الفصل 131
*********
شَعَرْتُ وكأنني سمكة علقت في شبكة محكمة.
عندما راحت تاليا تضرب بأطرافها غريزياً محاولةً الإفلات من السرير، قام بارْكاس بتثبيت جسدها برفق وضغط برفق على جسدها وهو يحيط وجنتيها بكفيه.
“شش… لا بأس.”
مرَّ نَفَسٌ دافئ فوق جفنيها المتعرّقين، وشعرت بجسدها المتجمّد يذوب على الفور، لكن عقلها ظلّ متصلّباً من التوتر.
أمالت رأسها جانباً وتمكّنت بصعوبة من سحب الجزء العلوي من جسدها خارج اللحاف.
“يا قمر… اخفني.”
مدّت ذراعها نحو النافذة كما يفعل الغريق المتّجه نحو اليابسة، عندما انزلقت أصابع طويلة وصلبة داخل شعرها.
لم تعد قادرة على التفكير في أي شيء.
عانقت تاليا كتفه بقوة وأطلقت تنهيدة متوترة.
“ارفعي خصركِ.”
بمجرد اتباعها لتعليماته لا إرادياً، انزل طرف فستانها الرقيق إلى الأسفل.
اختفى الحاجز الأخير بينهما، فاستيقظ العقل الذي كان يذوب كشمع الشمعة، وأطلق تنبيهاً مفاجئاً.
وبينما كانت تطيل عنقها لتتأكد من أن ساقيها لن تظهر خارج اللحاف، أمسك بارْكاس وجهها وأجبرها على النظر إليه.
“لا تشغلي بالكِ بأي شيء آخر.”
ملأت عيناه الزرقاوان المغمورتان بضوء القمر مجال رؤيتها.
نسيت تاليا كيف تتنفس، وبدأت تعدّ الشظايا الفضّية الكامنة في عينيه.
لامس الشعر الأشقر الرمادي اللامع بزرقة ناعمة جبينها بدفء.
بينما كانت تحدّق في وجهه كالمسحورة.
ظلت عيناه مثبّتتين على وجهها.
أدركت تاليا أن بارْكاس كان يراقب ردة فعلها باهتمام، فاجتاحتها موجة من الخجل الشديد وأغلقت عينيها بإحكام.
لكنها لم تجرؤ على فتح جفنيها مرة أخرى وتحمّلت الإحساس القوي، عندما بللت تنهيدة رطبة طبلة أذنها
.
“افتحي عينيكِ، تاليا.”
كان صوته الناعم كآداة حادة.
في تلك اللحظة، علمت أنه كان يحاول أن ينتزع ما تبقّى من قلبها بحدّ سكين.
ماذا سيحدث لي عندما يُسلب مني كل شيء؟
“انظري إليّ.”
بسبب الإلحاح الشديد، رفعت جفنيها أخيراً.
قبضت تاليا بقوة على كتفه الأبيض المضيء كقطعة نحت.
ضغط عليها بثقله ومسح الدموع المتجمعة عند زاوية عينيها بإبهامه.
ثم حدّق بعناد في بؤبؤ عينيها المموّه، وكأن نظراته تبحث في أعماق روحها.
اجتاحها دوار كأن شبكية عينها تتمزق بأداة مدبّبة، لكنّه لم يسمح لها بتحويل نظرها.
تمتمت تاليا بكلمات استجداء دون وعي، ولم تكن تعلم ماذا تتوسّل.
“بارْكاس…”
انطلقت من حنجرتها أنينٌ شبيهٌ بالبكاء دون توقف.
كل شيء، عقلها وجسدها، كان ينهار.
وبارْكاس كان يشاهد ذلك.
نظراته الحادّة كالسكين كانت تنهال على خديها الملتهبين كالنار، ورموشها المبلّلة، وشفتيها اللتين تطلقان أنفاساً متوتّرة، وعينيها اللتين فقدتا تركيزهما.
في النهاية، لم تستطع الاحتمال أكثر، فعانقت عنقه بعنف ودفنت وجهها في كتفه الأملس.
**************
شعرت بأصابعه الدافئة تداعب خدها المبلّل.
كانت لمسة وكأنها تقبض على قلبها المكشوف.
أغلقت تاليا عينيها بإحكام وغمرها دوار غريب.
ثم فقدت وعيها في لحظة ما.
استيقظت تاليا وهي تتقلب محاولةً التحرر من الحرارة الخانقة بسبب قوة شدّت خصرها.
دخل مشهد غرفة النوم المحاطة بضوء أزرق باهت إلى مجال رؤيتها الضبابي. رمشت عينيها بذهول، ثم التفتت فجأة عندما أدركت الحرارة القادمة من خلفها.
رأت بارْكاس نائماً بعمق ووجهه مدفون في الوسادة.
رفعت تاليا الجزء العلوي من جسدها بحذر وجلست تتأمله.
كان ضوء القمر الأبيض الناصع ينزلق فوق عظام وجنتيه الرقيقتين .
كادت أن تلمسه بطرف إصبعها دون قصد، لكنها تراجعت.
لم تكن تريد أن تعكّر صفو ليلته الهادئة.
أنزلت تاليا قدميها ببطء من السرير.
لم يكن من الصعب تمييز الأشياء بفضل ضوء القمر الساطع.
عثرت على الفستان المكوّم بشكل فوضوي في زاوية السرير وارتدته فوق رأسها.
سحبت ذيل التنورة المجعّد إلى الأسفل، وعندما رفعت رأسها، رأت البدر يضيء السماء السوداء خلف النافذة الزجاجية الكبيرة المقوّسة.
شعرت وكأن ضوء القمر المتدفق سيعمي عينيها.
“لا تذهبي.”
بينما كانت تحدّق في سماء الليل كالشخص الغائب عن الوعي، شعرت بدفء خلف ظهرها.
ارتعشت تاليا تحت وطأة قشعريرة حادة.
التف بارْكاس حولها باللحاف الذي أصبح بارداً، وأسند وجهه على صدغها.
“ابقي هنا الليلة فقط.”
أغلقت عينيها بإحكام.
شعرت بأنه يجب عليها أن تبتعد.
لكنها لم تعد تستطيع أن تتذكر لماذا عليها فعل ذلك.
لقد تاقَت إلى هذا الحضن منذ أن التقته لأول مرة.
تمنّت أن يعانقها بحرارة ولا يتركها.
لكن لماذا أُحارب رغبتي الخاصة؟
في النهاية، هزّت تاليا رأسها بوهن.
“…حسناً.”
“وغداً أيضاً.”
“…حسناً.”
“واليوم الذي يليه أيضاً.”
بينما كانت تهزّ رأسها كالمسحورة، قادها مرة أخرى إلى السرير.
احتضنها بذراعيه الدافئتين حول جسدها الذي أصبح فاتراً.
تردّدت تاليا للحظة ثم وضعت يدها على خصره.
خفق على وجهه غير المبالي لمحة ارتياح خفيفة.
رفعت تاليا رأسها لتتفقده ثم دفنت جبينها في صدره العريض.
* * *
كان موسم الرياح على وشك الانتهاء.
كان بارْكاس يطالع تقريراً في مكتبه، وعندما لامست خدّه برودة، أدار رأسه.
خلف النافذة المفتوحة على مصراعيها، امتدت سماء زرقاء تخلب الأبصار.
انشغل بنظره بذاك المشهد لفترة وجيزة، عندما بعثرت بضع نسمات من الرياح الباردة الوثائق على مكتبه.
تنهّد وكأنه منزعج، ثم التقط ثقلاً ورقياً وضغطه على الرقّ قبل أن يقف ليغلق النافذة.
في تلك اللحظة، لفتت انتباهه خصلات ذهبية متلألئة خلف النافذة الزجاجية.
ألقى بارْكاس بنظره إلى الأسفل.
كانت تاليا، ترتدي معطفاً أبيض جديداً اكتمل صنعه مؤخراً، تتجوّل في الحديقة مع مربّيتها.
في كل مرة كانت الرياح العاتية تلامس وجهها المحمر بقسوة، كانت خصلات شعرها الذهبي تتطاير كأجنحة الطائر.
ضيّق عينيه وظلّ يراقبها لفترة.
هيئتها وهي ترتدي فرو حيوان صاده بنفسه منحته شعوراً غريباً بالرضا.
شعر وكأن بطنه ممتلئ رغم أنه صائم منذ الصباح.
لكن بعد فترة وجيزة، بدأ شعور بالاستياء يتسلل إليه.
كانت المرأة تبدو منهكة بشكل ملحوظ لعدة أيام.
ألم تجعله الحمى الخفيفة التي اجتاحتها فجر اليوم متوتراً؟
التعليقات لهذا الفصل " 131"