الشيء الذي استقبل “بارْكاس” لدى عودته إلى غرفة النّوم في تلك الليلة كان سريرًا تتخلّله بقع دم واضحة.
في اللحظة التي تأكّد فيها من ذلك تحت الضّوء السّاطع، انقبض صدره بإحكام وتسرّب إليه برد غريب وصل إلى نخاع عظامه.
أراد أن يذهب إليها مرّة أخرى لتفقّد جرحها، لكنّ وجهها الذي كانت تتوسّل فيه أن تُترك وحدها طفا على ذهنه، فلم يستطع المضيّ قدمًا.
كم بقي يحدّق في السّرير الذي برد وأصبح عاجزًا عن التّصرّف، حتى انتابته فجأة رغبة عارمة في تكسير شيء ما.
كلّ شيء كان مزعجًا؛ تلك المرأة التي تتحكّم به كيفما شاءت، وذاته التي انجرفت معها، وجسده الذي لم يهدأ بعدُ وكان أسير حُمّى لا يمكن كبتها.
صرّ بارْكاس على أسنانه.
هي دائمًا ما كانت تضعه في موقف صعب بتصرّفاتها المتهوّرة والطّائشة، وتلك اللّيلة لم تكن سوى امتداد لذلك.
على الرّغم من أنّه ردّد ذلك على نفسه، إلّا أنّ أعصابه المشدودة بحدة لم تعد إلى حالتها الطّبيعيّة بسهولة.
“ماذا عن الجدول الزّمني المتبقّي؟”
عندما كادوا أن يصلوا إلى قرب بوّابة القلعة، ألقى “دارين”، الذي كان يتبعه بصمت، سؤالًا مفاجئًا.
استيقظ بارْكاس من أفكاره ورفع نظره إلى الشّمس المائلة نحو برج القلعة، وعقد حاجبيه.
كان من المفترض أن يحضر الآن اجتماعًا تستضيفه رابطة النّبلاء.
لكنّ الأجندة الرّئيسة لا بُدّ أن تكون قد انتهت بالفعل.
ولن يكون لظهوره المتأخّر أيّ فائدة سوى إضاعة الوقت في صراع عبثيّ على السّلطة.
توصّل بارْكاس إلى استنتاج سريع وغيّر اتّجاهه على الفور.
“سنعود اليوم وحسب.”
بعد ذلك، صعد بسرعة على السّرج وحثّ جواده على الانطلاق.
عندما وصل إلى القلعة، كانت السّماء قد بدأت بالفعل تتلوّن بصبغة أرجوانيّة خافتة.
رفع بارْكاس رأسه وضيّق ما بين حاجبيه عندما رأى سحبًا خفيفة تتجمّع من الشّرق.
خطر بباله أنّ المطر قد يهطل مرّة أخرى.
إذا حدث ذلك، فستُمحى آثار الذّئاب تمامًا، وستواجه عمليّة التّطهير صعوبة.
‘لا يبدو أنّ أيّ شيء يسير على ما يُرام في الآونة الأخيرة.’
أطلق بارْكاس ضحكة ساخرة خفيفة ونزل بخفّة عن ظهر “تُورْك” وبدأ صعود الدّرج.
ما إن دخل القصر الرّئيس، حتّى قام الخدم الذين كانوا ينتظرون بالقرب من الباب بخلع الدّرع والعباءة اللّذين كانا يغطّيان جسده.
تخلّص من الأيادي المزعجة بإشارة خفيفة من يده وعبَرَ القاعة الواسعة على الفور.
في تلك اللّحظة، وقع نظره على امرأة قزمة ربعيّة تنزل الدّرج وهي تحمل حزمة من الملابس. تقدّم بخطوات واسعة نحو المرأة التي تجمّدت بمجرّد أن رأته.
“كيف كان حال سموّها اليوم؟”
عند هذا السّؤال المفاجئ الذي ألقاه فجأة، ارتعشت كتفا المرأة وبدأت على الفور تتحدّث بتفصيل.
“في الظّهيرة، تناولت القليل من الفاكهة ونبيذ العسل، وفي المساء، تناولت بضع ملاعق من عصيدة الشّوفان بالأعشاب. كما تناولت مشروبًا مصنوعًا من حليب الماعز المخمّر كوجبة خفيفة. ومع ذلك، يبدو أنّ معدتها تحسّنت عمّا كانت عليه من قبل، وزادت كميّة طعامها قليلًا. كلّ هذا بفضل رعاية سيادة الدّوق الأكبر.”
استمع بارْكاس بصمت إلى الكلمات المطوّلة التي استمرّت، ثمّ سأل بنبرة متأنّية:
“كيف كانت تبدو حالتها المزاجيّة؟”
“حالها المزاجيّ…”
ظهرت علامات الحيرة على وجه المرأة.
لوى بارْكاس شفتيه وهو ينظر إلى الملابس التي كانت في ذراعيها. كانت الأقمشة الملوّنة والزّاهية ممزّقة إربًا وملفوفة معًا.
على ما يبدو أنّ زوجته، التي ساء مزاجها بشدّة مرّة أخرى، أفرغت غضبها على الأشياء.
“لا حاجة لي لسماع الإجابة إذن.”
“آه، السّيدة أصبحت حسّاسة قليلًا وحسب. ومع ذلك، لقد غيّرت رأيها اليوم و…”
المرأة التي كانت تدافع بسرعة عن سيّدتها صمتت فجأة وأخفضت نظرها بحرج.
انتظر بارْكاس استمرار الحديث، لكنّه أدرك أنّ الخادمة لا تنوي إنهاء كلامها، فعاود السّير مجدّدًا.
عندما وصل إلى أمام باب الغرفة الواقع في الطّابق الثّاني، رأى ضوء غروب الشّمس المتدفّق عبر النّافذة الطّويلة يلقي بظلّه الطّويل على أرضيّة الرّخام.
حوّل نظره إلى الدّرج المؤدّي إلى الطّابق الثّالث.
للحظة، فكّر في الذّهاب إليها شخصيًّا للتّحقّق من حالتها، لكنّه صرف النّظر عن ذلك لأنّه كان واضحًا أنّه سيُقابل بالرّفض عند الباب.
فمنذ تلك اللّيلة، كانت ترفضه تمامًا بإغلاقها الباب على نفسها.
عقد بارْكاس حاجبيه وهو يتذكّر المرأة المحاصرة، ثمّ أدار رأسه نحو غرفة نومه.
وفجأة، شعر برائحة قويّة تلامس طرف أنفه، فتجمّد جسده.
شعور غريب بالارتعاش صعد في عموده الفقري. دون أن يدرك، أمسك بمقبض الباب وسحبه بعنف.
“لقد عدتَ أبكر ممّا كنتُ أتوقّع.”
نظر إلى المرأة التي كانت تجلس على سريره بعينين جامدتين.
كانت المرأة ترتدي فستانًا رقيقًا ذي لون أزرق داكن، وتفرد تنّورتها الفضفاضة على الملاءة البيضاء، وتتّكئ بظهرها على وسادة.
أزاحت الكتاب الذي كان موضوعًا على ركبتها واستمرّت في الكلام بلا مبالاة.
“سمعتُ أنّك مشغول في الآونة الأخيرة بشؤونك الرّسميّة، فاعتقدتُ أنّك ستعود في منتصف اللّيل وحسب.”
“……ولهذا السّبب أنتِ هنا؟”
قال ذلك وهو يغلق الباب خلفه بشكل شبه غريزيّ.
“هل اعتقدتِ أنّني لن أكون هنا؟”
“لو لم أرغب في مواجهتك، فلماذا كنتُ سأحرس غرفة لا يوجد فيها أحد؟ ما أقصده هو… اعتقدتُ أنّني سأضطرّ إلى الانتظار وقتًا طويلًا حتّى تأتي.”
قالت ذلك وهي تقضم شفتيها المصبوغتين باللّون الأحمر.
أدرك أنّها تتظاهر باللّامبالاة وأنّها في حالة توتّر شديد، فعقد ذراعيه على صدره.
تسلّلت الرّائحة القويّة التي ملأت الغرفة إلى رئتيه، ممّا زاد من حدّة أعصابه المتوترة بالفعل.
جمع شتات عقله المتشتّت وحدّق فيها كأنّه يحذرها.
“هل انتظرتِني؟”
“لقد قلتُ ذلك بالفعل.”
ردّت بانفعال وترطّبت شفتيها الجافّتين.
نظر إليهما للحظة، ثمّ حوّل بصره إلى النّافذة.
شعر بأسفله معدته يتقلّص بشدّة، وأنّ درجة حرارة جسده ترتفع تدريجيًّا.
شعر بالانزعاج من نفسه وهو يتصرّف بقلق مثل فحل حصان يشمّ رائحة فرس، فسأل بحدّة:
“لماذا؟”
انبعث من صوته لهجة لوم غير مقصودة.
تقدّم بخطوات واسعة نحو السّرير ونظر إليها باستعلاء.
“لقد تجنّبتِني بشكل واضح خلال الأيّام القليلة الماضية.”
“هذا… كنتُ بحاجة إلى بعض الوقت وحسب.”
مرّت لمحة من القلق في عينيها الزّرقاوين الدّاكنتين.
ظهر احمرار خفيف على خدّيها الشّاحبين وعنقها الأبيض، ممّا جعل رائحة جسدها أشدّ تركيزًا.
قبض على أصابعه المتعرّقة وسأل بصرامة:
“أيّ وقت؟”
عصرت طرف تنّورتها بحركة عصبيّة.
“وقت للتّعافي…”
الصّوت الذي خرج وكأنّه معصور أخمد عدوانيّته للحظة.
انحنى بارْكاس أمامها بوجه جادّ.
“تلك اللّيلة، كانت هناك بقعة دم على اللّحاف. هل كان الجرح كبيرًا؟”
“لا، أنا بخير. سمعتُ أنّه أمر طبيعيّ وحسب.”
لم يدم ارتياحه لإجابتها طويلًا، فتجمّد جسده مرّة أخرى عند الكلمات التي تلتها.
“لقد شُفيت الجروح الآن، ويمكننا إقامة علاقة دون أيّ مشاكل.”
بقي صامتًا لبرهة وهو يحدّق في وجهها. استمرّت هي في الكلام بلا مبالاة.
“لإنجاب طفل، يجب أن نفعل هذا بانتظام. تقول مربّيتي… من الأفضل أن نفعل ذلك قدر الإمكان.”
في اللّحظة التّالية التي تلت نظرته الشّاردة، أطلق بارْكاس ضحكة جافّة.
على ما يبدو أنّ هذه المرأة كانت تخطّط لمعاملته معاملة فحل حصان لتكثير النّسل وحسب.
التقط الرّوب الموجود بجوار السّرير وألقاه على جسدها.
“أنا آسف، ولكن لا يبدو الأمر مغريًا بالنّسبة لي. أرجوكِ غادري غرفتي الآن.”
“لقد قلتُ لك إنّه ليس لديك حقّ الرّفض.”
اعتدلت في جلستها وأطلقت نظرة حادّة كالرّمح.
“هذا واجب. وعليك القيام به سواء أحببتَ أم كرهتَ.”
قطّب بارْكاس عينيه.
كان يعرف بعقله أنّ كلامها صحيح. فإنجاب وريث كان بلا شكّ مسؤوليّته.
والسّبب في أنّه لم يطلب إقامة علاقة حتّى الآن، على الرّغم من علمه بذلك، هو أنّه كان يدرك جيّدًا أنّها تكره لمسة الرّجل بشدّة.
وطالما كان هناك بديل وهو “لُوكاس”، لم يكن هناك سبب لإثقال كاهلها بعبء لا لزوم له.
لكن إذا طلبت هي ذلك، فإنّ الأمر يختلف.
ألم يكن يأمل في أعماقه أن تتمكّن هذه المرأة من تقبّله في يوم من الأيّام؟ إذا مدّت هي يدها أوّلًا، فما عليه إلّا أن يمسك بها.
“هل ستطيع أمري؟”
حثّت “تاليا” على الإجابة بنبرة متغطرسة كالملكات. لكنّ الخوف الذي لم تستطع إخفاءه كان يرتعش في عينيها.
تكلّم باندفاع:
“إذا كنتِ تريدين ذلك.”
تقاطعت مشاعر الخزي والارتياح على وجهها.
نظر إليها بارْكاس بتمعّن وأضاف بنبرة حازمة:
“لكن، هذه المرّة، سنفعل ذلك بالطّريقة التي أريدها أنا.”
التعليقات لهذا الفصل " 121"