استدار لوكاس على الفور وفرّ هاربًا وراقب دارين المشهد من قريب ثم قال بحذر
“ألست قاسيًا عليه بعض الشيئ ؟ ماذا لو حمل في نفسه ضغينة ضدك ؟”
ردّ باركاس بنبرة باردة خالية من الانفعال
“لوكاس هو الوريث الوحيد لعائلة الدوق الآن وإن حدث لي شيئ سيكون عليه أن يرث اللقب”
ثم أضاف بنبرة أقرب إلى العتاب
“بصراحة ما أود معرفته هو كيف تُرك بهذا الشكل دون تدريب حتى الآن”
دارين هزّ كتفيه بخفة قائلاً
“لكن سموّك لا تزال شابًا وقويًّا في صحتك لا حاجة لـ التفكير بوريث في هذا الوقت”
ثم تحدث مبتسمًا
“ناهيك أنك متزوج الآن فـ لا بد أنك سترزق بوريث شرعي قريبًا”
باركاس لم يُجبه بل فتح قنينة الماء المثبتة على خاصرته وبلّل شفتيه بصمت، كان الجنود يتحركون بنشاط من حولهم وبينهم بدت أربع عشرة عربة محملة بالبضائع وعربة كبيرة ذات أربع عجلات صُممت للسفر الطويل
وبالقرب كان قزم ضئيل الحجم يترنح وهو يحمل حوضًا ضخمًا ،يبدو أنه كان في طريقه لـ خدمة زوجة باركاس
فجأة انتشرت في فمه مرارة قاسية كـ من مضغ معدنًا صدئًا
منذ أن أصيبت تاليا بـ ساقها أصبحت شديدة الحساسية تجاه الكشف عن جسدها لم تكن تسمح لأحد بلمس ساقها سوى لـ والدتها أو المعالجة التي اختيرت بعناية
وحين حاول هو بنفسه معاينة إصابتها انتابتها هيستيريا عارمة، حين تذكّر كيف كانت تتلوى وترتجف كلما اقترب من موضع إصابتها غلبه شعور خانق بالمرارة
سقى حلقه الخشن رشفة إضافية من الشراب القوي ثم توجّه نحو خيوله لـ يفك قيودها كان بحاجة لـ صرف تفكيره فـ طرح سؤالًا عابرًا
“هل لاحظت شيئًا غير معتاد في قلعة دوركاين؟”
أجاب دارين بهدوء وهو يداعب ذقنه
“لا شيئ مشبوه على ما يبدو، ولكن يبدو أن الدعوة كانت بدافع الرغبة في كسب صلة بعائلة الدوق”
ثم أضاف
“وحين كنت تتحدث مع سيد القلعه استغللت الوقت لتفقد ساحة التدريب ولم أجد شيئًا مريبًا ،عدد الجنود فعلاً قليل ويبدو أن حديثه عن نقص القوى حقيقي”
“هل هناك سبب واضح لهذا النقص ؟”
تنهد دارين بعمق
“يبدو أن الأمر يعود لمشكلات مالية ،سيد القلعة لا يبدو بارعًا في إدارة شؤون الأرض، العديد من الجنود تركوا القلعة بسبب عدم تلقيهم رواتبهم ومع تزايد هجمات البرابرة تكبدوا خسائر جسيمة”
ثم أنهى بنبرة واثقة
“لا أظنه يجرؤ على تحديك سيدي”
ظلّ باركاس يحدّق في المروج التي لفّها ضوء الغروب
غارقًا في التفكير
وكان رأيه قريبًا من رأي دارين أثناء مرض والده سعى كبار النبلاء في الأقاليم إلى تقوية نفوذهم بشكل منفرد
أما أولئك الذين لم ينجحوا في بناء قوة عسكرية فلا شك أنهم كانوا يشعرون بالتهديد من جيرانهم الأقوياء، ولأجل أمنهم الذاتي ربما وجدوا في دعم الدوق الجديد خيارًا أكثر حكمة ،لكن السؤال الحقيقي كان هل يصلح هذا الرجل لأي شيئ ؟
سأل دارين وهو يلاحظ الشرود على وجه سيده
“هل تنوي دعمه لـ كبح جماح الآخرين ؟”
هزّ باركاس رأسه ببطء
“سأقرر ذلك بعد أن ألتقي بـ بقية النبلاء”
ابتسم دارين وأجاب
“خطة حكيمة”
أنهى باركاس الحديث وتوجه نحو مركز المعسكر
كان الجنود قد تجمعوا حول نيران المخيم لـ تناول طعامهم تفقدهم باركاس بـ عينيه ثم غيّر مساره نحو خيمته، بمجرد دخوله الخيمة المعتمة باغته مزيج من رائحة زيت الورد الثقيلة والحلاوة اللزجة
قطّب حاجبيه وهو ينظر إلى السرير المضاءة حوله الشموع حيث كانت تاليا ملقاة على بساط التابستري ترتدي قميص نوم واسع بلون أزرق باهت ونسمة باردة تسللت بين ضلوعه
اقترب منها ولمس خدها بظهر يده كانت بشرتها ناعمة كـ خزف مصقول ومبللة بعرق بارد
هل عادت تعاني من الألم ؟ ذهب باركاس إلى الرف وأخذ يبحث بين الجرار ،
إن كان الألم شديدًا حتى وهي نائمة فقد يكون من الأفضل حرق بعض العلاجات العطرية
أخذ عودًا عطريًّا من الذي أحضره المعالج ووضعه في الموقد الصغير وأوشك أن يشعله حين سمع صوتًا ناعمًا قريبًا
“…باركاس”
استدار لـ يقابل عينيها المغشيتين بالنعاس وضيقت عينيها في محاولة للتركيز ثم حدقت فيه ،كانت تبدو وكأنها مسحورة
قطّب جبينه هل استخدم أحدهم بالفعل مخدّر النوم ؟
اقترب منها وشم عند ياقة قميصها لكنه لم يشم شيئًا سوى رائحة جسدها التي كانت حلوة خانقة حتى غلقت أنفاسه
الانطباع الحسيّ كان قويًا إلى حدّ الذهول، حتى كأنه أيقظ فيه حواسًا دفينة نسيها منذ أمد بعيد ،حاول مقاومة هذا الشعور واعتدل بهدوء
لحسن الحظ استعاد هدوءه بسرعة وتنهد،
ونظر إليها بنظرة فاحصة وسأل بهدوء
“هل تعانين من الحمى؟”
حينها فقط بدا أنها استعادت وعيها ،
واتسعت عيناها ببعض التركيز
سحبت الغطاء إلى صدرها وردّت بجفاء
“أنا بخير كنت فقط أغفو”
“هل تناولت طعامك؟”
أشارت بذقنها إلى صينية الطعام بجانب السرير
“أكلت قبل قليل”
نظر إلى الصينية فـ رأى أن الطعام بالكاد لُمس،
ربما لم تأكل سوى بعض العسل أو الفاكهة
انقلب ذلك الشعور الغريب بداخله إلى انزعاج
لكنه كتم انفعاله ونهض بهدوء متجهًا نحو باب الخيمة ليخرج ويتفقد جولته
لكن—
“بـ… باركاس!”
توقف عند الخطوة الأولى وقد أمسكت بكم معطفه فجأة، ونظر إليها بدهشة تاليا كانت تمسك بكمه بإحكام تنظر إليه بعينين مضطربتين وهمست بصوت متكسر
“أنا… ساقي تؤلمني”
ثم تابعت وهي تمزق بـ شفتيها
“أعطني الدواء…”
ثم خيم الصمت
باركاس رمش ببصره ونظر إلى شفتيها الممزقة المنتفخة، كانت حمراء داكنة كأنها حبة رمان مهروسة وتذكر إحساس تلك الشفاه …
تملكه عطش مفاجئ وسار بهدوء نحو الرف وأخرج زجاجة دواء من صنع معالج العائلة واقترب منها مجددًا ما إن رأت الزجاجة حتى بدت علامات القلق على وجهها ورفعها أمام وجهها وسأل
” هذا هو؟”
تلون وجهها الوردي بـ لون أكثر عمقًا
احمرّت أذناها وعنقها ثم أومأت برأسها ببطء، دون أن تلتقي نظراتها به، فتح الغطاء وسكب قليلاً من الدواء في فمه ثم جلس على حافة السرير يحيط عنقها الرقيق بكفه
كان قلبها ينبض سريعًا، تحت جلدها الناعم ذكّره ذلك بإمساك طائر صغير بيده حين يشعر بندى الحياة يرتجف تحته.
أحاط ذقنها بكفه ثم قرّب شفتيه إلى شفتيها الغنية كـ قطرات الدم و أطبق شفتيه على شفتيها
التعليقات لهذا الفصل " 100"