“ألن تذهبي وتحادثيه؟”
سألتني إحدى الوصيفات بإلحاح، وقد بدا عليهن الضيق من مجرد مراقبتي له من بعيد. جميعهن كن يتلهفن لرؤية باركاس عن قرب، وبعضهن لم يخفِ نظرات الإعجاب العميقة التي تجاوزت مجرد التقدير إلى شيء أشبه بالرغبة.
لكن أيلا تغاضت عن مشاعرهن الجريئة، لأنها كانت واثقة أن باركاس لن يلتفت إلى أي امرأة. ثقة نابعة من معرفتها التامة به.
(رغم أنه لم يرمقني أنا أيضاً بنظرة واحدة من قبل…)
ابتسمتُ ابتسامة مرّة.
باركاس، منذ البداية، لم يكن قادراً على الشعور بتلك المشاعر.
فقد دخل القصر الإمبراطوري في سن صغيرة، وتلقى تعليماً صارماً أشبه بغسل الدماغ من كهنة متزمتين ليكون مخلصاً مطلقاً للإمبراطورية. وفي خضم ذلك، فقد معظم مشاعره.
وحين علمت والدته، زوجة الدوق الأكبر شيوركان، بما يتعرض له ابنها من قسوة تحت أيدي الكهنة، حاولت بشتى الطرق إنقاذه. لكن الضرر كان قد وقع. فذلك الفتى الصغير فقد ليس فقط مشاعر الفرح والغضب والحزن، بل حتى الرغبات الأساسية التي تميز البشر.
تذكرت أيلا أول لقاء لها به، فتغيرت ملامح وجهها. لقد كان مخيفاً… عيون خاوية كقشرة حشرة. فتى يبدو كدمية شمعية، نادراً ما يتكلم، لا يأكل ولا ينام إن لم يُؤمر بذلك. السيطرة الصارمة على حاجاته جعلته يفقد الإحساس حتى بالجوع أو النعاس.
ومع ذلك، مقارنة بما كان عليه، فإن باركاس اليوم بدا أقرب للبشر.
(ربما، مع الوقت، سيتغير أكثر…)
نظرت إلى خطيبها بنظرة مشوبة بالأمل. رغم وعودها المتكررة بألا تبني آمالاً كبيرة، إلا أن قلبها لم يتوقف عن الاضطراب كلما رأته.
كيف لا تتوق إليه، وهو الفتى الجميل الذي بقي بجوار أمها المريضة بلا كلل… وقد أصبح اليوم أكثر رجال الإمبراطورية كمالاً.
أيلا كانت تدرك أن الكثير من النساء وقعن في حبه وذقن مرارة الخيبة، لكنها رأت نفسها في موضع أفضل منهن.
صحيح أن زواجهما تم لأسباب سياسية، لكنه سيغدو زوجها، وفي يوم ما ستنجب له وريثاً. وإن أظهرت له حباً صادقاً طوال سنوات زواجهما، فربما يتمكن دفء مشاعرها من إذابة جليد قلبه.
اقتربت منه بهدوء، مفعمة بتلك الأمنية.
وحين شعر بخطواتها، التفت إليها. في تلك اللحظة، شعرت أيلا بقشعريرة تسري في جسدها. وجهه بدا وكأنه يسخر من كل آمالها.
بنظرة خاوية ونبرة بلا أي انفعال، قال:
“هل من أمر، مولاتي؟”
تماسكت وأجبرت شفتيها على الابتسام.
“خرجت لأرى إن كانت تجهيزات الرحلة تسير على ما يرام.”
“اقتربنا من الانتهاء.”
أجاب وهو يمسح عنق الحصان بحركة رتيبة.
“أخشى أن طول التجهيزات سيجعل الرحلة أكثر إرهاقاً، خاصة مع حر الصيف.”
“لم يكن بوسعنا فعل شيء… غاريس هو من أربك الخطة بإصراره على مرافقتنا.”
قالتها مترددة، تراقب ردة فعله. لم تستطع رفع رأسها من الخجل، وهي تتذكر تصرفات شقيقها الطائشة.
غاريس لم يكتف بفرض نفسه على الرحلة، بل تصرف وكأنه سينقل القصر كله معه. خدم بالعشرات، مهرجون، طهاة، بل وحتى خياط خاص.
وبرغم كل هذه الفوضى، لم يبدِ باركاس أدنى اعتراض، مما جعلها تُعجب بصبره مرة أخرى.
قالت بأسف:
“أشعر بالذنب لأنك تحملت كل هذا.”
“لا داعي لاعتذارك، مولاتي. ما حدث كان متوقعاً.”
ثم سلّم لجام الحصان لأحد الخدم، وأضاف بلا مبالاة:
“مقارنة بما توقعت، كان سلوكه معقولاً. فوداعه لأخته العزيزة… هذا القليل من العناد يُعد مقبولاً.”
تبددت ابتسامتها. فقد أثارت كلماته قلقاً حاولت مراراً تجاهله.
نظرت إلى القصر الأبيض المتلألئ، وقبضت على ثوبها بشدة. مجرد التفكير في ترك شقيقها في هذا القصر المليء بالذكريات الأليمة كان يمزق قلبها.
خصوصاً أن فيه من يطمع في مكان غاريس، تلك المرأة الماكرة. هل سيتمكن شقيقها، سريع الغضب، من مواجهتها وحده؟
“إن لم يكن عبئاً عليك… أود زيارة القصر بين حين وآخر بعد زواجنا. هل هذا ممكن؟”
نظر إليها، وانعقد حاجباه قليلاً. أدركت أن طلبها لم يكن في محله، واحمر وجهها خجلاً.
فبصفتها زوجة دوق، سيكون عليها إدارة أملاك شاسعة، والإشراف على المئات من الخدم، ولن يكون لديها وقت للتنقل بحرية.
لكن باركاس، وهو يتأملها بعينين شاردتين، أومأ أخيراً:
“إن لم تكن الرحلة مرهقة لك، فافعلي ما تشائين. ألم يُبرم هذا الزواج لدعم ولي العهد من الأساس؟”
شحب وجهها قليلاً. بالنسبة له، كان زواجاً سياسياً محضاً، لكن بالنسبة لها… كان أكثر من ذلك. شعرت بمرارة، لكنها ابتسمت على مضض.
“أشكرك لتفهمك.”
أومأ برأسه دون كلمة، ثم عاد لفحص لجام الحصان.
عندها، وضعت يدها على ذراعه وأجبرته على النظر إليها.
“أعلم أنك مشغول، لكن… هل يمكنك تخصيص وقت لي؟ هناك شيء أود أن أقدمه لك قبل الرحيل.”
نظر إليها باستغراب، ثم استدار وأمر الخدم بنقل الخيول إلى الإسطبل، وقادها إلى زاوية أكثر هدوءاً من الحديقة.
وبفضل انسحاب الوصيفات بخفة، تمكّنت من الاستمتاع بلحظة هادئة معه.
وضعت يدها على ذراعه وسارت إلى جانبه على الطريق المرصوف، والنسيم العليل يلامس وجهيهما برقة.
الحديقة كانت في أوج تألقها. الزهور الصيفية فتحت براعمها بألوان زاهية، والأغصان الغضة تزينت بأوراق زمردية.
أيلا تأملت المشهد بعين حزينة. هذه الحديقة دائماً ما أثارت في نفسها شجناً. لكنها، مع مرور الوقت، أصبحت مجرد جزء من الحياة اليومية في القصر. وبدأت حتى ذكريات أمها تتلاشى. وما كان أكثر إيلاماً هو أن ذلك لم يعد يؤلمها كما في السابق.
“ما الشيء الذي كنتِ تودين إعطائي إياه؟”
قطعت سؤاله أفكارها، فالتفتت إليه.
كان يقضي الكثير من وقته في حديقة والدتها، برناديت، في طفولته. كانت تعلم أن ذلك المكان ساعده على مداواة جراحه النفسية قليلاً.
تساءلت فجأة… هل يفتقد هو الآخر حديقة والدتها؟
نظرت في وجهه الجامد الذي لا يُظهر شيئاً، وتنهدت بيأس، ثم أخرجت من ردائها منديلًا مطرزًا.
“قمت بتطريز شعار عائلة شيوركان على هذا المنديل.”
نزلت عيناه نحو القماش المطوي بعناية. شعرت فجأة بجفاف في حلقها.
ولكسر التوتر، تحدثت بصوت أعلى مما اعتادت:
“تقديم منديل مطرز كهدية للخطيب قبل الرحلة تقليد معروف، أليس كذلك؟… أعلم أننا سنسافر معاً، لكنه ما زال تقليداً.”
قال بهدوء:
“إنها هدية ثمينة، تفوق استحقاقي.”
قطع الرجل كلامها المبعثر وتناول المنديل من يدها. ارتسمت على طرف شفتيه الجافتين ابتسامة باهتة.
شعرت آيلا بقلبها يفيض بالمشاعر. كان مؤلمًا بعض الشيء أن تجد نفسها مشدودة بهذا الشكل إلى كل حركة يقوم بها هذا الرجل، وكأن كرامتها تتأرجح مع تصرفاته، لكنها كانت أكثر سعادة برؤية باركاس، الذي نادرًا ما يعبّر عن مشاعره، يبتسم لها.
“سأحتفظ به بعناية.”
قالها وهو يربط المنديل بمقبض سيفه. بادَلَته ابتسامة خجولة.
في تلك اللحظة، سُمعت خطوات مسرعة تقترب من مكانهما.
التعليقات لهذا الفصل " 14"
اخيرا 🥳🥳