لم يكن من الممكن معرفة متى ستنقضّ تاليا مرّة أخرى بحدّة وتهاجم، لكنّها في الآونة الأخيرة بدت هادئة بشكل ملحوظ. يبدو أنّها لم تملك حتّى الطاقة للتعنّت.
‘ربّما كان خطأً أن أحضرتها معي.’
نظر باركاس إلى وجهها الهزيل بعينين قلقتين، ثم خطا خارج العربة.
تدفّقت أشعّة الشمس الساطعة على رأسيهما كالمطر الغزير. ظهرت تجعيدة خفيفة على جبين تاليا الباهت، وكأنّ الضوء أزعج عينيها.
ألقى باركاس طرف معطفه فوق عينيها ليصنع ظلّاً، ثم عبر بوّابة القلعة مباشرة. ألقيت مئات الأعين المليئة بالفضول نحوهما. شعر فجأة بتوتّر في ظهره.
كان معتادًا على أن يكون محطّ الأنظار، محاطًا دائمًا بالنظرات. ومع ذلك، لم يستطع أن يظلّ هادئًا بسهولة أمام الأعين التي تتسلّل لتراقب المرأة التي يحملها بين ذراعيه.
“يبدو أنّ الأميرة مريضة.”
تمتم قائد الحرس، الذي تبعه ليرشده، بنبرة متعاطفة، وعيناه ملتصقتان بشعرها المشعث وخدّيها الشاحبين. كبح باركاس رغبته في إخفائها وهو يقول ببرود:
“سأكون ممتنًا إن أرشدتني إلى غرفة النوم أوّلاً.”
“بالطبع، يجب أن نراعي ذلك. تفضّل من هنا. لقد أوصى السيّد تيموران بمعاملة الدوق الأعظم بكلّ احترام.”
عبر الرجل غرفة تبدو كصالة استقبال وفتح بابًا محاطًا بإطار حديديّ.
دخل باركاس وتفحّص الديكور الداخليّ البسيط بعناية.
كانت غرفة نوم متواضعة لكنّها ليست رثّة.
بدا أنّها مناسبة للإقامة لبضعة أيام، فوضع تاليا على السرير.
في تلك الأثناء، كانت تاليا غارقة في نوم عميق.
هل لا تزال تأثيرات المهدّئ الذي أعطته إيّاها المعالجة مستمرّة؟ راقبها باركاس بعناية وهي تكافح لاستعادة وعيها، ثم لمح قائد الحرس يتردّد عند الباب.
ألقى عليه سؤالاً حادًا:
“ما الأمر؟”
“أعتذر، لكنّ السيّد تيموران يطلب مقابلتكم فورًا. هل يمكنكم الحضور إلى غرفة الاستقبال الآن؟”
عبس باركاس.
من المعتاد أن يُعرض على الضيف الذي قطع مسافة طويلة الراحة أوّلاً. هذا يعني إمّا أنّ تيموران رجل وقح لا يعرف الأصول، أو أنّ لديه أمرًا ملحًا لا يسمح بمراعاة التقاليد.
نظر إليه باركاس بنظرة فاحصة للحظات، ثم أومأ برأسه:
“سأذهب فورًا.”
تنفّس الرجل، الذي كان متوتّرًا، الصعداء.
أمر أحد رجاله المنتظرين في الممرّ باستدعاء معالجة، ثم تبع الرجل على الفور.
بعد قليل، ظهرت غرفة أنيقة مضاءة بضوء ساطع.
عبر باركاس سجادة منقوشة بنقوش معقّدة واقترب من طاولة خشبيّة ضخمة.
نهض رجل عجوز من الجهة المقابلة ليستقبله بحرارة.
“شكرًا لقدومكم، أيها الدوق الأعظم.”
لم يكن ادعاء المرض كذبًا، إذ بدا الفارس العجوز شاحبًا.
راقبه باركاس بهدوء وجلس دون كلام.
جلس الرجل العجوز أيضًا وبدأ يتحدّث بسرعة:
“أرجو أن تسامحوا على قلّة اللياقة. كما ترون، صحّتي ليست على ما يرام، وقد أسقط في أيّ لحظة. كنت أرغب في مقابلتكم وأنا لا أزال في كامل وعيي، ولهذا تجرّأت على استدعائكم بهذه العجلة، وأعتذر مئة مرّة…”
“كفى من المقدّمات، قل لي ما الذي تريده.”
قاطع باركاس كلامه الطويل بحدّة.
مسح الفارس العجوز العرق من جبينه، ونظر إليه بحذر قبل أن يبدأ:
“في الحقيقة… هناك أمر أودّ استفساره.”
مدّ يده إلى خادم واقف خلفه كالظلّ، فوضع الشاب وثيقة من الرقّ في يده.
قدّمها الفارس بنبرة متوترة:
“قبل فترة، تلقّينا أخبارًا تفيد بأنّ عائلة هيمدال تجمع المحاربين في الشمال. هل صحيح أنّ وليّ العهد وراء ذلك؟”
أخذ باركاس الوثيقة وبدأ يقرأها بعناية.
يبدو أنّها معلومات مرّرها تاجر يتنقّل بين الشمال والشرق. كانت الوثيقة مكتوبة بخطّ يصعب تحديد كاتبها، وتتضمّن تفاصيل عن تحرّكات نبلاء الشمال وشهادات عن رؤية فرسان تابعين للإمبراطوريّة في أماسيك.
قرأها باركاس بسرعة وهو ينقر على الطاولة بأصابعه، بينما استمرّ الفارس العجوز بحذر:
“مؤخرًا، بدأت تتردّد أحاديث عن خطبة بين الأميرة الأولى ووريث عائلة هيمدال. هل تعلمون بهذه الأمور؟”
“ما الذي تريد معرفته بالضبط؟”
رفع باركاس عينيه عن الوثيقة وسأل مباشرة.
بلل الفارس العجوز شفتيه المتوترتين وأخيرًا تطرّق إلى صلب الموضوع:
“أريد معرفة موقفكم الدقيق، أيها الدوق الأعظم. على أيّ جانب نقف؟”
حدّق باركاس في وجه الرجل دون إجابة.
لم يتحمّل الفارس العجوز الصمت القصير، فتكلّم بنبرة متعجّلة:
“بدأت شائعات تنتشر بأنّ الشرق قد يتحوّل إلى الحياد أو يميل إلى جانب الإمبراطورة بسبب زواجكم. ويقال إنّ وليّ العهد بدأ يقيم علاقات وثيقة مع الشمال. هناك من يخشى من احتمال نشوب صراع مسلّح.”
أطلق باركاس ضحكة خفيفة.
لم يمرّ سوى بضعة أشهر على فسخ خطوبته وزواجه.
يبدو أنّ الجميع كان مشغولاً بالتحرّكات.
اتّكأ باركاس على ظهر الكرسيّ، ورفع الوثيقة فوق شمعة على الطاولة. احترق الرقّ الأصفر، مطلقًا دخانًا أسود، وتقلّص بسرعة.
نظر إليه للحظات، ثم التفت إلى الفارس العجوز وقال بحزم:
“لم يتغيّر شيء. الشرق يدعم غارسيل روم غيرتا.”
“لكن لماذا يتوجّه وليّ العهد إلى الشمال…”
“إنّه يحاول إعادة بناء سمعة أخته التي أذلّها أحد الرعاع. كم عائلة في هذه الإمبراطوريّة يمكن أن تقارن بعائلة شييركان؟”
على الرغم من تأكيده، لم تتلاشَ الشكوك من وجه الفارس.
تنهّد باركاس بإرهاق:
“أفهم قلقك كمدير لمنطقة قريبة من الشمال، لكن يبدو أنّك مفرط في الحساسيّة. إنّها مجرّد شائعات.”
“هل تعني أنّكم لا تزالون تقفون إلى جانب وليّ العهد؟”
شعر باركاس بانزعاج خفيف من السؤال الملحّ، لكنّه تماسك:
“نعم. لن تقف عائلة شييركان ضدّ وليّ العهد.”
ظهرت نظرة ارتياح على وجه الفارس العجوز أخيرًا.
“شكرًا على إجابتكم الصريحة. بفضل لطفكم، يمكنني الآن التخلّص من همومي.”
أومأ باركاس برأسه بدلاً من الردّ، ثم نهض من مقعده.
حاول الفارس العجوز مرافقته، لكن باركاس أوقفه بإشارة يد خفيفة وغادر غرفة الاستقبال بسرعة.
كان الظلام قد بدأ يهبط على الممرّ.
سار متابعًا الظلال الداكنة وهو يرتب أفكاره بسرعة.
لم تكن تصرّفات غارسيل المتهوّرة مفاجئة.
بطبعه المشكّك، لم يكن ليطمئنّ بسهولة لتأكيداته.
كان من المتوقّع أن يمدّ يده إلى الشمال لبناء قوّته الخاصّة. لكن سرعة انتشار الشائعات كانت أمرًا يستحقّ الحذر.
‘يبدو أنّ نفوذ الإمبراطورة بدأ يصل إلى الشرق.’
لولا ذلك، لما انتشرت أخبار تحرّكات وليّ العهد بهذه السرعة في الشرق.
تلك المرأة لم تتخلّ عن خطتها لزرع الفتنة بينه وبين غارسيل.
شعر باركاس بتوتر يتصاعد وهو يحوّل بصره إلى النافذة.
كانت السماء مغطّاة بسحب رماديّة، كأنّ المطر قادم، وكانت الأعشاب الضارّة في الحديقة والممرات مغمورة بالغسق.
نظر إلى هذا المشهد الكئيب بلامبالاة، ثم توقّف فجأة.
في لحظة، شعر بطعنة حادّة تمتدّ من صدغيه إلى جبينه.
كانت المرأة التي وضعها بنفسه على السرير تتجوّل في الحديقة وحدها، حتى دون خادمة ترافقها.
التعليقات لهذا الفصل " 106"