كان بطن الطائر ممزّقًا، ربّما بفعل قطّ برّي، وكانت النمل يعجّ في أحشائه المكشوفة.
كانت تاليا في الماضي تصاب بالذعر من مجرّد رؤية الحشرات.
كانت تكره الأشياء القذرة إلى حدّ الوسواس، وتحبّ الأشياء الجميلة إلى درجة تُتهم فيها بالإسراف.
لكن، منذ وقت ما، بدأت تلقي نظراتها على الأشياء القبيحة. أزعجه هذا التغيير الغريب.
رفعها بقسوة نسبيّة وقال:
“إذا كنتِ متعبة، فعليكِ الراحة في غرفتكِ. لماذا تفعلين هذا؟”
“كنت أشعر بالاختناق، فخرجت لأتنفّس بعض الهواء. الغرفة كانت حارّة بشكل غريب.”
تمتمت تاليا بتبرير.
نظر إليها باركاس بعينين متصلبّتين، ثم وضع ظهر يده على جبينها.
لم يشعر بحرارة.
بل على العكس، كانت بشرتها باردة، ربّما بسبب الريح الباردة التي تعرّضت لها بملابسها الخفيفة.
تنهّد باركاس بخفّة، وخلع معطفه ووضعه على كتفيها.
“هيا، عودي إلى الداخل. جسدكِ بارد.”
“اسمع…”
كان يحيطها بذراعه ويتّجه نحو الباب الخلفيّ عندما أوقفه صوتها المكتوم.
خفّض عينيه إليها. ملأت عيناها الزرقاوان المتظلّلتان مجال رؤيته. عضّت شفتيها كأنّها تتردّد في شيء، ثم تكلّمت بصعوبة:
“في الماضي…”
“ها أنتِ هنا!”
قاطع صوتٌ عالٍ كلامها.
استدار باركاس نحو مصدر الصوت.
كان دارين دروشييركان، يقود خمسة أو ستة من رجاله، يعبر الحديقة وهو يدوس على أزهار الممرّ الضيّق.
“لدي تقرير عاجل. ذهبت إلى النزل والتقيت بمخبرين من العاصمة، وقالوا إنّ تحرّكات القصر ليست عاديّة. يبدو أنّ الإمبراطورة بدأت توسّع نفوذها بشكل جدّي…”
توقّف الرجل فجأة عندما لاحظ تاليا.
نظر باركاس إلى وجهها. كان وجهها، الذي بدا بريئًا كطفل تائه، قد تجمّد ببرود.
تراجعت خطوة إلى الوراء وتمتمت بنبرة منخفضة:
“سأعود إلى غرفتي، فتابع أمورك.”
“سأرافقكِ إلى غرفة نومكِ.”
“أستطيع الذهاب بمفردي.”
“ألم أخبركِ مرارًا أنّه لا يجب أن تتجوّلي دون حارس؟”
ظهرت لمحة من عدم الرضا على وجهها الجميل رداً على توبيخه.
نظرت إلى الفرسان خلف دارين، ثم أشارت إلى أصغرهم حجمًا:
“إذن، اجعل هذا الرجل يرافقني.”
تقلّصت كتفا الجنديّ المختار بدهشة.
منذ الحادثة التي هاجمت فيها تاليا لوكاس وهدّدت بانتزاع لسانه، كان مقاتلو العائلة يعاملونها كشخصيّة يجب الحذر منها. بدا الجنديّ المختار متردّدًا، يراقب باركاس بحذر.
تنهّد باركاس بانزعاج:
“ماذا تنتظر؟ تحرّك و رافق جلالتها!”
هرع الجنديّ بسرعة عند سماع الأمر. أرخى باركاس ذراعه التي كانت تحيط بتاليا على مضض.
ابتعدت تاليا عنه دون تردّد.
راقب باركاس ظهرها للحظات، ثم حوّل نظره إلى دارين، الذي أخرج على الفور لفافة من الرقّ من صدره وقدّمها.
“هذه وثائق تسجّل الأحداث التي وقعت في العاصمة منذ مغادرتكم.”
قرأ باركاس الوثيقة بعناية. ذكر التقرير وجود انقسام بين النبلاء المحافظين، وأنّ الإمبراطورة بدأت تجمع علنًا مؤيّدي الأمير الثاني.
عبس باركاس.
‘هذا لا يشبهها.’
كان الإمبراطور لا يزال قويًا.
إذا لم تحدث مفاجآت، فسيستمرّ حكم بيروس روم غيرتا لعشر سنوات أخرى على الأقل. فلماذا لا تنتظر الإمبراطورة حتّى يبلغ الأمير الثاني سنّ الرشد؟
أثار هذا السلوك غير المفهوم حذرًا شديدًا. كما استفزّت غارسيل باستخدام ابنتها، ربّما تحاول الآن إثارة الفتنة باستخدام ابنها الصغير. إذا كانت تحاول دفع غارسيل إلى التصرّف بتهوّر، فقد تكون هذه الخطبة تخفي خطرًا أكبر بكثير.
بينما كان يقرأ عن بدء النقاشات الجديّة حول خطبة وريث هيمدال والأميرة الأولى،جعّد باركاس الوثيقة.
ليس سيّئًا أن تُعزّز العلاقات مع الشمال، لكن تسليم آيلا إليهم خطر.
كان أهل الشمال متمسّكين بشكل استثنائيّ بدمائهم.
لقرون، لم يتردّدوا في الزواج بين الأقارب لحفظ شعرهم الأشقر البلاتينيّ وعيونهم الحمراء، وهي سمات العرق العملاق القديم.
لن يتقبّلوا أميرة ذات شعر أسود كسيّدتهم بسهولة. لا بدّ أن لديهم نوايا أخرى.
فرك باركاس صدغيه بتفكير، ثم غادر الحديقة.
تبعًا لإرشادات مدير المنزل، دخل إلى المكتب، حيث قدّم له خادم صغير أدوات الكتابة. جلس على المكتب وكتب عدّة وثائق، أمر فيها بالتحقيق الدقيق في حجم جيش هيمدال وتدفّقات أموالهم.
ختم الوثائق وسلّمها إلى رسول، ثم كتب برقيّتين إضافيّتين إلى العاصمة، واحدة إلى الماركيز أوريستين، والأخرى إلى غارسيل.
كتب تحذيرًا بلطف قدر الإمكان عن مخاطر الشمال، ثم وقّع الوثيقة وختمها.
راقبه دارين بعينيه وسأل بنبرة محرجة:
“هل تنوون إيقاف خطبة الأميرة الأولى؟”
نظر إليه باركاس باستغراب:
“هل هناك مشكلة؟”
“حسنًا… إذا تدخّلتم، ألن يبدو الأمر غريبًا؟”
خدش دارين مؤخّرة رأسه.
“قد يعتقد الناس أنّ الدوق الأعظم لا يزال متعلّقًا بالأميرة الأولى.”
أطلق باركاس ضحكة جافّة:
“كلام فارغ.”
لم يهتمّ بالإشاعات.
كان منع غارسيل من إثارة المشاكل أهمّ.
لفّ الوثيقة، وختمها بالشمع:
“اختر أسرع رسول وأرسله إلى العاصمة.”
نظر دارين إليه بنظرة غريبة للحظة، ثم أخذ الوثيقة وغادر.
اتّكأ باركاس على ظهر الكرسيّ ونظر من النافذة.
كانت السماء تمطر بخيوط دقيقة.
تذكّر فجأة صورة تاليا وهي تقف وحيدة في الحديقة. ماذا كانت ستقول حينها؟
عندما تذكّر عينيها الحزينتين وهي تحدّق في الطائر الميت، شعر بإحساس غير مريح في صدره.
غمرته قلق غامض، فضرب المكتب بأصابعه، ثم غادر المكتب.
كانت القاعة صاخبة كأنّهم يجهّزون لاستقبال.
مرّ باركاس بين الخدم الذين ينحنون له وصعد السلالم.
عندما فتح باب غرفة النوم، رأى شخصيّة صغيرة متكوّرة على السرير الواسع.
اقترب من السرير. لاحظ خدّيها البيضاوين الأنيقين وقد تصاعدت عليهما حمرة خفيفة.
كانت طوال اليوم مثل كتكوت مريض، ويبدو أنّها أصيبت بالحمّى أخيرًا.
تنهّد باركاس طويلاً، والتقط منشفة نظيفة من الرفّ.
كان ينوي مسح وجهها، لكنّه شمّ رائحة غريبة فجأة.
توقّف عن الحركة. كان هناك بقعة حمراء داكنة على زاوية فمها.
التعليقات لهذا الفصل " 107"