ما إن مرّت تاليا أمام القصر الرئيسي، حتى بدأ الخدم الذين تعرفوا عليها يحنون رؤوسهم بسرعة نحو الأرض.
هل كانوا يخشون أن تقوم بفضيحة أو تبدأ بشجار كما يُشاع عنها؟
تجاهلتهم تماماً، وواصلت سيرها بثبات بين صفوف الوصيفات اللواتي جمدت ملامحهن من الذهول حين رأينها تدخل فجأة دون سابق إنذار.
ثم عبرت أبواب القصر الإمبراطوري متجهة إلى الجناح المخصص للإمبراطورة، الأجمل والأكثر فخامة في كامل القصر.
في مثل هذا الوقت، وقت غروب الشمس، كانت سينيفيير — الإمبراطورة — إما تتناول العشاء مع الإمبراطور في القصر الرئيسي، أو تمضي وقتها بهدوء في قصرها الخاص.
وتاليا خمّنت أنها ستكون في الخيار الثاني اليوم.
وكانت محقة.
فقد كانت سينيفيير تسترخي داخل غرفة سرية تقع خلف مكتبتها الخاصة.
نزلت تاليا عبر الممر الضيق بين الرفوف المؤدية إلى القبو، وهناك استقبلها مزيج خانق من روائح الأعشاب الطبية والزيوت العطرية الثقيلة، ممزوجة بدخان خفيف يثير الحكة في الأنف.
في الغرفة الواسعة، التي بدت كأنها تعج بذرات من الضوء البنفسجي، انتشرت زجاجات تحوي مواد كيميائية غريبة، وأدوات لتجارب الخيمياء، وكتب مكدسة بلغات متنوعة من شتى الأجناس، قرب موقد ضخم يتقد بحرارة مشتعلة.
المشهد بدا فوضويًا بشكل يصعب تصديقه، خاصة أن الغرفة تعود إلى امرأة اشتهرت بذوقها الراقي وانجذابها إلى الفخامة.
لكن تاليا عبرت الغرفة بخطى واثقة كما لو كانت معتادة على هذا الفوضى، وتقدمت مباشرة نحو المكتب حيث كانت سينيفيير تجلس متكئة إلى ظهر كرسي وثير مغطى بمخمل سميك، تتصفح لفيفة من الرق.
عدم التفاتها إليها أشعل النار في أحشاء تاليا.
انحنت قليلاً نحو المكتب، وتحدثت من بين أسنانها بحدة:
“قبل قليل، جاء أستروس لرؤيتي.”
عندها فقط، التفتت إليها عينا الإمبراطورة الزرقاوان ببطء.
أكملت تاليا كلامها بنبرة ساخرة:
“ويبدو أنني سأُزفّ قريبًا، على حدّ قوله.”
“لم أكن أعلم أن أستروس يهتم بك إلى هذا الحد.”
ردّت سينيفيير وهي تضع الرق جانبًا بنبرة لا مبالية.
تركيزها الدائم على شقيقها فقط، كان كفيلاً بأن يدفع تاليا إلى نوبة غضب.
قبضت على ثوبها بشدة، تحاول أن تكبت رغبة جارفة في قلب الطاولة رأسًا على عقب.
قالت بصوت مرتجف من الغيظ:
“ولِمَ عليّ أن أسمع بخبر زفافي من طفل؟ ولماذا أُدرِج اسمي فجأة في رحلة الحج القادمة؟ ما الذي تُدبّرينه بحق السماء؟”
“أدبّر ؟ يا لك من درامية…”
قالت سينيفيير، وهي تنهض من مقعدها بحركة رشيقة، مثالية كعادتها، تثير الإعجاب رغم كل شيء.
نظرت إليها تاليا بريبة، غير مطمئنة حتى لابتسامتها الهادئة.
ثم قالت الإمبراطورة بنبرة مرحة كأنها فتاة صغيرة:
“لقد حان وقت زواجك ببساطة. جاء عرض زواج في التوقيت المناسب ومن شخص مناسب، فقررت أن أُتم الأمر.”
“وهذا الشخص المناسب… هل هو سيريان؟ ذلك الزاحف المتصنّع؟”
تذكرت تاليا الرجل الممل الذي رافقها في حفل العشاء، وانحنت شفتاها بازدراء.
“أنا متأكدة أن والدتي العزيزة فحصته بدقة، أليس كذلك؟”
“إن كنتِ تسألين إن كان مؤهلاً كرجل…”
ردّت سينيفيير بابتسامة هادئة، “فأجل. لديه من القدرات ما يجعله يرضيك تمامًا، وسيسعد بخدمتك بكل سرور.”
كان تعليقها أشبه بطعنة.
كانت تاليا قد قالت ذلك لتسخر من تاريخ أمها مع الرجال، لكن الرد أتى أكثر إيلامًا وسُمًّا مما توقعت.
كل كلمة من سينيفيير بدت وكأنها عنكبوت يزحف على جلدها.
صرخت تاليا من القهر:
“لا أريد رجلاً كهذا! أن يلمسني هذا المقزز؟! سأعضّ على لساني وأموت قبل أن أسمح بذلك!”
تنهدت سينيفيير بأسى، ووضعت يدها برفق على خدها وكأنها تأسف على حال ابنتها.
“في هذه الحالة، سأبحث عن زوج آخر. كنت بالفعل أراجع قائمة أخرى من المرشحين المحتملين.”
أشارت سينيفيير إلى الرقّ الذي وضعته على سطح المكتب، وتاليا لمحت بعض الأسماء المكتوبة عليه، فاقشعرّ بدنها.
كلهم من أولئك الرجال المهووسين بعبادة سينيفيير.
هل تنوي هذه المرأة أن تختار لأبنتها زوجًا من بين الرجال الذين يتوقون إليها شخصيًا؟
غليان من الغضب والذعر تصاعد في أعماق تاليا.
“لا أريد الزواج! لا تحاولي التظاهر فجأة بأنك تهتمين بي، فقط اتركيني وشأني كما كنت تفعلين دائمًا!”
لكن سينيفيير ردت، بنبرة تنبش في أعمق جراحها:
“هل هذا يعني… أنك لا تريدين أي رجل سوى وريث دوقية شيوركان؟”
جمدت تاليا في مكانها وقد شحب لون وجهها كأن الدم انسحب منه دفعة واحدة.
ابتسمت سينيفيير بسخرية، ولسانها يلسع كأفعى:
“إن كنتِ تريده بهذا القدر، كان عليكِ أن تفعلي المستحيل لتحصلي عليه. لقد أبقيته بجانبك طوال سبع سنوات كاملة. فأخبريني، ماذا فعلتِ خلال كل هذا الوقت؟”
هزّت رأسها بأسى، كما لو كانت تعاتب طفلة حمقاء.
“الآن، الرجل الذي رغبتِ فيه، سيكون قريبًا في أحضان امرأة أخرى. هل ستقفين مكتوفة الأيدي وتشاهدين؟”
ارتجف جسد تاليا كله. ما أرعبها لم يكن الكلام فحسب، بل إدراكها أن والدتها كانت طوال الوقت تقرأها ككتاب مفتوح.
تأملت سينيفيير وجه ابنتها الشاحب، ثم عادت فجأة لارتداء قناع الأم الحنون، تتحدث بنعومة كمن يدغدغ جرحًا مكشوفًا:
“تاليا، كل هذا كان من أجلك. لأمنحك مخرجًا من هذا الوضع البائس الذي تعيشينه.”
مدّت يدها، وأصابعها الطويلة البيضاء لامست خد ابنتها بلطف، كأن أفعى بيضاء زحفت على جلدها.
تاليا تجمّدت، وكأنها أصيبت بالشلل.
وهمست سينيفيير بنعومة تشبه نغمة ريشة تمرّ على الأذن:
“أمامك طريقان لا ثالث لهما. إما أن تقاتلي لتحصلي على من تريدين، مهما كان الثمن، أو أن تختاري أن تخسري… لكن بأقل قدر من الإذلال.”
كان صوتها الناعم ينساب لزجًا، يلتصق بالأذن كما يلتصق الصمغ الرطب بالجلد.
“أنا اخترت الطريق الأول، وحصلت على كل ما أردته في النهاية. لكن إن كنتِ عاجزة عن ذلك، فباستطاعتك دائمًا أن تفتعلي سعادة زائفة مع رجل آخر لا بأس به. وإن كانت حيلة سخيفة، فهي تظلّ على الأقل انتصارًا صغيرًا في وجه الهزيمة، ألا تظنين؟”
تاليا انتفضت بعيدًا عنها كما تفعل الفريسة عندما تفلت من فخ مفاجئ.
ابتسمت لها سينيفيير بلطف، كأن شيئًا لم يكن.
“هذه الرحلة القادمة، هي فرصتك الأخيرة. فكّري جيدًا… أي طريق ستختارين؟”
رمقتها تاليا بنظرة تمتلئ بالرفض والتمرّد، ثم استدارت وغادرت المختبر مسرعة كمن يهرب.
ضحكة ناعمة، أشبه بزقزقة طائر، لاحقتها كظلّ ثقيل… وبقي صداها عالقًا في أذنيها، لا يغادرها.
***************
بعد أيام قليلة…
انتهى الأمر بتاليا إلى أن ترافق إخوتها غير الأشقاء، الذين لا يكنّون لها إلا الكراهية، في الرحلة المنتظرة.
لحسن الحظ، تكفّل قصر الإمبراطورة بتوفير كل الموارد والتجهيزات، فلم تكن تاليا بحاجة لأن تقلق بشأن أيّ تفاصيل.
بل إن سينيفيير أرسلت أيضًا مجموعة من حراسها الشخصيين وبعض كبار السحرة ليكونوا بمثابة حرس خاص لابنتها.
لكن هذا الترتيب سرعان ما انهار بعد اعتراض غاريس الشديد — ولي العهد — الذي كان غاضبًا أصلًا لفكرة اصطحاب أخته غير الشقيقة في الرحلة، فما بالك بأن يرافقها رجال والدتها المخلصون؟
وفقًا لما تسرّب من أخبار، فقد توجه غاريس بنفسه إلى الإمبراطور، وخاض نقاشًا حادًا حتى تمكّن من إلغاء أوامر سينيفيير.
وكان ذلك من حسن حظ تاليا، فهي الأخرى لم تكن لترغب في قضاء أيامها وسط أولئك التابعين المتعصبين لأمها.
(من أجلي؟ لا تضحكيني…)
كانت تاليا تراقب الخدم وهم يحمّلون الأمتعة على العربة، وتمزّق الجلد الجاف قرب ظفرها بأسنانها.
لا… لم تفعل سينيفيير كل هذا بدافع الأمومة.
لا بد أن هناك دافعًا خفيًا، نية مبيتة لا تظهر على السطح.
نظرت بريبة نحو الخدم الذين أُرسلوا من جناح الإمبراطورة. عيناها مليئتان بالشك.
التعليقات لهذا الفصل " 18"
الامبراطورة 🐍🐍🐍