ساد الصمت للحظات. تردّدت المرأة أمام الباب وكأنّها تتردّد في شيء، ثم اقترحت بحذر:
“إذا لم يكن هناك مانع، هل أعدّ لك شايًا بالأعشاب لتتمكّني من النوم براحة؟”
عبست تاليا. شعرت بانزعاج مفاجئ لأن المرأة لم تمتثل لأمرها بالمغادرة فورًا.
“لا حاجة…”
كادت تاليا أن ترفض كعادتها، لكنّها أغلقت فمها فجأة.
تذكّرت أنّها وعدت معالجة من عائلة تارين بتسليمها الدواء الذي أعدّته.
لم تكن تشكّ حقًا في أنّ الدواء قد يكون مريبًا، لكن لا ضرر من الحذر.
بعد تفكير قصير، ردّت تاليا بتنهيدة:
“حسنًا. ادخلي.”
بعد قليل، دخلت المعالجة الغرفة وهي تحمل حزمة صغيرة بيدها.
نظرت تاليا إليها بنظرة فاحصة.
كانت المرأة، التي بدت وكأنّها نهضت لتوّها من النوم، ترتدي فستانًا صوفيًا فضفاضًا يبدو كثياب النوم، وعليه رداء رمادي اللون.
مشيت المرأة، وهي تبدو مرتبكة، وهي تمرّر شعرها المشعث وراء أذنيها، ثم اتّجهت نحو المدفأة.
“انتظري لحظة، سأعدّ الشاي فورًا.”
علّقت إناءً نحاسيًا فوق النار، ثم أخرجت من الحزمة عدّة حزم من الأعشاب.
خلطت بعضها ووضعتها في الإناء، ثم سكبت الماء الفاتر.
بعد قليل، بدأت رائحة البابونج والخزامى تملأ الغرفة.
“ها هو، قد انتهى.”
قدّمت المرأة كوب الشاي بحذر إلى تاليا.
أمسكت تاليا الكوب ونظرت إليه بهدوء.
كانت رائحة العسل ممزوجة برائحة الأزهار تنبعث منه.
بينما كانت تستمتع بالرائحة، عاد صوت العواء الطويل يقطع هواء الليل. أطلقت تاليا تنهيدة عصبيّة.
يبدو أنّه سيستمرّ بالعواء طوال الليل.
“أغلقي النافذة، من فضلك. وأسدلي الستائر أيضًا.”
امتثلت المرأة للأمر على الفور. لكن حتّى بعد إغلاق النافذة وسحب الستائر الثقيلة، استمرّ صوت عواء الحيوان واضحًا.
نظرت المعالجة إلى تاليا بوجه محرج وقالت:
“يبدو أنّ ذئبًا يشتاق بحزن إلى أحد في القرية.”
نظرت تاليا إليها بذهول:
“هل تمزحين معي الآن؟”
ارتبكت المرأة من ردّ الفعل الحاد، لكنّها استمرّت بنبرة هادئة:
“ليس هذا ما قصدته… في الشرق، هناك خرافة تقول إنّ من ماتوا دون أن يتلقّوا التعميد يولدون من جديد كحيوانات بريّة. يُعتقد أنّ عواء الليل هو أغنية يردّدونها اشتياقًا لمن أحبّوهم في حياتهم السابقة.”
أطلقت تاليا ضحكة ساخرة:
“الأرواح التي لم تتلقَ التعميد تسقط في الهاوية وتتلاشى، هذا كلّ شيء. ألا تعرفين هذا التعليم الأساسيّ؟”
“بالطبع، أعرفه جيّدًا.”
ظهرت لمحة من المرارة على شفتي المرأة فجأة.
“لكن، أليس من الأكثر مواساة أن نؤمن بأنّ من نحبّهم قد عادوا إلينا، ولو على هيئة حيوانات، بدلاً من الاعتقاد بأنّهم سقطوا في الهاوية؟ حتّى الكهنة يتغاضون عن هذا الاعتقاد.”
اتّسعت عينا تاليا بدهشة:
“هل هناك الكثير ممّن يموتون دون تعميد؟”
“كما هو الحال مع جميع مواطني الإمبراطوريّة، نحن في الشرق نتلقّى التعميد خلال مئة يوم من ولادتنا. لكن الأطفال المولودين موتى لا يحظون بهذا البركة.”
أدركت تاليا لمحة الألم في صوت المرأة، فتصلّبت جسدها.
هل فقدت هذه المعالجة طفلاً؟
لم تعرف تاليا ماذا تقول، فبقيت مضطربة، لكن المرأة ابتسمت بلطف كأنّها تحاول تبديد الجوّ:
“الشاي سيبرد. اشربيه الآن.”
نظرت تاليا إلى المرأة بحذر، ثم ارتشفت الشاي الفاتر.
راقبت المعالجة ذلك بهدوء، ثم وضعت بعض قوارير الدواء على الرفّ وغادرت الغرفة.
استلقت تاليا على السرير، تستمع إلى صوت العواء الذي بدأ يخفّ تدريجيًا.
ربّما سمعت هذه المرأة أغنية تناديها. ربّما لهذا لم تستطع النوم حتى الآن.
غرقت تاليا في هذه الأفكار للحظات، ثم طردت هذه التخيّلات العابرة من ذهنها.
كان ألمها الخاصّ يكفيها. لم يكن لديها متّسع للاهتمام بآلام الآخرين.
* * *
ربّما ساعدها شاي الأعشاب، فقد نامت بعمق دون أحلام.
استيقظت تاليا في مزاج منعش لم تشعر به منذ زمن، ونظرت بعيون لا تزال مشبعة بالنوم إلى النافذة الزجاجيّة التي بدأت تضيء.
في تلك اللحظة، شعرت بحركة قريبة.
هل جاءت المربيّة بماء الاغتسال؟
فركت تاليا جفنيها المتصلّبين، واستدارت نحو مصدر الصوت، فشعرت بأصابع باردة قليلاً تلمس خدّها.
اتّسعت عيناها بدهشة. كان باركاس، مرتديًا ملابس مريحة، ينحني فوق السرير. متى عاد؟
رمشت تاليا بعينيها مذهولة، ثم نهضت فجأة.
بينما كانت تفحصه من رأسه إلى أخمص قدميه لتتأكّد من عدم وجود إصابات، شعرت بذقنها ترتفع، ثم هبطت شفتاه عليها دون سابق إنذار.
التعليقات لهذا الفصل " 103"