رفعت الخادمة المذعورة الملعقة بيد مرتجفة، ثم أغلقت عينيها بإحكام غير قادرة على الاقتراب من الطبق أمامها.
بدت وكأنها توهم نفسها بأن الصبر وحده سيمنحها الخلاص، أو لعلها كانت تأمل أن يظهر أحدهم لإنقاذها.
مدّت تاليا يدها والتقطت السكين الموضوع على الطاولة بقبضة حاسمة، ثم أمرت الرجل الواقف بجانبها ببرود قاتل:
“ثبّت أصابع هذه المرأة على الطبق. بما أنها تجاهلت كرم ضيافتي، فلا بد أن أقطع إصبعًا واحدًا لتكون عبرة.”
أسرع الرجل بإمساك يد الخادمة وبسطها فوق الطبق الفضي، بينما رفعت تاليا السكين عالياً ممسكة بطرف إصبعها.
فصرخت الخادمة هلعة:
“سآكل! سآكلها! سآكل كل ما في الطبق!”
أسرعت تغمس الملعقة في الحساء الذي يحتوي على جثة الطائر، وبدأت تلتهمه بنهم.
كانت تبتلع الطعام دون مضغ وكأنها تحاول ألا تتذوقه، لكن بعد أقل من خمس ملاعق، تقيأت كل ما أكلته.
ورغم ذلك، أمرتها تاليا بجفاء:
“كُلي كل شيء. أريد أن أرى قاع الطبق.”
كانت الخادمة تبكي وتنتحب، تتقيأ ثم تعاود الأكل، وتستمر في هذه الدوامة المرعبة.
لم تستطع وضع اللحم الفاسد في فمها، فاكتفت بابتلاع المرق فقط، ولكن حتى ذلك كانت تعيده بعد ثوانٍ.
اختلط الدم بالدموع والقيء، ومع كل لحظة، بدأ لون وجهها يتحول إلى الرماد، قبل أن تنقلب عيناها وتفقد وعيها، ساقطةً على السجادة دون حراك.
وقفت تاليا تراقبها ببرود، ثم التفتت نحو الخدم المتجمدين في أماكنهم، وأشارت بذقنها بغطرسة:
“نظفوا كل هذا.”
ثم رمت الطبق القذر عند أقدامهم وأضافت:
“وأحضروا لي طعامًا جديدًا، هذه المرة يجب أن يكون مقبولًا.”
**
منذ ذلك اليوم، اختفى تعذيب الخدم كما لو كان كابوسًا انتهى.
صارت الخادمات يتعاملن معها بحذر شديد، وكأنهن يتعاملن مع مادة قابلة للانفجار، وراح بعض الخدم يُظهرون خوفًا شديدًا منها. لم يعد أحد يرمقها بنظرات احتقار أو يهمس بتعليقات جارحة.
صار الجميع يصمت إذا ظهرت، مطأطئي الرؤوس كما لو أنهم أمام قاضٍ.
وانتشرت في أرجاء القصر شائعة عن قسوة “الأميرة الثانية”، وعن كيف عذّبت خادمة بريئة خدمت العائلة المالكة لأكثر من عشر سنوات.
أصيب الناس بالذهول من وحشية فتاة صغيرة، وحتى الكهنة قالوا إن أفعىً صغيرة زحفت إلى القصر الإمبراطوري، أما المخلصون للإمبراطورية فأعربوا عن قلقهم من أن تسيء هذه الأميرة الطاغية إلى سمعة العرش.
لكن في المقابل، كان هناك من استمتع بتصرفاتها.
**
في أحد الأيام القريبة من حلول الشتاء، زارت الإمبراطورة القصر الفرعي، ترتدي فستانًا أزرق قاتمًا بلون عينيها.
كانت تاليا تنزل السلم بوجه جامد لاستقبالها، لكنها توقفت فجأة حين وقعت عيناها على والدتها “سينيفيير”، وشعرت بغصة حنين تخنقها.
كانت هذه المرأة ذات يوم من طعنتها في ظهرها، من سحبت يدها منها بقسوة وابتعدت دون اكتراث، وقد أقسمت تاليا حينها ألا تحبها مجددًا.
لكن حين اقتربت سينيفيير منها وقبّلتها على خدها، انهار ذلك العهد كما تنهار قلعة من الرمل أمام الموج.
“مرحبًا، تاليا. تبدين جميلة اليوم.”
كان عطرها يمزج بين الورود والليلك وثمار الصيف الناضجة. شعرت تاليا بالأسى من شدة اشتياقها لهذا العطر.
نظرت سينيفيير إلى ابنتها التي ظلت ملامحها قاتمة، وابتسمت بلطف مصطنع:
“أظنك غاضبة لأني تأخرت في زيارتي. سامحيني، فقد كنت أُعدّ لك مفاجأة خاصة.”
نظرت إليها تاليا بريبة:
“مفاجأة؟”
“سمعت أنك لقّنت الخدم درسًا لا يُنسى. لقد أرضيتِ والدتك، ومن حقك أن تنالي مكافأة.”
قالت ذلك بنبرة مغنية، ثم استدارت بخفة. عندها فقط لاحظت تاليا وجود فتى يقترب عبر القاعة.
توقفت أنفاسها.
لقد أصبح فارسًا رسميًا خلال الأشهر الماضية، وكان يرتدي زي الحرس الإمبراطوري. إنه باركاس.
أشعة الشمس التي دخلت عبر النافذة انعكست على شعره الأشقر الرمادي كأنها شظايا زجاج تتلألأ.
اقتربت سينيفيير من الفتى ومدّت يدها كأنها تقدم كنزًا:
“هذا هو الفارس الوسيم الذي سيحميك من الآن فصاعدًا.”
توقف الفتى أمامها وانحنى باحترام.
كانت عيناه، اللتان حلمت ذات يوم أن تضع تاجًا فوقهما، تحملان الآن غضبًا حادًا وإذلالًا دفينًا.
من الواضح أنه لم يأتِ باختياره.
نظر إليها وكأنها شيء لا حياة فيه، وقال ببرود:
“باركاس رايدغو شيركان.”
كان صوته جافًا كالصقيع.
“سأكون بجانب سموّك حتى موعد بلوغك سن الرشد.”
وكأن كلماته تعني أنه ينتظر بفارغ الصبر اليوم الذي يتحرر فيه من هذا الدور المهين.
رفعت تاليا عينيها إلى وجهه الصارم، كانت ملامحه تشبه القناع، باردة، قاسية، تذكرها دومًا بأنها لا تساوي شيئًا.
حاولت أن تتمالك نفسها، لكن الخجل كان يشتعل في عنقها.
وفي تلك اللحظة، فهمت تاليا بوضوح:
هذا الفتى الجميل لن يكون رجاءها، بل عذابها.
عذابٌ لا يُحتمل.
**
بعد أيام من المطر المتواصل، أشرقت الشمس فجأة بقوة تنذر بقدوم “فصل النار”.
في الفناء المزدحم، كانت آيلا تعبر بحثًا عن خطيبها، تمسح العرق عن جبينها وتحدق في الضوء بشيء من الضيق.
الساحة التي كانت تستخدم للتدريبات العسكرية امتلأت حتى آخرها بعربات الشحن، تجار المعدات، خيول ضخمة معدلة خصيصًا للترحال، وجنود يحملون أدوات متنوعة للسفر.
بدت أشبه بسوق صاخبة، ولكن ما إن وقعت عيناها على باركاس عند أطراف الجدار، حتى أضاءت ملامحها.
كان يرتدي سترة سوداء مطرزة ومعطفًا مدرعًا من الحديد الداكن، يختلف عن زي فرسان الإمبراطورية الأبيض، ويشبه أمراء الشرق أكثر من الحرس الملكي.
ابتسمت آيلا بفخر وهي تنظر إليه. بعد هذه المهمة، سيترك باركاس الحرس ويبدأ إجراءات وراثة لقب دوق شيركان.
أما هي، فستبدأ استعدادها لتكون سيدة ذلك البيت العظيم، كما كان مقدرًا منذ دخلت القصر مع والدته.
ومع ذلك، كانت تتساءل أحيانًا: هل سيأتي ذلك اليوم حقًا؟
باركاس كان دائمًا مهذبًا، وأحيانًا عطوفًا، لكن آيلا أدركت أن بينهما مسافة لا تُردم. وقد عانت بصمت من هذا البُعد، حتى إن فكرة أنه سيكون زوجها بعد أشهر قليلة ما زالت تبدو لها أشبه بالحلم المستحيل.
التعليقات لهذا الفصل " 13"
حالياً مش طايقة البطل مش طايقة قربه من ايلا يا رب يطلع بيحب تاليا وبيموت فيها بالفصول الجاية😃
الترجمة تجنن ♥♥
متى التنزيل