمت قصده فورًا، فاحمرّ وجهها ونظرت إليه بنظرة جانبية.
لم تكن ترغب في أن تسلّم جسدها لذراعَي رجل جاف القلب، لكن في الوقت نفسه لم يكن لائقًا أن تترك خطيبها ينتظرها تحت المطر. فتظاهرت بالتردد واقتربت منه في النهاية.
انحنى “باركاس” قليلًا ورفعها بذراع واحدة بسهولة، كما لو كانت خفيفة كالريشة، تمامًا كما اعتادت أن تفعل منذ أن كانت طفلة في الخامسة.
أسندت رأسها على كتفه قائلة بلهجة خافتة:
“هل تعلم؟ أحيانًا تكون شخصًا غير منصف.”
رفع حاجبه قليلًا باستغراب، لكنها لم تشرح مشاعرها، بل اكتفت بأن عانقته بإحكام.
لفّها بمعبَره الكبير، ثم عبر بها الحديقة الخلفية، بينما كانت آيلا تغوص خدها في طوق معطفه.
كان جسده يحمل مزيجًا من روائح الأعشاب العطرية، ومعدن درعه الباهت، ورائحة باهتة شبيهة بورق الخريف الجاف أو التبن. وخلال تلك اللحظات، هدأت انفعالاتها دون أن تدري. ابتسمت بسخرية.
كم كان سخيفًا أن تشعر بهذا الدفء من مجرد تصرف اعتاده منذ زمن، فيما قلبها يخفق كقلب مراهقة ساذجة.
إنه فقط يحافظ على وعده لأمي. هذه مودة نابعة من الواجب، لا أكثر ولا أقل. ومع ذلك… لم أستطع كبح خفقان قلبي.
كم أنت قاسٍ. ليتك لم تكن لطيفًا أبدًا… لعلّي كنت استطعت حينها تقبّل زواجنا كصفقة باردة.
أطرقت عيناها بحزن.
“سأطلب تجهيز حمام دافئ في جناحك. استريحي بعد أن تدفئي جسدك.”
قال “باركاس” وهو يقف عند مدخل الجناح. أومأت آيلا برأسها.
بدأ يصعد درجات الدرج الحجري، وعندما أوشك أن ينزلها عن ذراعيه، لمع البرق في السماء، تلاه دوي رعد مخيف.
بغريزتها، تعلقت آيلا بعنقه.
كانت السماء تمزّقها شرارة ذهبية بين الغيوم السوداء، بينما كانت تنظر بدهشة إلى ذلك المشهد، رأت فجأة خيالًا شاحبًا يجلس على حافة نافذة في الطابق الثاني.
تجمدت مكانها، تساءلت إن كانت ترى وهمًا مرعبًا. شهقت دون وعي.
أضاء البرق وجهًا جميلًا بجمال مقلق. وجه شاحب فوق عنق نحيل، تتلظى فيه كراهية قاتمة. كانت “تاليا”، أختها غير الشقيقة، تبدو حينها كملاك موت.
بدا وجهها كأن النار تلتهمه، ونظراتها كالخناجر. لم يكن الأمر مفاجئًا، فقد كانت دائمًا فاتنة بشكل غريب، لكن شيئًا ما في تلك اللحظة جعل آيلا ترتعد.
في لحظة صادمة، مدت تاليا يدها نحو المزهرية بجانبها ورمتها بكل قوة نحوهم.
صرخت آيلا.
لحسن الحظ، حماها “باركاس” بجسده، فتجنبت شظايا الزجاج، لكن خدًا صغيرًا جُرح في وجهه.
أسرعت آيلا بإخراج منديلها ومسحت به جرحه، فقبل المنديل بوجهه الصلب المعتاد، ثم نظر بهدوء نحو الأعلى.
تبعت آيلا نظراته، فرأت تاليا لا تزال تحدّق فيها بشراسة، دون ذرة ندم. ثم تشوهت شفتاها بابتسامة ممزقة. كانت شفتاها كزهرة ورد مسحوقة بالدم.
آيلا شعرت بشيء أشد من الغضب… الخوف.
لأول مرة، أحست أن تلك الفتاة التي ظنتها دومًا عديمة الشأن، قد تكون أكثر شخص مظلم ومرعب في هذا العالم. كأنها الشيطان الذي حوّل حياة والدتها إلى جحيم، والآن جاء دورها لتغرقها أيضًا.
ارتجف جسد آيلا بقشعريرة عميقة.
***********
لم يتوقف المطر حتى بزغ الفجر.
ظلت “تاليا” مستيقظة طوال الليل، تحدق في الحديقة المبتلّة بعينين غائمتين.
الأعشاب الزاهية غمرها الوحل، والزهور التي زينت أحواض الحديقة أمس بدت الآن ميتة، سيقانها منكسرة، وألوانها باهتة كجثث صغيرة.
نزَلت من سريرها وتقدمت نحو الطاولة الصغيرة قرب الموقد. كان الطعام على صينية فضية قد جف وتيبّس من دون أن يُمسّ. مسحت الطعام بنظرة لا مبالية، ثم التقطت سكينًا صغيرة موضوعة بجانب الصينية.
كانت مخصصة لتقطيع الطعام، لكن مظهرها الحادّ أوحى بأنها تصلح لأشياء أخرى.
مررت أناملها على حدها ببطء، ثم دسّتها في جيب رداء نومها وغادرت الغرفة.
في الردهة، كان الهواء ثقيلاً ورطبًا. أمسكت السكين الباردة بإحكام، شعرت بكفها تبتلّ من العرق. لم تكن تعرف إن كان توترًا أم حماسًا… أو ربما كليهما.
بللت شفتيها اليابستين، ثم صعدت الدرج بخفة.
غرفة آيلا كانت في الطابق الأعلى. وعند رأس السلم، ألصقت جسدها بالحائط وتفقدت الرواق الغارق في الظلام. لحسن الحظ، لم يكن هناك من يحرس الباب.
تنفست تاليا براحة، ثم اقتربت خطوة خطوة نحو باب الغرفة في آخر الممر.
عند اقترابها، تسرب إلى أنفها عبق أعشاب مهدئة… كانت آيلا قد أشعلت بخورًا لتستريح. رفعت تاليا زاوية شفتيها بازدراء.
إذًا، لم تكن ليلتك مريحة كما كنتِ تتظاهرين، أليس كذلك؟ وتذكرت وجهها الشاحب وهي تصرخ في الحديقة… فضحكت ضحكة مكتومة.
لكنّ ابتسامتها اختفت حينما تذكرت مشهدًا آخر… المشهد الذي جعلها تتحول إلى بركان من الغضب.
شوهت تاليا وجهها بالحقد، وسحبت السكين من جيبها بيد مرتعشة.
عندما رأت “باركاس” يحمل آيلا بين ذراعيه وسط المطر، أحست كأن شيئًا ثمينًا داخلها قد انكسر إلى الأبد.
مسحت دموعها الخفيفة بكمّ ردائها.
كانت تلك ذكرياتي الوحيدة… الشيء الوحيد الذي أملكه. لطالما أخفيتها واحتضنتها في قلبي… لماذا اضطررت الآن أن أقتلها بيدي؟
ألم نكن نستحق على الأقل أن نحتفظ بشيءٍ واحد لنا فقط؟
غلت دماؤها في رأسها، رغم معرفتها أن هذا الغضب غير منطقي. ومع ذلك… لم تستطع أن تسامحهما.
أريد أن ألقن آيلا درسًا… أن تذوق الألم كما ذقته.
وأنتَ أيضًا… سأعيد لك ما فعلت، مضاعفًا.
تاليا شدّت عينيها المتوهجتين كأنما تشتعلان نارًا، وحدّقت بثبات نحو الباب المغلق بإحكام. كانت تعلم أنّ عبورها لهذا الباب يعني عبور نهرٍ لا رجعة بعده.
ربما ستُسجَّل في صفحات التاريخ على أنها ساحرة شريرة، سلبت روح أميرة بريئة لا ذنب لها. لكن ذلك لم يعد يعني لها شيئًا. فقد كان يُنظر إليها بالفعل باعتبارها أسوأ شريرة على الإطلاق. فحتى لو سقطت أكثر من هذا، ماذا بقي لها لتخسره؟
وبيدٍ ترتجف بشدة، أمسكت بمقبض الباب بقوة.
التعليقات لهذا الفصل " 33"