نظرت تاليا بعيون حذرة إلى الفتى الصغير الذي كان يحدّق فيها بعينين بريئتين لامعتين.
“ما الذي أتى بك إلى هنا؟”
“تسللت من القصر لأراك، أختي.”
أجاب الطفل بنبرة مرحة تُدهش من صغر سنه، وكأن جرأته تفوق عمره.
تجهم وجه تاليا. كان الطفل، أستروس، قد أتم عامه السادس لتوّه، ومع ذلك، لم يكن بالنسبة لها سوى شوكة في القلب يصعب اقتلاعها.
رغم أنهما يشتركان في الوالدين، إلا أن مصيريهما لم يكن بينهما أي وجه شبه.
ذلك الطفل البريء وُلد من زواج شرعي بين الإمبراطور والإمبراطورة، بينما هي، لم تكن سوى ثمرة علاقة آثمة.
كانت تاليا قد شهدت بعينيها مراسم معمودية أستروس، حين غمرته بركات الجميع، وتملّكها شعور بالغيرة حاد، كطعنة تخترق صدرها. لم تتصور يوماً أن تحقد على رضيع لا يكاد يفتح عينيه، لكن الكراهية كانت تغلي في داخلها.
ولأن سينيفيير، الإمبراطورة، أدركت سريعاً ما يعتمل في قلب تاليا، فقد منعتها تماماً من الاقتراب من ابنها المدلل، بعدما رأت أنها لم تعد ذات نفع.
ومنذ ذلك الحين، لم ترَ تاليا شقيقها إلا في المناسبات الرسمية. أما رؤيته عن قرب، كما في هذه اللحظة، فلم تحدث منذ يوم معموديته.
نظرت حولها بقلق، حاجباها معقودان.
“هل جئت وحدك إلى هنا؟ إن علمت والدتنا بذلك…”
“لست وحدي، جئت مع بيرينس.”
قال الطفل بثقة، ثم أدار جسده مشيراً إلى ركن مظلم في الرواق.
عندها فقط، استطاعت تاليا أن تميّز رجلاً يقف في الظل، يرتدي السواد. كان رجلاً ذا وجه شاحب، كالأشباح، اعتاد أن يحرسها في الماضي.
أما الآن، فكان واقفاً بجوار أستروس، يراقبها بعينين متيقظتين، وكأنه مستعد للتحرك فوراً إن شعر بأنها قد تؤذي الطفل ولو لوهلة.
شعرت بالمرارة تتصاعد في حلقها.
تلك العيون السوداء كانت تقول بصمت قاسٍ:
“لن تكوني أبداً شخصاً مهماً لأي أحد.”
أخفت تاليا ما في داخلها، وسألت ببرود:
“ما سبب مجيئك لرؤيتي؟”
“سمعت أنكِ ستغادرين قريباً في رحلة بعيدة، لذلك…”
“رحلة بعيدة؟ أنا؟”
قاطعت تاليا شقيقها بصوت حاد متوتر.
توقف الصبي لبرهة وقد بدا عليه الارتباك من رد فعلها القاسي، ثم أكمل كلامه بحذر:
“قالت والدتي إنك ستشاركين في رحلة الحج هذه المرة…”
ظلت تاليا تحدق في وجه شقيقها بذهول، ثم انفجرت فجأة في ضحكة جافة وقاسية. ارتبك الصغير وتراجع خطوة إلى الخلف، وكأنه رأى فيها شيئاً جنونياً، حتى بعينيه البريئتين.
انحنت تاليا نحوه وهي ما تزال تضحك، ثم سألت بصوت ناعم متصنع:
“وماذا قالت أيضاً… والدتنا؟”
تردد أستروس طويلاً. بدا وكأنه أدرك لتوه أنه أغضب أخته بشدة.
لكن هذا الصبي لم يكن من النوع الذي يخاف أو يتراجع عن قول ما يريد.
“قالت… إنك قد تتزوجين قريباً. إن رجلاً يُدعى الكونت سيريان تقدم بطلب رسمي للزواج…”
وبينما كان يكمل جملته، تجمد فجأة.
ربما لأن ملامح تاليا لحظتها كانت تنذر بالعاصفة. عندها، اقترب الحارس، الذي كان يراقب بصمت من بعيد، ووقف بينهما. ربما كان يخشى أن تفقد عقلها من الغضب وتؤذي الطفل.
لكن تاليا تجاهلت الحارس تمامًا، وأبقت عينيها مثبتتين على وجه أستروس البريء.
“إذًا جئت لتبارك لي؟ لأنني – الشوكة في خاصرة العائلة الإمبراطورية – سأرحل أخيرًا عن القصر الملكي؟ أردت أن تودعني بابتسامة سعيدة؟”
رغم نبرتها الهادئة، كانت كلماتها تحمل سُمًّا خفيًا، جعل جسد الصبي يرتجف قليلاً.
أجابها باستياء، وكأن الظلم يُثقل صدره:
“إن غادرتِ وتزوجتِ، فلن أستطيع رؤيتك كما من قبل… أردت فقط الحديث معك قبل أن يحدث ذلك. فنحن إخوة، نشارك نفس الأم.”
كان في صوته بريق من الأمل الصادق، رغبة طفولية نقية.
“لطالما تمنيت أن نكون قريبين، مثل الأخت الكبرى وأخيها. لكن إذا تزوجتِ، ربما لن تتاح لنا فرصة كهذه مجددًا… لهذا جئت إليك.”
نظرت تاليا إلى عينيه الواسعتين الممتلئتين بتلك الآمال… دون أن تشعر بشيء.
كانت تعلم يقيناً أن هذا الطفل، بوجوده وحده، قد جعل منها كائناً لا قيمة له.
الإمبراطورة، والإمبراطور، والابن المثالي الذي أنجباه معًا…
وهي؟ لم تكن سوى بقعة سوداء شوهت تلك الصورة المثالية، لطخة يرغب الجميع في محوها. وكلما ازداد أستروس إشراقًا، ازداد الظلام المحيط بها عمقًا.
وكان أسوأ ما في الأمر أنها كانت تحسده حدّ الألم. بل إن رؤيته وجهاً لوجه كهذه كانت بحد ذاتها عبئًا ثقيلًا لا يُحتمل.
نظرت إليه، إلى هذا الطفل المتوهج بالأمل، وسخرت بمرارة:
“هل تعتقد أنني مثل مثلها؟ تحاول الأخت الكبرى أن ترفع شقيقها التوأم إلى العرش، سأفعل الشيء نفسه من أجلك؟ هل تظن أنني سأضحي بكل شيء لأجلك؟”
“أنا… لم أقصد ذلك أبداً!”
“لستَ بحاجة حتى لطلب ذلك. والدتنا خططت بالفعل كيف تستغلني لخدمتك. زواجي؟ من المؤكد أنه يصب في مصلحتك بطريقة ما. فلا تُضيّع وقتك بأوهام لا طائل منها، أخي الصغير.”
لم يكن أستروس معتادًا على العداء الصريح. فتعابير وجهه المرتبكة كشفت كم كان مدللًا ومحميًا طوال حياته.
لا بد أنه لم يختبر الخوف قط.
ربما كانت هذه المواجهة هي أول جرح يتلقاه في حياته.
ورغم ذلك، رفعت تاليا شفتيها بابتسامة تحمل سُخرية جارحة:
“لا تتوقع مني أن أكون أختك الحنونة والمخلصة. فأنا ببساطة… أكرهك، تماماً كما أكره إخوتنا التوأمين.”
تلألأت الدموع في عيني الطفل من وقع الصدمة.
لكن تاليا لم ترحمه، وأضافت ببرود قاسٍ:
“فهمت كلامي؟ إذًا غادر الآن، ولا تعد.”
زمّ الطفل شفتيه محاولًا ألا يبكي، ثم استدار وغادر الرواق الطويل الفارغ بسرعة.
وتبعه الحارس بهدوء دون أن يصدر أي صوت.
عادت تاليا إلى غرفتها وأغلقت الباب بإحكام، ثم مشت نحو النافذة.
كان لون السماء قد تحول من الأزرق إلى البنفسجي الباهت، إيذاناً بانتهاء النهار.
العمال الذين كانوا ينقلون الأمتعة غادروا لأخذ قسط من الراحة، ولم يكن هناك أي فارس في الساحة؛ فقد عادوا جميعًا إلى مساكنهم.
رفعت تاليا سبابتها إلى شفتيها لا إراديًا، لكنها توقفت عندما شعرت بألم حاد.
بين ظفرها المشقوق كان الدم يتسرب، قانياً داكناً.
رؤية ذلك الدم أشعلت في داخلها سمًا قديمًا، ظل يتسرب من قلبها حتى بلغ حلقها.
كادت تصرخ، لكنها تمالكت نفسها.
أمسكت برداءٍ ثقيلٍ كان معلقًا على الجدار وارتدته فوق قميصها الخفيف، ثم خرجت من القصر الفرعي دون أن تصحب معها خادمة واحدة.
التعليقات لهذا الفصل " 17"
تحزن بس طلعت عقدها النفسية على رأس الولد