شعرت تاليا بجسدها يرتجف من الإرهاق والتوتر، فأرخَتْ أطرافها كأنّها استسلمت لثقلٍ لا يُطاق. كان كل شيء قد انتهى، لكنّ شعورًا غريبًا بالفراغ يعصر صدرها.
نهض باركاس بهدوء، ثمّ التفت إليها للحظة طويلة دون كلام. حاولت تاليا أن تتجاهله، فجذبت الغطاء بسرعة لتغطي نفسها، ومدّت قدمها خارج السرير متعثرة. كانت تريد الهروب فورًا، كأنّ البقاء في هذه الغرفة ثانية واحدة أطول سيحرقها.
لكنّ ذراعه القويّ التفّ حول خصرها بسرعة البرق، فسقطت مجدّدًا على الفراش. رفعت يديها تدفعه غريزيًّا.
“اتركني! انتهى كل شيء… سأعود إلى غرفتي الآن!”
أمسك معصميها بقوّة، وعيناه تلمعان بشراسة باردة.
“هكذا ببساطة؟ تنتهين من غرضك وترحلين؟”
“قلت لك منذ البداية أنّ هذا كلّ ما أريده!”
ابتلعت تاليا ريقها بصعوبة، وحدّقت فيه بنظرات تحدٍ ممزوجة بالألم.
“لم يعد لي أيّ حاجة بك.”
تجمّد الهواء فجأة. شعرت بقبضته تشتدّ حتى كادت تؤلمها، ثمّ دفعته بكل ما أوتيت من قوّة وزحفت نحو حافة السرير.
“لا تلمسني بعد الآن!”
تفوّه باركاس بكلمات بلغة الشرق القديمة، صوتها خشن كالرعد البعيد، ثمّ التقط الغطاء من الأرض ولفّها به بإحكام كأنّه يحمي شيئًا ثمينًا… أو يأسر شيئًا خطيرًا.
فقدت تاليا صوابها تمامًا، وبدأت تتقلب وتصرخ داخل الغطاء.
“لا! أطلق سراحي!”
لكنّه لم يرد. حملها بسهولة، وخرج من الغرفة وهو نصف عارٍ، يرتدي بنطاله فقط. تفرّس الحرّاس فيهما بدهشة صامتة، لكنّ أحدًا لم يجرؤ على النطق.
عبر الرواق الطويل، صعد الدرج بثبات، ثمّ دفع باب غرفة النوم في الطابق الثالث بكتفه. ألقى بها على السرير الكبير بلطفٍ غريب متناقض مع قسوة ملامحه.
جذبت تاليا الغطاء حتى ذقنها، واستدارت ناحية الجدار.
كادت تاليا أن تصرخ “نعم! دائمًا تؤلمني!” لكنّ الكلمات تجمّدت في حلقها. تذكّرت أنّها هي من جاءت، هي من طلبت، هي من فرضت الشروط. كلّ ما حدث كان بإرادتها… أليس كذلك؟
هزّت رأسها ببطء، عيناها مملوءتان بالدموع التي رفضت السقوط.
“أنا فقط… منهكة. دعني أرتاح، أرجوك. لا أريد رؤيتك الآن.”
وقف باركاس طويلًا، جسده متصلب كتمثال، عروقه بارزة على صدره العاري. للحظة بدا كأنّه سينفجر، ثمّ هدأ فجأة كالعادة.
“سأستدعي المعالجة لتفحصك.”
“لا داعي.”
“إن لم تعِدي بقبول العلاج، لن أخرج من هذه الغرفة.”
خشن صوته، فاستسلمت تاليا أخيرًا.
“… حسنًا. اذهب الآن.”
وقف للحظات أطول، كأنّ هناك ألف كلمة تكدّس في حلقه، ثمّ استدار وأغلق الباب خلفه بهدوء مخيف.
بقيت تاليا مكوّرة على نفسها، تستمع إلى خطواته المنتظمة وهي تبتعد في الرواق، ثمّ انفجرت بالبكاء الصامت حتى نفدت دموعها.
* * *
في الصباح التالي، كانت السماء رمادية ثقيلة، والريح الباردة تهزّ أوراق الشجر الأخيرة.
جلست تاليا على طرف السرير، تحدّق في الضمادات التي غيّرتها المعالجة العجوز قبل الفجر. كانت السيدة مارثا صامتة كالعادة، لكنّ عينيها كانتا تقولان شيئًا لم تستطع تاليا فهمه تمامًا… شفقة؟ لوم؟ خوف؟
طرق الباب بخفّة، ثمّ دخلت خادمة شابة تحمل صينية فضية.
“سيدتي… أحضرت لكِ الإفطار. قال اللورد إنّه يجب أن تأكلي كلّه.”
وضعت الصينية على الطاولة الصغيرة، ثمّ تردّدت لحظة.
“و… قال أيضًا إنّه إذا احتجتِ أيّ شيء، أيّ شيء على الإطلاق، أن تطلبيه فورًا. سيأتي بنفسه.”
لم تجب تاليا. بقيت تحدّق في النافذة، حيث كانت الغيوم تتكدّس كأنّها تعكس ما بداخلها.
* * *
على مشارف المزرعة الجنوبية، كان باركاس واقفًا فوق تلّة صغيرة يراقب الحقول المحترقة جزئيًا. رائحة الدم واللحم الممزّق تملأ الهواء.
كانت آثار الذئاب واضحة: بصمات كبيرة غير طبيعية، وكمية الدم أكبر مما يتركه ذئب عادي. انحنى دارن بجانبه يفحص أثر مخلب عملاق.
“هذه ليست ذئابًا عادية، سيدي. انظر إلى حجمها… وهذا الأثر هنا، كأنّ شيئًا ما كان يجرّ الحصان وهو حيّ.”
رفع باركاس عينيه إلى غابة أرموند البعيدة، حيث تتراكم الضباب كالستار.
استدار فجأة، ونظر نحو القلعة في الأفق. كان هناك شعور غريب يعصر صدره منذ الصباح، شعور لم يستطع تفسيره… كأنّ شيئًا ما بدأ يتحرّك في الظلال، وكان هو نفسه قد فتح الباب له دون أن يدري.
“عزّزوا الحراسة حول غرفة السيدة تاليا أيضًا. لا أحد يدخل أو يخرج دون إذني الشخصي.”
نظر دارن بدهشة.
“حتى الخادمات؟”
“خاصة الخادمات.”
ركب باركاس حصانه، ثمّ استدار نحو القلعة بسرعة لم يرها دارن من قبل.
كان هناك شيء ما في الهواء… رائحة خطر لم يشمّها منذ سنوات طويلة.
وشيء آخر، أخطر بكثير: شعور بالذنب يأكل قلبه لأول مرة في حياته.
التعليقات لهذا الفصل " 120"