الفصل السادس والعشرون
كان “غاريس” يرمق أخته غير الشقيقة بنظرات مشككة، قبل أن يشعر فجأة بالضيق من نفسه، إذ أدرك أنه يولي اهتمامًا مفرطًا بتصرفات تافهة من شخص لا يستحق. فاستدار برأسه بضيق.
ما أهمية ما يجول في رأسها؟ في النهاية، حين يعتلي العرش، لن يكون لها مكان في هذا العالم. كل ما عليه هو الصبر حتى ذلك اليوم.
وكأنه يمحو وجودها من ذهنه، تناول كأس النبيذ القوي وشرع في شربه بنهم.
—
أما “تاليا”، فقد تظاهرت بالملل وهي ترفع كأس النبيذ إلى شفتيها. لكنها لاحظت ارتجافًا خفيفًا في أطراف أصابعها، فسارعت بوضع الكأس جانبًا، تحاول أن تبدو طبيعية قدر الإمكان، وأخفت يديها تحت المائدة وهي تبلل شفتيها الجافتين.
مكان لمس “باركاس” لها ما زال يلتهب وكأن ناره لم تنطفئ. لم يكن ذلك من تماس مباشر، بل من فوق القفاز الجلدي البارد. ومع ذلك، شعرت بصلابة عظامه تخترق جلدها وتتغلغل في أعماقها.
شدت على كتفيها كي لا تنكمش، ومسحت كفّها المتعرق بطرف فستانها. القماش الرطب التصق ببشرتها، مما زاد من شعورها بالضيق.
ساورها شعور بالندم المفاجئ. ذلك الفستان الذي اختارته لإثارة غضب “غاريس” بدا وكأنه يخنقها.
شعرت بوخز على كتفيها وظهرها المكشوف، فقبضت على يدها بقوة. رغم علمها بأن ذلك الرجل لا يوليها أدنى اهتمام، لم تستطع منع توترها الشديد.
قاومت رغبتها الجامحة في الالتفات لترى إن كان ينظر إليها. قد تكون بارعة في تمثيل اللامبالاة، لكنها لم تستطع السيطرة على عرقها المتسلل من المسام.
كان قماش الفستان الخفيف يلتصق ببشرتها كالندى اللزج، فما كان منها إلا أن عضّت شفتيها السفلى بغيظ. لقد كان اختيار هذا اللباس تصرفًا أحمق.
“ألّا يروق لك الطعام؟”
ارتجفت كتفاها حين باغتها صوت من أمامها. كان راهب شاب يحدّق بها.
تذكرت أنه رئيس الدير، فهزت كتفيها بلامبالاة مصطنعة.
“بالمقارنة مع طعام القصر، هذا لا يُذكر.”
بدت على وجه الراهب علامات الإحراج، لكنها تجاهلته. التفتت بعنف وأمسكت بقطعة صغيرة من الكعك، متظاهرة بالأكل حتى لا يواصل الحديث. وضعت القطعة الجافة في فمها ومضغتها كأنها قطعة إسفنج.
اجترعت رشفة من النبيذ لتدفع بها الكعكة الجافة، لكن عيناها التقطتا نظرات بعض الرهبان الذين كانوا يراقبونها بإصرار. شعرت بالقرف من تلك النظرات التي بدت أكثر لزوجة من الطعام نفسه.
وقفت فجأة.
“يا لها من حفلة مخيبة للآمال. سأغادر لأخلد للنوم.”
رماها “غاريس” بنظرة منزعجة. في العادة، كانت سترد عليه بكلمات لاذعة لتغضبه أكثر، لكنها لم تحتمل البقاء دقيقة إضافية.
خرجت مسرعة من القاعة، وقد خفّ شعورها بالغثيان حالما ابتعدت عن مزيج روائح الطعام والخمر والشموع.
تنفّست بعمق، ومسحت جبينها المبتل بالعرق البارد، وبدأت تمشي في الردهة بصوت خطوات خافتة.
شعرت ببرودة الليل تنسلّ على ظهرها، فاحتضنت ذراعيها المرتجفتين ورفعت من وتيرة خطواتها.
أحيانًا، لم تكن تفهم لمَ تفعل كل هذا. ما الجدوى من تعريض نفسها لنظرات الناس وخلق المتاعب عمداً؟
> “ولي العهد لا يستطيع احتمال وجودك. في بعض الأحيان، يبدو أنه لا يطيقك أكثر مما لا يطيقني.”
كلمات “سينيڤيير” ما تزال ترنّ في أذنيها، تلك التي همس بها بسرور ذات يوم. غالبًا ما كان ذلك خلال مراسم تأبين الإمبراطورة الراحلة “بيرناديت”.
يومها، ما إن رآها “غاريس” تدخل القاعة ممسكة بيد والدتها، حتى استشاط غضبًا وفقد أعصابه. بدأ يصرخ واندفع ليخنق الأميرة الصغيرة. لم يتراجع إلا بعدما أمسك به فارسان بقوة.
زحفت “تاليا” إلى قدمي والدتها مذعورة، فاحتضنتها “سينيڤيير” بحنان ظاهري.
لكن طمأنينتها لم تدم طويلًا، إذ لمحت على وجه والدتها نظرة راضية خفية.
ومنذ ذلك الحين، قررت أن تستفز “غاريس” في كل فرصة تسنح. لا يهم أنها أصبحت مكروهة في البلاط. كان الأهم أن تضر سمعته هو أيضًا، حتى تفرح والدتها.
ضحكت فجأة بمرارة. ما زالت تسعى لنيل ذرة من حنانها، رغم كل شيء.
لكن حتى لو سقط ولي العهد من عليائه، فلن تحبها “سينيڤيير”. إنها لا تحب أحدًا. لا الإمبراطور، ولا حتى “أستروس” الذي تغدق عليه اهتمامها.
في نظرها، كل شيء مجرد وسيلة. وربما لهذا السبب، تواصل “تاليا” هذه المسرحية العبثية… كي تثبت أنها لا تزال ذات نفع، وإلا فلن تكون شيئًا في عينيها.
“سموكِ الأميري،”
صوت مفاجئ قطع حبل أفكارها. التفتت سريعًا لترى ظلًا داكنًا يقف عند طرف الرواق. أدركت أنه أحد الرهبان الذين كانوا يراقبونها.
تخشّبت ملامحها.
(هل كان يتبعني؟)
نظرت حولها بحذر. الردهة المؤدية إلى الحديقة كانت خالية تمامًا. فكرة أنه تبعها بصمت حتى هذا المكان المعزول أصابتها بالقشعريرة.
“ما غايتك؟”
سألت بصوت متمالك، تحاول إخفاء خوفها خلف نبرة سلطوية.
ويبدو أن ذلك أثّر فيه، إذ بدا مترددًا. أرسلت إليه نظرات حادة، تتمنى أن يرتدع ويغادر.
“قلت لك، ما غايتك؟”
“لأجل… حديثكِ قبل قليل…”
تلعثم في الرد.
قطّبت حاجبيها.
“أي حديث؟”
“في… الحفلة… ما قلتهِ هناك…”
كان يتلعثم بنظرات موحية أثارت اشمئزازها، ووجهه مليء بالنمش وقد احمر خجلًا.
شدّت ساقيها كي لا تتراجع خطوة للوراء. إن أظهرت ضعفًا، سيستقوي أكثر. فرفعت ذقنها بتعجرف.
“لا أفهم ما ترمي إليه. وإن لم تكن لديك حاجة، فسأنصرف.”
“ق… قلتِ إنكِ تريدين كسب رضا ولي العهد… أليس كذلك؟”
تجمّدت في مكانها، ثم التفتت ببطء.
(هل لحقني بسبب ما قلته هناك، لمجرد استفزاز “غاريس”؟)
بردت أطرافها فجأة، وكأن ماءً مثلجًا صُبّ على ظهرها.
التعليقات لهذا الفصل " 26"