فصل 127
كانت أصابعه التي تداعب خصلات شعرها تنزلق ببطء على طول عنقها.
لم تستطع تاليا إلا أن تُميل رأسها إلى الخلف من دون إرادة.
أصبح تنفّسها أكثر خشونة، وغابت رؤيتها في ضباب بعيد.
شعرت بجسده الملتصق بها محموم بحرارة لا تُطاق، لكنها عجزت تمامًا عن التوقّف.
كم من الوقت ظلّا هكذا؟
عندما بدأت شفتاها تؤلمانها قليلاً، رفع هو رأسه أخيرًا.
شهقت تاليا شهقات متتالية، ثم رفعت بصرها إليه.
على عكس الجسد الذي يخفق بنبض محموم، لم تكن ثمة أدنى أثر للرغبة على ذلك الوجه الهادئ الذي ينظر إليها من الأعلى.
ذلك الفارق الغامض بين الجسد والوجه أثار فيها قلقًا غير محدد.
جمعت أنفاسها المضطربة، ثم استدارت بهدوء.
“حسنًا… سأذهب الآن.”
ما إن همّت بالنهوض من السرير حتى أحاط خصرها بذراعيه.
“ابقي قليلاً بعد.”
تسلّل صوته الجهوري الحلو إلى أذنها، فكأنما ذابت عظامها.
التصق بها من الخلف بإحكام تام، ووضع شفتيه على مؤخّر عنقها.
تصلّبت تاليا من التوتر.
جاءت إلى هنا أصلاً لتلد وريثًا لعائلة الدوق الأكبر.
تسليم جسدها له في الظلام ليس سوى إجراء ضروري لتقبّله من دون ألم.
كادت تلك الأكاذيب التي تكرّرها لنفسها كتعويذة أن تنهار بلمسة واحدة رقيقة.
شدّت على أعصابها بيأس.
“لا سبب يدعوني للبقاء هنا.”
“ولا سبب يدعوكِ للمغادرة.”
قالها وهو يداعب شعرها.
“أنا مريض. ابقي بجانبي فقط حتى أنام.”
تسلّل إلى صوته شيء من الكسل، فعضّت تاليا شفتها.
لماذا يريدني أن أبقى بجانبه؟
أرادت أن تسأله بصراحة، لكنها خافت من جواب قد يخيّب أملها.
ترددت طويلاً، ثم قالت شيئًا آخر تمامًا:
“…إذًا نم بسرعة.”
شعرت بحركة خفيفة في شفتيه.
هل ضحك؟
لا، مستحيل. أليست تلك الشفتان اللتين لا تتحرتان إلا حين يسخر أو يبتسم ابتسامة باردة؟
كبحت رغبتها في الالتفات، وثبّتت بصرها على زجاج النافذة الذي ترتطم به قطرات المطر.
فجأة لمع برق، ثم دوّى صوت كأنه زمجرة.
“هل تخافين الرعد؟”
سألها فجأة.
حينها فقط أدركت تاليا أن جسدها يرتجف.
لم تخف يومًا من عاصفة أو برق، لكنها لم تنكر.
لم تُرد أن يعرف أن اضطرابها ناتج عن المشاعر التي يثيرها هو.
*************
بعد قليل، سمعته يتنفّس بانتظام.
تباطأت دقات قلبه الثقيلة تدريجيًا.
هل نام؟
لكنه قد يكون يتظاهر فقط.
ظلّت تؤجّل اللحظة التي يكفي فيها أن تلتفت لتتأكد، حتى اجتاحها النعاس كموجة عاتية.
طفت بلا وجهة بين الوعي واللاوعي، ثم غرقت فجأة في ظلام كثيف.
ضربتها الظلمة كمطرقة حديدية، فحطّمت جسدها كله.
تخبّطت لتصل إلى مكان مضيء، لكن ما سمعته فقط صوت عظامها المسحوقة وهي تصدر صريرًا بائسًا.
حينها، سمعت ضجيج الغابة وتنفّسًا يشبه الزمجرة.
رأت في الظلام عينين تلمعان.
اقترب منها وحش بعينين حمراوين ببطء ليفترسها.
بدت له صورة مشوّهة لكائن مغطّى بالحراشف.
فتح فمه ومزّق الجزء السفلي المحطّم من جسدها.
لم تخرج منها صرخة حتى.
شاهدت تاليا، بعينين مفعمتين بالرعب، الوحش الغارق في الظلام وهو يقضم جسدها.
لكن شيئًا ما كان غريبًا.
تقلّص شكل الوحش تدريجيًا، ثم تحوّل إلى هيئة مألوفة.
احتضنتها امرأة تحمل ابتسامة غريبة بذراعين شاحبتين ملطختين بالدم، ثم فتحت شفتيها المضرجتين وقضمت قطعة من لحم عنقها.
أخيرًا استطاعت تاليا تمييز وجه الوحش.
كانت أمها.
أكلت سينيفير ما تبقّى من جسدها ببطء وبلذة.
لم يبقَ من تاليا سوى رأسها، فانهمرت دموعها.
رفعت يد رقيقة رأسها المقطوع.
“يا للمسكينة.”
همست سينيفيير، كأنما تشفق عليها حقًا، ثم قبّلت خدّها المبلل.
“تاليا!”
فجأة، هزّها أحدهم بعنف.
فتحت تاليا عينيها مذعورة، تلهث كمن انتُشل لتوّه من تحت الماء.
دخل مشهد غرفة النوم المعتمة إلى بصرها الذي غشيه الذعر.
لم تدرك للحظات أين هي.
كانت ترتجف كورقة الحور، فمدّ أحدهم يده وداعب رأسها.
“هشش… هشش… لا بأس.”
التفتت تاليا.
رأت وجهًا جميلاً غائمًا بالقلق.
أحاط خدّيها بلطف بكلتا يديه، ومسح بإبهامه زاوية عينيها المبللة.
“اهدئي. مجرد كابوس.”
“…كابوس؟”
حرّكت تاليا عينيها لتطرد بقايا صورة سينيفيير العالقة في شبكية عينيها، ثم أرخدت كتفيها.
لكن الارتجاف لم يتوقف.
ضمّها إليه بقوة، ومرّر يده على ظهرها بانتظام.
استعاد قلبها الذي كاد يقفز من صدرها إيقاعه تدريجيًا.
همست تاليا بصوت مختلط بالبكاء:
“هل رأيتَ كابوسًا من قبل أنت أيضًا؟”
توقّفت اليد التي تربّت على ظهرها لحظة.
“منذ زمن بعيد جدًا.”
“ما نوعه؟”
“حسنًا…”
شعرت بصوته يخفت قليلاً، فهمّت برفع رأسها، لكنه ضغط على مؤخّر رأسها برفق.
“مرت سنوات طويلة، فلم أعد أتذكّره جيدًا.”
لكنه يتذكّر على الأقل أنه رأى كابوسًا.
لا بد أنه كان كابوسًا مؤلمًا جدًا.
“نامي مجدّدًا. إن عاد الكابوس سأوقظك.”
همس وهو يسحب الغطاء حتى كتفيها.
تسلّلت تاليا إلى حضنه بطبيعية تامة.
خطر لها أنها لم تكن تنوي النوم هنا أصلاً، لكنها محت الفكرة فورًا.
الآن، مستحيل أن تفلت من هذين الذراعين.
أغلقت عينيها واستند خدّها إلى صدره العاري.
* * *
في اليوم التالي، عرفت بالضبط كيف أصيب بجراحه.
كانت هناك صندوق كبير موضوع أمام باب غرفتها، يحتوي على فراء فضيّ ناعم مُعتنى به بعناية فائقة.
شرح لها الخادم الذي حمله بنفسه، فخورًا:
“هذا جلد بطن دراكار اصطاده سمو الدوق الأكبر بنفسه.
لا تحرقه النار، ويصدّ ريح الشتاء القارسة تمامًا، إنه من أجود المواد على الإطلاق.
أمر سموّه بصنع معطف لصاحبة السمو الدوقة منه.”
فتحت المربية فمها دهشة، وداعبت الفراء بيد مرتجفة.
أطلق الفرو الأبيض الناعم كالحرير بريقًا أزرقًا خفيفًا تحت ضوء الشمس.
“يا إلهي… جميل جدًا.”
تعجّبت الخادمات اللواتي جئن لمساعدتها في ارتداء ملابسها أيضًا.
ولا عجب.
الدراكار كائن من سلالة التنانين، وهو في قمة السلسلة الغذائية حتى بين وحوش سلالة التنين.
نقطة ضعفه الوحيدة هي بطنه المغطّى بفراء ناعم.
لذلك، حتى أمهر الصيادين يخاطرون بحياتهم للحصول على فراء سليم دون خدش.
ربما لم ترَ أمها نفسها مثل هذه الجودة العالية في حياتها.
لكن وجه تاليا التي تنظر إلى هذا الكنز النفيس تجمد كالثلج.
ما إن تخيّلت أنه خاض معركة متهوّرة لأجل هذا الشيء، حتى غلي الغضب في عروقها حتى أطراف شعرها.
وجهت نظرة جليدية إلى الخدم.
“أين سمو الدوق الآن؟”
“أظنه… يعمل في مكتبه.”
أجاب الخادم بصوت خافت، مدركًا أن مزاجها سيء.
خرجت تاليا من الغرفة فورًا.
كانت تنوي توبيخه بشدة:
‘لا أريد مثل هذه الهدايا الغبية، فلا تعرض حياتك للخطر من جديد!’
لكن ما إن نزلت الدرج حتى رأت مشهدًا أمام عينيها كأنه يسخر من غضبها كله.
التعليقات لهذا الفصل " 127"