بعد تلك الضجة التي حدثت، بدأت تاليا تمكث داخل الجناح الفرعي دون أن تغادره.
لكنها، ومن خلال همسات الخادمات اللواتي لم يتوقفن عن الثرثرة، رغم أنهن كنّ يتصرفن كأنها لا تتكلم، علمت أن الصبي الذي اعتدى عليها هو ولي عهد الإمبراطورية، وأخوها غير الشقيق. كما أدركت أن الفتاة ذات الشعر الأسود التي رأتها في غابة أشجار القضبان البيضاء هي أختها غير الشقيقة أيضًا.
بل وعرفت أن والدتهما توفيت منذ أقل من ستة أشهر فقط.
وهذا يعني أن دخولها هي ووالدتها سينيفيير إلى القصر الإمبراطوري، جاء بعد ثلاثة أسابيع فقط من وفاة الإمبراطورة السابقة برناديت.
بل إن سينيفيير، ومنذ لحظة دخولها القصر، قامت بمحو كل أثر للإمبراطورة السابقة.
بدأت تاليا تتساءل إن كان ذلك البستان الصغير خلف القصر، الذي بقي على حاله، هو الأثر الوحيد المتبقي من برناديت، والذي لم تستطع والدتها محوه.
نظرت من نافذة غرفتها.
كانت أمطار الصيف تهطل بغزارة على الحديقة التي اعتنت بها والدتها بكل حب. رائحة الأعشاب المشبعة بالماء كانت نفاذة، والنباتات في نظرها بدت كوحوش مقززة.
أغلقت الستائر، ثم جلست على سريرها، منكمشة على نفسها، مسترجعة في ذهنها نظرة الكراهية في عيني ولي العهد، ووجه أختها الشاحبة من الخوف. وتذكّرت أيضًا الصبي ذو العينين الزرقاوين الذي احتضنها وكأنما يحاول حمايتها، بينما يرمقها بنظرة صارمة.
“باركاس لايدغو سياوكان…”
همست باسمه، وهي تحدّق في سقف الغرفة شاردة الذهن.
رغم أنها عرفت أخيرًا اسمه، لم تشعر بأي سعادة. لأنها أيقنت بأنه لن يبتسم لها أبدًا.
كانت الإمبراطورة السابقة برناديت تنتمي إلى عائلة أوريستين النبيلة، إحدى أبرز عائلات أوسيريا. أما والدة تاليا، فكانت سيدة نبيلة من عائلة سياوكان. مما يجعل العلاقة بين برناديت وباركاس علاقة قرابة بعيدة.
ليس هذا فحسب، بل إن برناديت، رغم صغر سنه، اعتنت بباركاس حين دخل القصر وتلقى تدريبه القاسي هناك. ربما لهذا السبب، هو يرى سينيفيير كعدوة شخصية.
“وربما يراني كذلك أيضاً…”
عندما تذكّرت برود عينيه حين نظر إليها، شعرت لأول مرة بأن كونها ابنة سينيفيير شيء تافه يدعو للخجل. حتى ملامح وجهها التي كانت تعتز بها لأنها تشبه أمها، أصبحت مصدر إحراج لها.
تاليا لم تكن تريد أن تشعر بهذه الطريقة.
“أنا من تعرضت للضرب المبرح، فلماذا أشعر بالذنب؟”
المخطئ هو ولي العهد.
“أنا لم أكن أعلم شيئًا! لم أفعل شيئًا خاطئًا! لست سيئة. لم أرتكب أي جرم.”
كررت هذه الكلمات مرارًا وتكرارًا. لكنها، عندما كانت محاطة بنظرات الخدم الباردة، كانت كل تلك التبريرات تتلاشى.
لقد فهمت تمامًا معنى قسوتهم التي تمس جسدها مباشرة.
كانوا يجلبون لها ماءً بارداً كالجليد للاستحمام، ويفركون جسدها بخشونة حتى يحمر جلدها، ويستغلون كل فرصة لتوخيز جلدها بالدبابيس عند تبديل ملابسها، ويمشطون شعرها بعنف حتى تُصاب فروة رأسها بجروح، ويقدّمون لها طعامًا باردًا لا يُؤكل في كل وجبة… كل ذلك لم يكن إلا طريقتهم في معاقبتها.
كانت تعلم أنهم يكرهونها. لكنها لم تتأثر كثيرًا، فقد اعتادت على المعاملة القاسية حتى في منزل عائلة تارن.
عندما كانت تاليا تشعر بالضعف، كانت سينيفيير تضمها وتهمس لها بأنها ثمرة حب حقيقي، وأنه لا يجب أن تهتم بكلام أحد.
صدّقت تاليا ذلك، وحاولت دائمًا أن تبقى واثقة بنفسها. لكنها الآن لم تعد تملك أمّها إلى جانبها، وكل ما يحيط بها كان همسات تتحدث عن مدى طيبة الإمبراطورة السابقة، والمعاناة التي تحملتها حتى وفاتها.
مع الوقت، خفتت روحها. لم تعد ترفع رأسها شامخة كما اعتادت، وصارت تحدّق في الأرض بصمت. وكلما لاحظ الخدم هذا الانكسار، زادوا من قسوتهم. حتى سينيفيير والإمبراطور لم يعودوا يبالون بها، فاختفى خوف الخدم من العقاب.
من البداية، لم تكن تاليا بالنسبة لهم أميرة. بل مجرد دليل حي على خيانة سينيفيير، وجرح لا يندمل في قلب برناديت التي خدموها بإخلاص.
عندما تمر في الممرات، كانت تسمعهم يتهامسون عنها. كادت تفقد عقلها. كانت تمتلئ بالظلم والغضب في كل مرة تسمع كلامًا يهاجمها.
ومع ذلك، كانوا يقولون إن ولادتها تسببت بمعاناة الجميع. لذا شعرت أحيانًا أنها تستحق كل هذا الألم.
لكن الأمر تجاوز حدود التحمل…
كان ذلك بعد مرور موسمين على دخولها القصر. في أحد الصباحات، نزلت لتناول الإفطار وشعرت بشعور غريب ومزعج.
كان هناك عدد كبير من الخدم بانتظارها في قاعة الطعام. وعندما رأت الخادمات مصطفّات على طول الجدار، ساورها شعور قوي بأن هناك أمرًا غير طبيعي.
لكن على عكس توقعها، كان الخدم مهذبين، والمائدة عامرة بأنواع الطعام. نظرت تاليا مشوشة إلى صحنها الفضي.
أحضرت خادمة المطبخ خبزًا طازجًا ذهبي اللون بدلًا من الخبز القاسي المعتاد، ثم تبعته أطباق مشوية من السمان، وحساء ساخن يتصاعد منه البخار.
كانت قد اعتادت خلال الأشهر الماضية على طعام فظيع، شبيه بماء المطر في برودته وسوائله المائعة. وعندما رأت ذلك الحساء الساخن المليء بالمكونات، شعرت برغبة بالبكاء.
نظرت حولها، فرأت عشرات الأعين تراقب رد فعلها.
“ربما… لم يعودوا يكرهونني؟ هل قرروا أخيرًا مسامحتي والتصرف بلطف؟”
رفعت الملعقة، وغرفت الحساء الذي تفوح منه رائحة الزبدة والحليب والخضار، وأدخلته إلى فمها. ملأها دفء النكهة، وبدأ الجوع الحقيقي يجتاحها فجأة. نسيت كل شيء وأخذت تأكل بنهم.
ولكن بعد عدة لقمات، شعرت بطعم غريب. لم يكن مجرد رائحة لحم غير مطبوخ جيدًا، بل كان هناك شيء كريه لا يُحتمل. عبست، وحدقت في الحساء.
عندها سمعت ضحكات مكتومة خلفها.
استدارت بسرعة، فرأت الخادمات يطأطئن رؤوسهن بوجوه خالية من التعابير، لكن تاليا رأت زوايا شفاههن ترتجف. شعرت بقشعريرة تسري في ظهرها.
ترددت قليلًا، ثم بدأت تحرّك الحساء بملعقتها. أزاحت بعض القطع الكبيرة، حتى ظهرت في قاع الوعاء كتلة غريبة.
لم تكن مجرد قطعة لحم.
عندما التقطت الكتلة بالملعقة، تجمّدت في مكانها من الصدمة. كان فأرًا رماديًا منتفخًا، منقوعًا في الحساء، وفمه مفتوح كأنه يصرخ. لم تستطع حتى أن تصرخ.
تدحرجت عن الكرسي وسقطت على الأرض، وتقيأت الحساء. لم تستطع التوقف عن الغثيان رغم أنها أفرغت معدتها بالكامل.
كانت الرائحة المقززة تملأ أنفها، وطعم الفأر الميت عالق في لسانها كأنه لن يزول أبدًا.
أدخلت أصابعها إلى حلقها، تخدش لسانها محاولة إخراج ما تبقى، بلا جدوى.
وبينما كانت ممددة على الأرض تتقيأ، رأت من خلال دموعها قدمي خادمة تمر بجانب الطاولة.
رفعت رأسها ببطء، فرأت الخادمة تجمع الأطباق بهدوء وكأن شيئًا لم يحدث. كان الخدم الآخرون يتصرفون بشكل طبيعي، ينظفون الطاولة ويتجاهلون تمامًا وجودها المستلقية فوق قيئها…
التعليقات لهذا الفصل " 10"
يارب تولع فيهم وفالبطل وفكل واحد
اوفر يخي مارح اتخطى وش صار فيها ما تنلام على شحصيتها الحين وربي
خيييييييررررر
!!!!!!!!!