نهضت من سريرها ووقفت أمام المرآة، تتأمل ملامحها المنهكة طويلاً.
“أبدو كجرذٍ مبلل كان محبوساً في حساء.”
راودها هذا الخاطر فضحكت بخفة، وفي تلك اللحظة دخلت الخادمة المكلّفة بتزيينها كل صباح.
“لقد استيقظتِ باكرًا، سيدتي. تعالي، سأساعدك في الاستحمام.”
“لا حاجة لذلك.”
جاء ردها بارداً، مما جعل ملامح الخادمة تتوتر قليلاً.
نظرت إليها الخادمة من علو بنظرة صارمة وشرعت في إلقاء موعظة:
“سيدتي، بصفتك أميرة تنتمي للعائلة الإمبراطورية، عليك الحفاظ على مظهرك في كل الأوقات، سواء شئتِ أم أبيتِ. لا مجال لتصرفات الطفولة…”
“يا مربية!”
صرخت بها فجأة، فارتعشت الخادمة وسكتت.
تجاوزتها تاليا بغطرسة واندفعت نحو الجرس بجانب السرير وشرعت في هزّه بعنف.
“مربية! أيتها المربية!”
دخلت المرأة العجوز من الغرفة المجاورة وهي تلهث، وقد أيقظها نداء الأميرة.
أشارت تاليا إليها قائلة بتعالٍ:
“من الآن فصاعدًا، ستكون المربية هي المسؤولة عن تزييني. وقد وافقت أمي على ذلك البارحة. لذا، يمكنك الانصراف.”
“لكن…”
“هل تجرؤين على مخالفة أوامر الإمبراطورة؟”
قالت ذلك بحدة، فانسحبت الخادمة بحذر دون مقاومة. يبدو أنها لم تكن ترغب في الانخراط في جدال لا طائل منه.
توجهت تاليا بنظرة صارمة نحو مربيتها التي كانت تفرك عينيها المتورمتين من أثر النوم.
“سمعتِ جيدًا؟ من الآن فصاعدًا، أنتِ مسؤولة عن تنظيفي وكسوتي. فركزي جيدًا في عملك!”
“حاضر، سيدتي الصغيرة…”
قالت المربية بفتور وهي تتثاءب.
رفعت تاليا يدها فجأة وصفعتها بقوة على خدها الممتلئ. نظرت المربية إليها بذهول.
قلدت تاليا التعبير الغاضب الذي كانت تراه مرارًا على وجه والدتها عندما تشتد بها نوبة الغضب.
“كم مرة عليّ أن أكرر؟! قولي ‘صاحبة السمو’ بدلًا من ‘سيدتي الصغيرة’!”
اتسعت عينا المربية بصدمة.
حدّقت تالياً فيها وشددت على كلماتها، لفظًا لفظًا:
“إن خاطبتني هكذا مجددًا، فستُصفَعين كل مرة.”
ثم دفعتها لتبدأ في تزيينها، رغم ملامحها المندهشة.
—
استغرقت عملية التزيين وقتًا طويلاً لأن المربية كانت بطيئة جدًا.
رغم شعورها بالوهن الشديد والجوع بعد أيامٍ من الامتناع عن الطعام، خرجت تاليا من غرفتها منتصبة القامة.
في الرواق، كان هناك رجل يرتدي السواد ويملك ملامحًا كئيبة.
تجمدت في مكانها لحظة، لكنها تذكرت ما قالته لها أمها. لا شك أن هذا هو “الحارس المفيد” الذي تحدثت عنه.
أشارت له بتعجرف كي يتبعها، ثم مشت نحو قاعة الطعام.
كان واضحًا من نظرات الخدم أنهم قد انتظروها طويلاً ولم يبدوا أي ترحيب.
جلست في نهاية الطاولة الطويلة، ثم أومأت برأسها بتعالٍ:
“أحضروا الطعام.”
تردّد الخدم قليلًا، لكنهم في النهاية أحضروا الأطباق.
أشرفت إحدى الخادمات في منتصف الثلاثينات على كل شيء، وأمرتهم بوضع الأطباق واحدًا تلو الآخر أمامها، حتى وُضع طبق الحساء أخيرًا.
نظرت تاليا بتمعن إلى الطبق. بدا الحساء كثيفًا، يحتوي على الفاصوليا واللحم، ويبدو من الظاهر طبيعيًا. لكن حدسها لم يخدعها.
رفعت الملعقة وحرّكت بها السائل الكثيف المغطى بالكريمة.
وما إن بلغت قاع الطبق حتى ظهرت جثة عصفور ميت، رقبته ملتوية.
ومن فجوة عينه خرجت ديدان بيضاء نحيلة، تتحرك ببطء.
شعرت بأن أحشاءها تنقلب وبدأت الغثيان يتصاعد منها. لكنها تماسكت، ونادت الخادمة التي قدّمت الحساء بصوت حاد:
“أنتِ، تعالي واجلسي هنا.”
تفاجأت الخادمة وبدا عليها الارتباك، ثم نظرت إليها بحذر.
“أعتذر، صاحبة السمو، لدي الكثير من الأعمال…”
قالت ذلك واستدارت لتغادر بسرعة.
لطالما اعتادت البقاء بعد تقديم الطعام لترى ردّ فعلها، لكن اليوم بدا وكأنها تعرف ما سيحدث.
شعرت تاليا بشيء غير طبيعي.
نهضت فجأة وأمسكت بإبريق نحاسي من على الطاولة، ثم هوت به بكل قوتها على رأس الخادمة التي أدارت لها ظهرها.
سقطت الخادمة على الأرض وهي تصرخ، وقد أصابها الإبريق بقوة رغم أن من حمله كان طفلة.
ساد الصمت في القاعة، وانحبست أنفاس الجميع.
بعض الخادمات شهقن وغطين أفواههن برعب.
لكن تاليا لم تكترث، والتفتت للحارس الواقف في الزاوية وأمرت:
“اجعلها تجلس بجانبي الآن.”
تحرّك الرجل ببطء، ورفع الخادمة التي كانت نصف واعية، وأجبرها على الجلوس.
حاولت الفرار، لكنها لم تستطع مقاومة قوته.
نظرت تاليا إلى وجه الخادمة.
من الجرح على جانب رأسها، سال دمٌ داكن، ورسم خطين طويلين على خدها الشاحب.
دفعت تاليا طبق الحساء نحوها.
توقفت نظرات الخادمة المذعورة على الطبق أمامها، ثم ارتفعت إلى وجه الأميرة.
أجبرتها تاليا على الإمساك بالملعقة.
“أردتُ أن أُكافئكِ على جهدكِ في تحضير الطعام، لذا أشارككِ وجبتي. احرصي على ألا تتركي شيئًا.”
“صاحبة السمو، أرجو…”
“كلي.”
قالتها وسحبت يدها نحو الطبق.
“ألم تكوني من أحضره لي؟ إذًا، لا عذر لكِ لرفضه.”
“أنا… فقط…”
نظرت الخادمة بتوسل إلى من حولها، لكن الجميع كان مشلول الحركة من هول الموقف.
صرخت تالياً:
“كُليه حالًا!”
ارتجفت الخادمة ودفعت يد الأميرة، ثم حاولت النهوض، لكن الحارس أمسكها مجددًا.
بدأت تبكي وتتوسل:
“أنا آسفة… لن يتكرر هذا… أرجوكِ، فقط هذه المرة، اغفري لي…”
“إن لم تفرغي هذا الطبق تمامًا، فلن تغادري هذه القاعة على قدميكِ.”
شحب وجه الخادمة تمامًا.
نظرت إلى خصر الحارس، حيث كان سيفه يتدلّى بوضوح.
ثم شهقت وصرخت يائسة:
“أرجوكِ! ارحميني!”
أجابت تالياً ببرود:
“ألا ترين أني أرحمكِ؟
كان بوسعي قتلكِ الآن، لكني أمنحك فرصة للنجاة.”
بدأ جسد الخادمة يرتعش.
فدفعت تالياً الطبق أمامها وقالت:
“إن كنتِ فهمتِ، فابدئي بالأكل. ولا تتركي شيئًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 12"
بردت خاطري