يبدو أن الأخوين لم يصلا بعد. فولي العهد للإمبراطورية، وأخوها غير الشقيق، غاريس، كان دائمًا يقف شامخًا مثل الإمبراطور في الطابق الثاني من القاعة، حيث يمكنه الإشراف على الحفل بأكمله من علٍ.
وكانت آيلا ترافقه دائمًا، بوقار ورقي لا يُضاهيان.
لكن يبدو أن الليلة، قد لا نرى تلك المدعوة آيلا رويم غيرتا.
قالت ذلك وهي تضحك في سرها، بينما ترفع كأسًا فضية صغيرة عن الطاولة الدائرية أمامها.
عادت إلى ذاكرتها صورة آيلا وهي تنهار في وسط قاعة الحفل، وجهها شاحب كالأموات. ذلك المشهد، وهي تتقيأ النبيذ الأحمر على الأرض الرخامية، بدا وكأن قلبها يتساقط خارج جسدها.
ليتني استطعت أن أجعلها تموت بالفعل حينها.
بأطراف أظافرها الحادة، خدشت تاليا سطح الكأس حتى صدرت عنه صرير خافت. كم تمنت في داخلها، وهي تنظر إلى أختها غير الشقيقة تتلوى على الأرض، أن لا تنهض أبدًا.
فلتَمُت يا آيلا… رجاءً، لا تفتحي عينيك مجددًا.
“سموكِ.”
كانت تاليا غارقة في أفكارها السوداوية حين قاطعها صوتٌ قريب. التفتت، فرأت رجلاً أنيقًا يرتدي حلة خضراء داكنة، واضعًا يده على صدره، يقف منتصبًا أمامها. بدا لها وجهه مألوفًا.
بعد لحظة، تذكرت أنه من الرجال الذين اعتادوا الظهور في حفلات والدتها. لم تتذكر اسمه، لكنها استحضرت والدتها وهي تناديه بـ”الكونت سيريان”.
“طال غيابنا، يا سمو الأميرة. كلما مضى الوقت، زدتِ بهاءً وجمالاً.”
قالها وهو ينحني ليقبّل ظهر يدها، مما جعلها ترتجف من الاشمئزاز، وكأن دودة مبللة قد لامست بشرتها. ومع ذلك، رسمت على وجهها ابتسامة متصنعة.
“هل أوصتك والدتي أن تكون رفيقي هذا المساء؟”
“جلالتها لا تفكر سوى براحتك يا سمو الأميرة.”
أجابها بغموضٍ، وكأن في الأمر ما يخفيه.
“لكن، حتى من دون أوامرها، ما كنت لأقاوم رغبتي في الحديث إليكِ. انظري حولكِ.”
اقترب منها ليهمس وكأنه يكشف سرًا كبيرًا:
“جميع الرجال هنا يراقبونكِ. كلهم يتمنون الاقتراب وتقبيل يدكِ كما فعلت أنا، لكنهم يمنعون أنفسهم… خشية أن يغضبوا ولي العهد.”
“وأنت، لست من بينهم؟”
“لقد نلت كراهيته منذ زمن، لذا لا يهمني كثيرًا.”
ابتسم بمكر وأردف:
“ولأنني لم أعد مرضيًا في نظره، حظيت بفرصة مرافقة سموكِ هذا المساء. هنيئًا لي، أليس كذلك؟”
تاليا لم تكن تطيق الرجال من هذا النوع؛ اللزجين المتملقين. بل كانت تكرههم بصدق. ومع ذلك، رأت أن وجوده كدرع مؤقت، أفضل من مواجهة نظرات الحضور وحدها.
بلهجة المتعالية التي تمنّ على الفقراء، قبلت عرضه بأن يرافقها.
“ماذا قالت والدتي؟ هل توسلت إليك لتساعد ابنتها الكبرى، تلك المسكينة التي تجلس مثل خروف أسود لا يندمج مع القطيع؟”
“أمرتني أن أضمن لكِ متعة الحفل.”
كادت أن تضحك بسخرية.
ثم أضاف، وهو يقودها إلى منصة الرقص أمام الشرفة:
“كما أوصتني أن أحرص على أن تتألقي أكثر من الجميع في هذا المكان.”
وبينما انسحب بعض الراقصين جانبًا مع نظرات متحفزة، لم يبالِ الكونت بل انحنى لها باحترام وقال:
“أتسمحين لي بشرف الرقص معكِ، يا سمو الأميرة؟”
نظرت تاليا بفتور إلى يدها النحيلة الخالية من أي قساوة. لم يكن لديها أدنى رغبة في لمس رجل غريب. لكن تلك النظرات المتلصصة من الناس أثارت فيها روح التحدي.
جميعهم يتمنون أن أختفي… أو على الأقل أن أظل صامتة في زاوية، كأنني غير موجودة.
لكنني لن أمنحهم تلك المتعة.
فأمسكت بيده. لفّها الكونت بذراعه برشاقة وبدأ يتحرك بها على خشبة المسرح بخفة وخبرة.
رغم كراهيتها الشديدة لأي تلامس جسدي، وجدت تاليا نفسها منبهرة بمهارته الفائقة في الرقص. الكونت سيريان كان يعرف تمامًا كيف يقود الشريكة ويجعلها تبدو ساحرة.
كانت تاليا تحب الرقص دائمًا، لكن لم يسبق لها أن شعرت بأن حركاتها بهذا القدر من الأناقة. ولم تكن وحدها من لاحظ ذلك.
نظرت من فوق كتف الكونت لترى الحاضرين، أعينهم تتبع كل خطوة تخطوها على المسرح، مشدوهين. كانوا يحدقون بها، هي، اللقيطة التي طالما احتقروها.
سرت فيها نشوة غريبة. في السابق، كانت نظراتهم تحمل الازدراء والمراقبة، أما الآن، فقد تغير كل شيء.
لقد بدؤوا ينظرون إليها كما ينظرون إلى والدتها… بخليط من الرهبة والافتتان. شعرت بتلك النظرات تلتف حولها، كأنها خيوط حريرية ثقيلة.
كأنها تحولت إلى “سينيڤيير”… أقوى وأخطر وأجمل مخلوق في هذا العالم.
لكن نشوة الانتصار لم تدم طويلاً. فجأة توقفت الموسيقى، ودخل الضيفان الحقيقيان لهذا الحفل.
“يدخل الآن، صاحب السمو ولي العهد غاريس رويم غيرتا، وسمو الأميرة الأولى آيلا رويم غيرتا!”
مع إعلان المقدم، دخل الاثنان إلى القاعة بخطوات مهيبة، نازلين الدرجات الرخامية، في حين سُحبت أنظار الجميع منهما إلى حيث وقفوا.
وبلحظة واحدة، طُمست تاليا من بؤرة الاهتمام.
ابتسم الكونت سيريان بخفة وهو يقودها نحو الشرفة، حيث الكؤوس والمآدب.
“كم هو مؤسف أن يُقاطع وقتنا الممتع بهذا الشكل.”
حاول التخفيف عنها بمزاح خفيف، لكنها لم تسمع شيئًا.
كانت تاليا تحدق في آيلا المتألقة في فستان أبيض ناصع، بعيون ملتهبة.
كيف لها أن تتصرف وكأن ما حدث قبل أسابيع لم يقع؟
بجوار أخيها، تبتسم بتلك الرقة المصطنعة، وجمالها الرقيق يثير في تاليا الغضب.
راحت تفتش بعيونها في وجوه الأخوين… شعرهم الأسود الفاحم، أعينهم الزمردية، ملامحهم المنحوتة كالعاج.
كان كل شيء فيهم يصرخ “ملائكية”، شيئًا لم تستطع لا تاليا ولا والدتها “سينيڤيير” امتلاكه، مهما حاولتا.
سينيڤيير، المرأة التي أوقعت الإمبراطور القديس في هاوية الخيانة، لم تكن سوى أفعى ماكرة، وتاليا، في نظر الجميع، لم تكن إلا نتاج تلك الخطيئة. حتى لو أنجبت والدتها عشرة أمراء آخرين، لن يُغير ذلك من الحقيقة شيئًا.
استدارت تاليا ببطء نحو طاولة النبيذ، بينما كانت عيون الحاضرين، التي كانت تلاحق الأميرة والأمير، ترمقها بخفة، تتبادل النظرات ذات الدلالات المقيتة.
توترت كل خلية في جسدها.
لا تجرؤوا على مقارنتي بهم.
كادت تصرخها، لكنها كبحت غضبها، وتحجرت ملامحها لتبدو لا مبالية.
إلا أن الرجل بجانبها لم يقرأ الجو، وهمس لها مبتسمًا:
“يبدو أن سمو الأميرين لا ينويان الاعتراف بوجودكِ… فماذا ستفعلين؟ هل ستذهبين لتحيتيهما بنفسك؟”
نظرت إليه تاليا نظرة حادة كالسكاكين.
ابتسم بمكر أكبر.
“أليس هذا ما جئتِ من أجله؟”
عضّت شفتيها.
نعم… لقد جاءت لتخرب عليهم ليلتهم.
جاءت لتكدر صفو حفلهم، الحفل الذي يُحتفى فيه بهما وحدهما. وأمها، سينيڤيير، كانت سترغب بذلك أيضًا.
تماسكت تاليا، قبضت على كأسها بإحكام، ثم التفتت نحو أخويها غير الشقيقين، وسارت بين الحضور بخطى ثابتة.
وفي تلك اللحظة بالذات، دخل الحفل باركاس لايدغو شيركان.
تاليا توقفت عن الحركة تمامًا. خفق قلبها بعنف، وكأنها تعرّضت لهجوم مباغت.
التعليقات لهذا الفصل " 3"
شكرا على الترجمة ❤️❤️
الوضع حماس
👀👀👀👀