أوقفت “تاليا” خطواتها وحوّلت بصرها نحو مصدر الصوت.
كان مشهد “لينا” تظهر من خلف الدرابزين وهي ترتدي الفراء الفضيّ على كتفها.
صرخت وهي تستعرض أمام الخادمات وتدور حول نفسها.
“إذا صنعت ملابس دافئة من هذا الفراء، سأتمكّن من الركض بحرية على ظهر السايكا حتى في منتصف الشتاء، أليس كذلك؟”
“بالتأكيد! يقال إنّ الدراكر وحش يبني عشه حتى داخل الأنهار الجليدية. سيصدّ أي موجة برد بسهولة.”
“بما أن الدوق أرسل مثل هذه الهدية الفاخرة، فمن الواضح أنه يقدّر الآنسة تقديراً خاصاً.”
ابتسمت “لينا” ابتسامة واسعة على أصوات الخادمات المتملّقات.
“هل تعتقدين ذلك حقاً؟”
“لو لم يكن الأمر كذلك، لما أعطاكِ مثل هذا الكنز الثمين.”
ظهرت الحيوية على وجه الفتاة التي كانت حزينة منذ الجنازة.
حدّقت “تاليا” في المشهد من أسفل الدرج، ثمّ استدارت بصمت.
لقد صدّقت أنه خاطر بنفسه من أجلها.
كم أصبحت وقحة في بضعة أشهر؟ كادت أن تتعرّض للإحراج.
عادت “تاليا” بخطوات ثقيلة إلى غرفة نومها.
لكن الشعور المرير كأنها ابتلعت رماداً هدَأ بحلول غروب الشمس.
لقد قطعت على نفسها وعوداً لا تُحصى بأنها لن تتوقّع منه شيئاً.
كان من السخف أن تشعر بخيبة أمل بسبب هذا الأمر.
على الرغم من أن الهدية كانت مجرّد إضافة، إلا أنه لا يمكنها إنكار حقيقة أنه أرسل لها هدية ثمينة.
‘يجب أن أشكره على الأقلّ، فهذا من باب اللياقة.’
وإلا، فسيبدو الأمر غير طبيعيّ.
التصرّف كطفل متذمّر سيعني أنها خائبة الأمل، وخيبة الأمل تعني أنها كانت تتوقّع شيئاً منه في النهاية.
عندما حسمت “تاليا” أمرها أخيراً، ألقت بالكتاب الذي كان على ركبتيها ونزلت من السرير.
عندما وصلت إلى غرفته، أسرع الحارس الذي كان يقف عند الباب بإبلاغه بوصولها.
بدا وكأنه يريد أن يسبق زوجة الدوق التي عادة ما تقتحم الغرفة بفتح الباب بعنف.
لكن “تاليا” أمسكت بمقبض الباب قبل أن يأتيها الإذن بالدخول هذه المرة أيضاً.
عندما دخلت، امتلأ مشهد غرفة النوم المضاءة بضوء ساطع عينيها.
كان الرجل دائماً ينتظرها ويطفئ الأضواء.
هل اعتقد أنها لن تأتي اليوم؟
عبّست وهي تتجوّل بنظرها في الغرفة، فرأت ظلّين ممدودين أمام المدفأة.
أدارت “تاليا” رأسها بسرعة وشهقت بقوّة.
كانت هناك امرأة شابة تلامس الجزء العلويّ من جسد “باركاس” الجالس شبه العاري.
رفعت “تاليا” صوتها دون وعي.
“ماذا تفعلين الآن؟”
نهضت المرأة عن مقعدها بوجه مرتبك.
“سـ سيادة الدوقة…….”
عندها فقط أدركت هويتها.
كانت خبيرة الشفاء في عائلة الدوق، والشخص الذي تسبّبت هي بنفسها في أن يبصق دماً.
انحنت المرأة وقالت كأنها تبرّر.
“كنتُ أعالج جروح الدوق.”
قطّبت “تاليا” زاوية عينيها وحدّقت بها، ثمّ أدارت رأسها نحو “باركاس”.
“هل نسيت كم هي خبيرة شفاء سيّئة؟ لماذا تسمح لمثل هذه المرأة……!”
فجأة، انغلق فمها.
رأت شقّين طوليين يمتدّان بشكل مائل من كتفه إلى صدره.
خفق قلبها للحظة بسبب الجرح الذي كان أخطر مما توقعت.
هرعت إليه “تاليا” بلهفة.
“مـ ماذا حدث؟ قلت إنه لا شيء يذكر!”
“يبدو الأمر كذلك فحسب، لكنها ليست إصابة كبيرة. لم تُكسر العظام، ولم تتضرّر العضلات والأعصاب الرئيسية بشدة.”
قال “باركاس” بلا عاطفة.
حدّقت به “تاليا” بعدم تصديق.
بدا الجرح خطيراً للوهلة الأولى، مع تورّم الجلد المحمرّ وتضخّم الأوعية الدموية الأرجوانية حوله.
لا بدّ أن الألم كان هائلاً.
لم تستطع ضربه، فأطلقت العنان لغضبها.
“هل هذا كلام تقولُه؟ إذا لم يكن هذا خطيراً، فما هو الشيء الخطير، أيها الأحمق!”
غطّت خبيرة الشفاء فمها من الصدمة.
لكن “باركاس” كان هادئاً.
أومأ برأسه إلى خبيرة الشفاء بخفة.
“يمكنكِ الانصراف الآن.”
“لـ لكن لا تزال الضمادة…….”
“يمكنني فعل هذا بنفسي.”
تردّدت المرأة للحظة، ثمّ انحنت وغادرت الغرفة على عجل.
مدّت “تاليا” يدها نحوه دون أن تكترث بها.
“أعطني الضمادة. لا يمكنك لفّها جيداً بيد واحدة.”
“لا بأس.”
“ما الذي لا بأس به! أعطني إياها دون جدال.”
مدّ إليها الرجل الضمادة بعد أن حدّق بها ملياً.
التقطتها “تاليا” كما لو كانت تخطفها، وسحبت كرسياً وجلست مقابله.
من قريب، بدا الجرح أكثر فظاعة.
كانت هناك إفرازات تتسرّب حول الشقوق اللامعة بالمرهم، وشعرت بحرارة من الجلد الأكثر احمراراً من المعتاد.
عضّت شفتها السفلية بقوّة ولفّت القماش حول صدره بعناية.
بفضل عادتها في تفحّص الضمادة الملفوفة حول ساقه كل يوم وإعادة ربط العقدة بنفسها، تمكّنت من ربط الجرح دون صعوبة.
“هل أنت بخير حقاً؟ لن يحدث مضاعفات لاحقاً…….”
“يمكنني العلاج بالسحر بمجرد زوال السمّ. لا تقلقي.”
“من قال إني قلقة عليك؟ إذا حدث لك شيء، فسوف تتعقّد أموري أنا…….”
“أعلم. قصدتُ أن أقول اطمئني، لن تصبحي أرملة.”
صمتت “تاليا” بتعبير من قطعت عنها الكلمات بسبب إجابته الهادئة.
اتّكأ “باركاس” على ظهر الكرسيّ وغرق في التفكير، ثمّ قبض على معصمها بخفة وسأل.
“لماذا أتيتِ اليوم؟”
في تلك اللحظة، انقبض قلبها كأنها تعرّضت لهجوم مباغت.
هل يعني أنه لا يرحّب بمجيئها؟
نظرت سريعاً إلى وجهه. كان ضوء الشموع يتلألأ على وجهه الوسيم الخالي من التعبير.
أمال رأسه جانباً وأضاف.
“قلتِ إنك لن تنامي معي لفترة لفترة. هل تغيّر رأيكِ؟”
أبعدت يده بشكل انعكاسي.
“لم يتغيّر! هل تظنّني يائسة لدرجة أنني سأنام مع شخص في مثل هذه الحالة؟”
“إذاً لماذا أتيتِ؟”
مال نحوها مقترباً بجسده.
قلّبت “تاليا” عينيها وهي مرتبكة، ثمّ تذكّرت بصعوبة العذر الذي أعدّته مسبقاً وتلعثمت.
“جئت لأقول لك…… شكراً على الهدية التي أرسلتها.”
حدّق بها الرجل بصمت لفترة طويلة وكأنه يقيس صدق كلماتها، ثمّ فتح فمه أخيراً.
“هل أعجبتكِ؟”
“من الذي يكره مثل هذه الهدية؟”
شعرت بصعوبة في مواجهته مباشرة لسبب ما. أنزلت “تاليا” عينيها بحرج.
“لكن لا تذهب للصيد مرة أخرى. بغض النظر عن مدى أسفك على أختك، لا ينبغي لحاكم الشرق أن يخاطر بنفسه ويتعرّض للإصابات…….”
“من هو الرجل الذي يفعل كل هذا من أجل أخته؟”
توقّفت “تاليا” التي كانت تثرثر باللوم، ونظرت إليه مرة أخرى.
كان “باركاس” يداعب شعرها بالفعل.
لف الرجل خصلات شعرها كقط يلعب بكرة خيط، ثمّ واصل كلامه بهدوء.
“لطالما كنتِ تصابين بالزكام حتى في منتصف الصيف. شتاء هذا المكان أقسى من المنطقة الوسطى. يجب أن يكون لديكِ شيء كهذا لتمضيته بأمان.”
“……كان ذلك عندما كنتُ صغيرة.”
ابتلعت “تاليا” ريقها وجادلت.
“إنه شتاء يمرّ به الجميع، فلماذا تبالغ…….”
“هذا ليس مبالغة على الإطلاق.”
مسحت عيناه الزرقاوان الشاحبتان جسدها من الرأس حتى أخمص القدمين.
شدّت “تاليا” الشال حول كتفيها دون وعي.
لا بدّ أنه يعرف أن جسدها نحيف بشكل رهيب بعد الحادث، ومع ذلك شعرت بالخجل فجأة.
غيّرت الموضوع على عجل.
“على أي حال، لا تفكّر في صيد الوحوش مرة أخرى أبداً. اطلب من رجالك أن يفعلوا ذلك بدلاً منك. هل ما زلت تظنّ نفسك فارساً مبتدئاً؟ أنت الدوق الآن. ما فائدة الجنود إذا لم تستخدمهم؟”
“كان القيام بذلك بنفسي أكثر كفاءة. والأهمّ من ذلك، لا يمكنني تعريض الجنود للخطر من أجل هدية لزوجتي.”
اشتعلت أذناها من كلامه وهو يشير إليها بـ “زوجتي” دون حرج.
تظاهرت بالغضب وهي تتمنّى أن يخفي احمرار الغروب وجنتيها.
“الشيء الذي لا يمكنك أن تطلب من الجنود القيام به، لا تفعله أنت أيضاً، أيها الأحمق!”
“……ألم تأتِ لتشكريني؟”
أشار إلى ذلك وهو يرفع أحد حاجبيه.
سخرت “تاليا” منه.
“جئت أيضاً لأوبّخك. جسدك لم يعد ملكك وحدك. لن أسامحك إذا تصرّفت بلا مبالاة دون إذني.”
التعليقات لهذا الفصل " 128"