انزعجت آيلا من انقطاع لحظتها الخاصة، فانعقد حاجباها بضيق.
وحين استدارت، رأت رجلاً يقترب مسرعًا من الحديقة الخلفية، مرتديًا زيّ الحرس الإمبراطوري. كان اسمه “رووين”، الفارس الذي أُوكل إليه حماية والدها في هذه الرحلة بدلًا من القائد العام “باركاس”.
انحنى رُووين أمامها بتحية خفيفة، ثم التفت على عجل إلى قائده وقال بصوت ملهوف:
“جلالة الإمبراطور يأمركم بالحضور فورًا، سيدي القائد.”
بمجرد سماعها ذلك، فهمت آيلا غريزيًا أن “سينيفيير” هي من استدعت باركاس. وكان يكفي أن ترى ملامح القلق على وجه الفارس لتدرك أن شيئًا سيئًا على وشك الحدوث.
عضّت على شفتها. هذه الرحلة تمّت بموافقة مجلس الشيوخ، وزواجها من باركاس كان ثمرة جهود النبلاء المحافظين المؤيدين لولي العهد منذ سنوات طويلة. مهما حاولت تلك المرأة الآن أن تفتعل شيئًا، فلن تتمكن من قلب الموازين.
ومع ذلك، لم تستطع آيلا طرد شعورها بالقلق. فمنذ زمن بعيد، لم تترك سينيفيير وسيلة إلا واستخدمتها للتفريق بين غاريس وباركاس.
لقد تحدّت حتى رفض دوق “شيوركان” القاطع، وتمكنت من إبقاء باركاس بجوار “تاليا” لمدة سبع سنوات كاملة، منذ تنصيبه. ولا شك أنها الآن تسعى مجددًا للتلاعب بالإمبراطور لزرع العراقيل.
ورغم علمها بأن ذلك تصرّف غير لائق، إلا أنها تدخلت دون تردد:
“سأذهب معكم.”
“ولكن جلالة الإمبراطور لم يطلب—”
“أنا أميرة هذه الإمبراطورية. لي الحق في مقابلة والدي متى شئت. وقد قررت أن أزوره بصحبة خطيبي.”
بدت ملامح الفارس مشوشة من لهجتها الصارمة، ثم التفت بحذر إلى باركاس كما لو أنه ينتظر موافقته. شعرت آيلا بشيء من الاستياء، لكن لم تُظهر ذلك، لأنها كانت تدرك جيدًا مدى احترام الفرسان لباركاس.
أومأ باركاس أخيرًا برأسه.
“افعلوا ما ترغب به سمو الأميرة.”
وبمجرد أن أُعطيت الإذن، سار الفارس بجانبها ليؤمن حمايتها.
سارت آيلا بخطى مستقيمة مغادرةً الحديقة متوجهةً نحو القصر الرئيسي.
وحين عبرت بوابة القاعة الكبرى، استقبلتها أشعة شمس الصيف القوية المنعكسة داخل المبنى، فخطت على الرخام الأبيض الساطع متوجهة نحو السلالم المفروشة بسجاد قرمزي.
على البوابة الموصلة إلى قاعة العرش، كانت منحوتات للإمبراطور المؤسس “داريان” وفرسانه المخلصين مرسومة بتفاصيل دقيقة.
وبينما كانت تعبر الباب المهيب، مرّت بعينيها على تلك الوجوه البطولية المعتادة، إلى أن ظهرت أمامها القاعة الفسيحة التي تزيّنها الزخارف، وفي نهايتها العرش الذهبي اللامع.
وقفت آيلا بشموخ، تنظر إلى الإمبراطور الذي يملك كل شيء، وإلى المرأة الواقفة إلى جواره.
كان والدها كعادته، جامد الملامح، بينما “سينيفيير”…
توقفت أفكارها فجأة. فقد اجتاحها شعور عميق بالعجز والخذلان عندما وقعت عيناها على الإمبراطورة، المتألقة بهالة ذهبية تكاد تعمي الأبصار.
“الشيطان الذهبي…”
كلما نظرت إليها، تذكّرت آيلا حكاية قديمة من طفولتها:
كان هناك أخوان متحابان يعيشان في قرية صغيرة، غير أن شيطانًا يكره كل ما هو طيب ألقى قطعة ذهب ضخمة في طريقهما. انبهر الأخوان ببريق الذهب، واختلفا حتى انتهى بهما المطاف إلى إيذاء أحدهما الآخر.
حين رأت آيلا “سينيفيير” لأول مرة، شعرت أن ذلك الذهب الملعون قد اتخذ هيئة بشر ليقضي على ما تبقى من عائلتها.
كان بريقها كافيًا ليعمي قلب حاكم شريف، وليلوّن حياة امرأة بالحسرة، ويدفع أخويْن للعيش في الذلّ والانكسار.
والآن، لم تكتفِ، بل أنجبت من الإمبراطور ولدًا بات يشكّل تهديدًا حقيقيًا لمكانة غاريس.
انحدر نظر آيلا تلقائيًا إلى الطفل الواقف بجانب الإمبراطورة.
الأمير الثاني “آستروس لويم غيرتا” كان يحدّق فيهما بعينين خضراوين فضوليتين.
في كل مرة ترى فيها تلك النظرات الذكية، تشعر آيلا بتهديد جارف. لم تفهم لماذا يضع غاريس كل حقده على “تاليا”، بينما الأخ الذي يليه في ترتيب الخلافة يبدو أكثر خطورة بما لا يُقارن.
يكفي أن تتذكر الإهانات التي تحملتها والدتها بسبب “تاليا”، لتشعر بالمرارة.
لكن الحقيقة أن تاليا، رغم كل ما قيل، لم تكن أكثر من ظلّ باهت من الماضي، لا تملك من القوة أو المكانة ما يُذكر.
كل ما فعلته منذ قدومها للقصر هو التسبب بالفضائح وإزعاج الخدم الأبرياء. فتاة سخيفة لا قيمة لها.
أما “آستروس”… فكان مختلفًا.
كانت تعلم أن الكثيرين في القصر، قد استهوتهم براءة ذلك الطفل.
والأسوأ، أن من يخشون طبع غاريس الصدامي بدؤوا يعلّقون الآمال على الأمير الصغير.
“لمَ لا تنحنين كما ينبغي؟”
كان صوت الإمبراطور ثقيلًا حين قاطع أفكارها.
رمقها باستغراب وهي لا تزال واقفة.
اقتربت آيلا من خطيبها وانحنت بأدب.
“أردت رؤية وجه والدي، لذا تبعت سير شيوركان. أرجو أن تعذروني على القدوم دون إشعار.”
“ارفعي رأسك. أنتِ تستطيعين زيارتي وقتما تشائين.”
قال الإمبراطور “فيروس لويم غيرتا” بصوت دافئ، كما لو كان يراها من خلال ذنب قديم.
ربما كانت رؤيتها تذكّره بالمرأة التي خانها، فكان دائمًا يعاملها بلينٍ خاص.
أجفلت آيلا ابتسامتها وحيّته بانحناءة أعمق.
“أشكرك على كرمك، يا أبي.”
“بل هذا مناسب تمامًا. ستعرفين الخبر عاجلًا أم آجلًا، فالأفضل أن نعلنه الآن أمام الجميع.”
قالت سينيفيير وهي تميل نحو الإمبراطور، تربّت بلطف على شعر ابنها.
وكان “آستروس” يتابع الحوار بفضول طفولي، فيما رمقته آيلا بنظرة حذرة قبل أن تتوجه بنظرة حادة إلى الإمبراطورة.
“عن أي خبر تتحدثين؟”
أجابت سينيفيير بنعومة وهي تداعب يد الإمبراطور:
“سيُخبركم جلالته بالتفاصيل.”
لم ترد آيلا أن تنظر إلى يديهما، فغضّت بصرها كأنها لم ترَ شيئًا.
ومضى وقت في صمت ثقيل، إلى أن تكلم الإمبراطور أخيرًا بعد تردد:
“دعوتك اليوم، لأن هناك تغييرًا طرأ على ترتيبات الرحلة.”
“أمرني يا مولاي، أنا رهن إشارتك.”
أجاب باركاس بلا أي انفعال، رغم المفاجأة.
وربما أزعج ذلك الإمبراطور، الذي تابع بنبرة خشنة:
“تاليا ستنضم إلى هذه الرحلة. زيدوا عدد الحراس لحمايتها، وجهزوا ما تحتاجه.”
تجمدت آيلا في مكانها من وقع الخبر غير المتوقع.
التعليقات لهذا الفصل " 15"