لم تستطع تاليا كبح جماح غضبها المتصاعد، فرفعت يدها مرة أخرى وصفعته بكل ما أوتيت من قوة. ارتد الألم في كفها فورًا، حادًا وساخنًا. كانت تتوقع أن يُوقفها كالعادة، لذا فوجئت حين لم يفعل.
لكن باركاس، الذي تلقى الصفعة، لم يظهر عليه أي تأثر. فقط لمس خده –الذي لم يترك عليه الضرب أي أثر– بطرف قفازه وقال بهدوء:
“لنعتبر أن هذه الصفعة كانت ثمناً لما اقترفته من لمس جسد سموك من دون إذن.”
ثم أضاف بنبرة حاسمة:
“لكن لا تتوقعي مني بعد الآن أن أتحمل دلالك. لم أعد فارسك الشخصي، تذكري ذلك جيدًا.”
أنهى حديثه وخرج من العربة مغلقًا بابها وراءه.
تاليا بقيت ساكنة، تستند إلى ظهر المقعد بلا حركة. ثم أزاحت الستار وألقت نظرة خارج النافذة.
باركاس لم يكن في مكانه. ما رأته فقط هو خدم ينزلون الصناديق من عربة الأمتعة، وفارس مضطرب يحاول تنظيمهم.
أرادت أن تنفجر، أن تخرج وتهين كل من تجرأ على تجاهل أوامرها، لكنها تراجعت. لأنها تعرف أن باركاس لن يسمح بذلك. فقد كان لا يتسامح مع القسوة تجاه من هم دونها.
تذكرت اليوم الذي قطّعت فيه شعر إحدى وصيفاتها لمجرد أنها لمست معطف باركاس، وتذكرت النظرة التي وجهها لها آنذاك، نظرة باردة كالجليد جعلت أصابعها ترتجف الآن من مجرد الذكرى.
بانفعال، أغلقت الستائر بإحكام، ثم شبكت يديها حول كفها المحترق وجلست في المقعد منكفئة على نفسها.
مرت لحظات قبل أن يعلو صوت البوق معلنًا بداية الرحلة. بدأت العربة تتحرك ببطء، إيذانًا بانطلاق ما بدا وكأنه كابوس عمر بأكمله.
شعاع رقيق من الضوء تسرّب عبر شق في الستار. حدّقت فيه برهة، ثم شدّت الستائر أكثر، وكأنها تحاول إغلاق هذا العالم كله. استسلمت للظلام داخل العربة، وأغمضت عينيها. ليت هذه القافلة تسير إلى الجحيم مباشرة… ليتها تأخذ الجميع معها إلى الهاوية… ليت كل شيء ينتهي هنا. ذلك سيكون أجمل ما يمكن أن يحدث.
**********
كان موكب الحجاج الإمبراطوري يتبع مسار الإمبراطور المؤسس، دارِيان رويم غيرتا، الذي أسّس إمبراطورية رويم، متتبعًا مجرى نهر سيلفيسكا المتعرج من الشمال إلى الغرب ثم عائدًا نحو الشمال.
في العصور القديمة، حين كانت القارة مقسّمة بين عشرة ممالك: ويدن، دريستان، بالتو، غوين، أوسيريا، ريبدون، أريكس، فاليس، دومنوس، وشيركان… فرّ دارِيان، أحد أفراد العائلة المالكة في غوين، من غزو مملكة بالتو إلى قلب القارة. وهناك، تبناه خاله دوق فاليندر، زعيم قبائل أوسيريا.
دارِيان، بعد أن وحّد القبائل الأوسيرية تحت رايته، بدأ حملة كبرى لتوحيد الممالك، حاصدًا الدعم من مؤيدين أقوياء في مختلف الأقاليم. وبعد حروب طويلة دامت عشرين عامًا، خاض خلالها عشرات المعارك، استطاع أن يوحّد القارة بأكملها تحت راية إمبراطوريته الجديدة.
كان الموكب الضخم، المنطلق من القصر الإمبراطوري، أشبه بطقس مقدس يُعيد رسم خُطى دارِيان، ويُظهر عظمة العائلة المالكة لأبناء الإمبراطورية كافة. ولذلك، كان الموكب فخمًا ومهيبًا بشكل يكاد لا يُصدّق.
في المقدمة، كان ولي العهد ممتطيًا جوادًا ذهبيًا ضخمًا، يتبعه أكثر من مئة من فرسان الحرس الإمبراطوري، حاملين رايات مزينة بشعار الإمبراطورية، يخترقون قلب العاصمة بثبات وهيبة.
تبعهم موكب الأميرة الأولى، آيلا رويم غيرتا، في عربتها الخاصة، محاطة بوحدتها الخاصة من الحرس الملكي.
تجمّع الناس على جانبي الطرقات، يصرخون فرحًا لمجرد رؤية أحفاد دارِيان. صفوف فرسان الإمبراطورية، المرتدين دروع الأورِيالكُون –المعدن المقدّس– وملابسهم البيضاء المطرزة بشعار الإمبراطورية، ساروا بوقار في طليعة الموكب، إلى جانب المشاة المدجّجين بالدروع الفضية، يتقدمون بخطى موحدة.
ومع كل خطوة، كان الهتاف يعلو، والنساء يرمين الزهور، والجوّالة يغنون بمديح نسل الإمبراطور العظيم.
وفي لحظة بدا فيها أن الشعب قد بلغ ذروة نشوته، فتحت الأميرة الأولى نافذة عربتها وأطلت على الجموع، فتعالت الهتافات بشكل هستيري.
أيمكن أن يوجد من يناسب لقب “أميرة” أكثر من آيلا رويم غيرتا؟
كانت مهيبة كالزنبق، بشرتها نقية وردية، شعرها الكستنائي الغامق ينسدل بانسياب، وعيناها الكبيرتان بلون الزمرد…
مدّ الناس أعناقهم مثل السلاحف، يحاولون التحديق في الأميرة الأولى أكثر، ولو للحظة إضافية. بعضهم انساق خلف عربتها كمن سُحر بها. لولا تطويق الحرس الملكي للعربة، لكانت قد غُمرت بالكامل بجماهير تهتف بحماسة لا توصف.
غمرت الحشود عربة الأميرة الأولى بوابل من الدعوات والبركات، تفيض حبًا وإعجابًا.
لكن ما إن ظهرت بعدها عربة فخمة بشكل مبالغ فيه، حتى خمدت الأجواء المبهجة فجأة، كمن سكب ماءً باردًا على احتفال مشتعل. تبادل الفرسان النظرات القلقة، يتفحصون الحشود بحذر.
الجمهور الذي كان يصرخ فرحًا منذ لحظات، صمت فجأة، وتحوّل إلى همسات منخفضة بين الأذنين. بدا واضحًا أنهم أدركوا من الجالسة داخل تلك العربة: الأميرة الثانية، سيئة السمعة.تراجع البعض خطوات إلى الخلف، يرمقون العربة بنظرات تجمع بين الفضول والنفور، حتى أن بعضهم رسم إشارة الصليب على صدره أو بصق على الأرض. أطلق الفرسان المحيطون بالعربة زفرات ثقيلة؛ لم يكن من المستغرب رؤية هذا الرفض العلني.
فمن بين كل سكان العاصمة، يكاد لا يكون هناك من لم يسمع باسم “تاليا رويم غيرتا” مقرونًا بالرعب والفظائع.
منذ ولادتها غير الشرعية التي أثارت فضيحة في أرجاء الإمبراطورية، وحتى بعد إعلانها رسميًا كأميرة، لم يمر يوم دون أن تثير الفوضى أو تتورط في حادثة مشينة. خدم قصرها الخاص الذين خرجوا منه منهكين ومشوّهين كانوا كُثُر، وبعضهم انتهى به المطاف جثةً بلا تفسير.
بطبيعة الحال، نظرة الشعب نحوها كانت باردة، وربما مشوبة بالخوف والاشمئزاز.
اقترب فارس الحرس الملكي، إدريك روبون، من العربة بتردد، وقال بنبرة مترددة:
“هلّا رفعتِ الستارة وألقيتِ تحية على الناس؟”
لكن لم يصدر من داخل العربة أي رد.
نظر إدريك إلى الستائر الثقيلة التي حجبت كل شيء، بنظرة لا تخلو من الامتعاض.
فمنذ بداية الموكب، لم تلمح الأميرة الثانية ولو لمحة من الخارج. كانت حبيسة عربتها، ترفض التفاعل تمامًا، ويبدو أنها لا تزال غاضبة مما جرى مع السير شيوركان في وقت سابق.
ابتلع تنهيدة كادت تخرج رغماً عنه.
لو أنها فقط أظهرت وجهها الجميل للحظة… لربما خفّت نظرة الناس تجاهها.
في نظره، كانت تفتقر إلى أبسط أشكال اللباقة.
كم من الرجال كانوا سيقدمون لها أرواحهم لو فقط تصرفت بلطف؟ لكنها تصر على معاملة الجميع بحدة وقسوة، وكأنها تعمدت أن تثير الكراهية. حتى جمالها اللافت، الذي ورثته عن والدتها، بدا وكأنه باهت بفعل شخصيتها النارية.
كم من الفرسان استقالوا من مناصبهم، عاجزين عن تحمل طبعها السيئ؟ لولا صبر السير شيوركان، الذي بقي بجانبها لسبع سنوات، لبدت قصصها أسطورية في قسوتها.
ومع ذلك، لا يبدو أنه عاش حياة هادئة معها تمامًا…
أدار إدريك نظره إلى الأمام، متذكّرًا اللحظة التي رمى فيها باركاس الأميرة داخل العربة وكأنها كيس من الأمتعة.
وسط الصفوف المنتظمة من الفرسان، لمح إدريك ظلّ باركاس وهو يسير مرتديًا قلنسوة سوداء تغطي وجهه.
حتى هو، فارس الشرف والانضباط، بدا وكأنه فقد صبره معها أخيرًا.
كان هذا في حد ذاته مذهلًا. كم من القسوة يجب أن تكون فيها الأميرة الثانية حتى تدفع رجلًا كرس ولاءه الكامل للعرش للقيام بفعل كهذا؟
لولا أنه رأى كل هذا بعينيه، لما صدق. وربما، فقط ربما، كانت تاليا رويم غيرتا تملك موهبة فريدة… في إثارة العداء أينما حلّت.
التعليقات لهذا الفصل " 20"