رمقتها بنظرة مريبة، تشع منها الشكوك، وهي تحدق في سينيڤيير.
ما الذي تخطط له؟ ولماذا تصرّ على اصطحاب تاليا معها؟ فكل ما تجيده تلك الفتاة في أفضل الأحوال هو إزعاجها بحيل سخيفة لا طائل منها.
لكن سينيڤيير ليست ممن يستخدمون الإمبراطور لمجرد نزوة تافهة، لا بد أن هناك نية خفية وراء الأمر.
اعترضت آيلا بنبرة حازمة نوعاً ما:
“عادةً ما تُرسل نساء العائلة الإمبراطورية في رحلة حج تمهيداً للزواج، أليس كذلك؟ لماذا الآن بالتحديد تُصرين على إرسالها؟”
أجابت سينيڤيير بنبرة مرحة:
“من المحتمل أن تاليا ستتزوج قريباً.”
قطبت آيلا حاجبيها. لم تسمع قط عن خطبة قُدّمت لتاليا.
صحيح أنها ابنة غير شرعية، لكن اسمها سُجّل في سجل العائلة الإمبراطورية كأميرة. زواجها لا يمكن أن يُرتب بالخفاء. من المؤكد أن كل هذا مجرد ذريعة ملفقة لتبرير اصطحابها في الرحلة.
نظرت إلى الإمبراطورة وقد امتلأت عيناها بالشك، فارتفع صوت باركاس ببرود:
“يا له من توقيت مناسب لخطبة!”
ورغم هذا التعليق اللاذع، بقيت سينيڤيير متماسكة وابتسمت:
“يبدو أن السعادة ستتوالى على العائلة الإمبراطورية. لم تُعقد الخطبة رسمياً بعد، لكنني والإمبراطور ننظر للأمر بإيجابية.”
ارتسمت سخرية واضحة على شفتي باركاس:
“وهل لي أن أعرف من هو هذا العريس السعيد الحظ؟”
“حتماً سمعت باسمه من قبل. إنه ڤيردين سيريان، رأس عائلة سيريان. أرسل طلب الزواج قبل أيام.”
قالتها سينيڤيير بابتسامة أمومة مصطنعة.
“الفتاة قد أتمت سن الرشد منذ مدة، وأظن أنه قد حان وقت زواجها. وهو عريس مناسب.”
كادت آيلا أن تضحك، لكنها كتمت ضحكتها. ڤيردين سيريان؟ إنه أحد المتحمسين المتعصبين للإمبراطورة.
تقول الشائعات إنه كان لفترة أطول حبيب الأميرة تارين. والآن تريد تزويجه بابنتها؟ أهي مجنونة؟
تذكرت آيلا كيف ظهرت تاليا إلى جانب ڤيردين في إحدى الحفلات، وشعرت بالغثيان. أم تزوّج ابنتها لحبيبها السابق، وابنة توافق على ذلك؟ لا شك في أن الاثنتين مختلتان.
قال الإمبراطور بنبرة صارمة وهو يومئ بيده لإنهاء الحديث:
“بما أن الأمر قد حُسم، فلتُباشروا تحضيرات الفتاة للسفر.”
رفع باركاس رأسه نحو سيده بتعبير يصعب تفسيره، ثم انحنى بهدوء وغادر القاعة.
نظرت آيلا إلى سينيڤيير بنظرات متوجسة، ثم استدارت نحو باركاس بدهشة، لم تكن تتوقع أن يستسلم بهذه السهولة.
أدّت التحية بسرعة، ثم لحقت به على عجل.
“هل تنوي فعلاً اصطحاب تاليا معك؟ قصة زواجها مجرد ذريعة، وسينيڤيير تخطط لأمر مروّع، أنا متأكدة.”
ردّ بهدوء وهو يهبط السلم دون أن يلتفت:
“أجل، يبدو ذلك.”
تبعته بسرعة، تمسك بذيل ردائه وهي تهتف، صوتها يرتعش بالغضب والقلق:
“هل هذا كل ما في الأمر؟! أنت تعلم أن الإمبراطورة قد تستغل الفتاة للقيام بشيء شنيع ومع ذلك…!”
توقف فجأة والتفت إليها بنظرة باردة، جعلتها تتراجع خطوة للخلف من شدة الصدمة.
“وماذا تريدين مني أن أفعل؟” قالها بنبرة حادة.
كان قبل أقل من ساعة فقط يبتسم لها، والآن ينظر إليها كغريب، بل كعدو. قالها بسخرية:
“أتريدين مني أن أتمرد على أوامر الإمبراطور؟”
“أنا فقط…”
قاطعها:
“هو إمبراطور هذه الإمبراطورية، وأنا أقسمت الولاء له. لم يكن أمامي منذ البداية خيار سوى الطاعة. أليس هذا ما تطلبونه دوماً من أمثالي؟”
صُدمت آيلا بتلك الكلمات القاسية. كان ينظر إليها بلا أي دفء، ثم استدار وأكمل سيره.
نظرت إلى ظهره وهو يبتعد، وكل خلية في جسدها امتلأت بالخوف. كطفلة صغيرة، ركضت نحوه ولفّت ذراعيها حول خصره بقوة.
“أنا آسفة! كنت قلقة، لهذا انفجرت في وجهك. فقط… لا تبتعد عني هكذا ببرود.”
شعرت بهدوء يتسلل إلى جسده تدريجياً، ثم التفت إليها وضمّها بلطف. مثلما كان يفعل حين كانا صغيرين، مسح على رأسها وقال:
“لا داعي للقلق. مهما كانت مؤامرة الإمبراطورة، لن تُصيبك بأذى أبداً.”
رفعت وجهها ونظرت إليه، ذلك الرجل الذي بدا للحظة غريباً، قد عاد الآن إلى هيئته الأصلية: الفارس الوفي. شعرت وكأن مشاعرها المتخبطة عادت فجأة إلى اتزانها.
رجل قادر على زعزعة كيانها بكلمة، ثم تهدئتها بكلمة أخرى… أمامه، لم يعد لمكانتها كأميرة أي وزن.
تمسكت بصدره البارد الذي لم يدفأ رغم السنوات، وحدقت في عينيه الزرقاوين الخافتتين بلهفة.
ما الذي يراه هذا الرجل؟ عيناه كانتا دوماً تجولان في أماكن بعيدة، كأنهما تبحثان في الفراغ.
قال وهو يمسح خصلات شعرها عن خدها:
“لقد أقسمت لوالدتك الإمبراطورة الراحلة أنني سأحميكما قدر استطاعتي.”
وأضاف، بصوت واثق:
“وسأوفي بذلك الوعد مهما حصل. لذا، لا داعي لأي قلق، يا صاحبة السمو.”
تأملته آيلا لبرهة طويلة، ثم أومأت برأسها في النهاية.
نعم، ما دام هذا الرجل في صفّها، فلا داعي للخوف. أبداً.
************
ما إن قصّت ظفرها المكسور حتى شعرت بالفراغ.
كم من الوقت تحتاج لينمو مجدداً حتى يمكنها غرسه في عمق لحم أحدهم؟ نظرت تاليا بقلق إلى الظفر الزهري الصغير الذي بدأ بالكاد يظهر من جديد.
الإحساس بالفخر لأنها خدشت ولي العهد لم يدم طويلاً. لا بد أنه لجأ فوراً إلى كاهن ليُعالج جرحه تماماً. أما هي، فقد فقدت “سلاحها السري” الذي اعتنت به لأسابيع في لحظة.
كان من الأفضل لو استخدمته ضد آيلا…
كم مرة تخيّلت نفسها وهي تغرز ظفرها في تلك العينين الخضراوين كلما نظرت تلك المرأة إلى باركاس!
بدأت تاليا تجرح جلدها مكان الكسر. انسلخ القشر، وبدأ الدم يرشح. ازدادت حدة توترها. حدقت مطولاً في لون الدم المتسرب على ظفرها، ثم لعقته بخفة، ونهضت من أمام النافذة.
كان من الصعب رؤيته اليوم. لم تعد هناك حاجة لتحمّل حرارة الشمس المزعجة لأجل ذلك.
عبرت الغرفة بتثاقل، سكبت ماءً بارداً في الوعاء، وغسلت وجهها المتعرّق. حينها، سمعت طرقاً على الباب.
لابد أن مربيتها جاءت مجدداً تحمل بعض الحلوى.
قالت بفتور وهي تمسح وجهها بقطعة من الكتان:
“ادخلي.”
لكن من دخل لم يكن القزمة القصيرة السمينة، بل كان صبياً صغيراً بشعر كثيف بلون بني مائل إلى الأحمر، وعينين خضراوين متوهجتين.
التعليقات لهذا الفصل " 16"
آيلا واخوها شغل استفزاز