For you in the cage - 9
لا بُدَّ أنهُ أرادَ التأكُد من شيءٍ ما أمامَ والدتهما.
“أنتَ ابنٌ وفيٌّ جدًا. هل ترُدُّ الحُب الذي تلقيته؟”
تدخلَ صوتُ ديلتينوس الحادّ مُقاطِعًا. ضيّقَ يوليف المسافة بينهُ و بينَ ديلتينوس. و بعد أن توقفَ على مسافة معقولة، أمالَ ديلتينوس رأسهُ و نظرَ إلى السماء.
“أتظُن أنني أكرهُكَ بِلا سبب؟”
“لا.”
“ماذا تعني بـ’لا’؟ لا يوجدُ سببٌ؟ أم أنكَ تقصدُ مسألةَ كُرهي لك؟”
حسنًا، أيُّهما؟
حتّى يوليف، الذي فكرَ في الأمر، لم يكُن يعلمُ أيُّهما الصحيح. رُبما كِلاهُما.
كشفَ ديلتينوس عن ذلك و ضحك بِصمت. ثُمَّ انحنى و لمسَ شاهد القبر المصقول.
“لم أكُن أكرهُكَ مُنذُ البداية. رغم أنني كُنت أغارُ من أخي الوسيم، لم أرغب في قتلِه. لأننا كُنا صديقين جيدين لبعضنا البعض في القصر الإمبراطوري، حيثُ لم يكُن هُناك الكثير مِمن هُم في عُـمرنا.”
“أهكذا كانَ الأمر؟”
قصة لم يكُن مُهتمًا بسماعِها.
أجابَ يوليف بجفاء. في الواقع، كان يكرهُ أن يضطرَ لمواجهة ديلتينوس بـهذهِ الطريقة الآن، لكنهُ لم يكُن يملُك خيارًا سوى التحلي بالصبر.
“حسنًا، نعم. اليوم سأخبرك عن اللحظة التي جعلتني أكرهُك.”
واجهَ ديلتينوس يوليف و أسندَ جسدهُ على شاهد القبر.
عقدَ يوليف حاجبيه بوضوح، لكنهُ سُرعانَ ما ابتسم.
“كانَ ذلك في يوم الحدث الإمبراطوري الذي كانَ على والديّ حضوره. كُنتُ ألعبُ الغميضةَ مع أخي البريء. كانَ الكونت بوديساك مُعلِمنا في ركوب الخيل.
اختبأنا معًا في الخزانة. و من بعيد، كُنا نسمعُ الكونت بوديساك يُنادي علينا. كانت ملابِسكُ مُعلقةٌ في الخزانة.”
تاهت عينا ديلتينوس و هوَ يسترجعُ تلكَ الذكريات القديمة.
الغريب أن يوليف بالكادِ تذكرَ ذلك، رغم ذاكرتهِ القوية و قُدرتهِ على استرجاعِ مُعظم الأحداث.
“تبدو و كأنك لا تتذكر. لكنني كُنتُ أتذكر. لقد غفوت داخِل الخزانة، و فجأة راودتني هذهِ الفكرة. ماذا لو خرجتُ مُرتديًا ملابِسك؟ هل سيعرفني الناس حقًا؟ ألن يكونَ رائعًا لو لم يتعرف عليَّ أحد؟”
ضحكَ ديلتينوس كالصبي المُشاكس، لكن سُرعانَ ما تجمدت تعابيره، فتغيرت ملامحُهُ إلى البرود.
لاحظَ يوليف الخنجر الذي أخفاهُ ديلتينوس تحتَ ملابِسه.
“لقد ارتديتُ ملابسكَ و خرجتُ من الخزانة. حينها التقيتُ بالكونت بوديساك وجهًا لِوجه. و بِما أنني اضطررتُ إلى تغيير ملابسي في الخزانة، فلم أفعل ذلكَ بِشكلٍ جيدٍ. أتدري ماذا قالَ لي الكونت؟ قالَ: ‘جلالتُك يوليف، يبدو أنكَ استيقظتَ من قيلولة. قميصُكَ غيرُ مُرتب.’ ثُمَّ قامَ بِلُطف بإعادةِ ترتيب أزرار قميصي و تعديل شعري. ذلكَ الكونت بوديساك الصارم!”
هزَّ ديلتينوس كتفيه و أطلقَ ضحكة و كانت ضحكة بارِدة، فارِغة مِن أي مشاعِرٍ حقيقيةٍ، مُجرد صدى أجوف.
لم يقُل يوليف شيئًا. عندها، فتحَ ديلتينوس ذراعيه على اتِساعِهما.
“ركضتُ إلى والدينا أيضًا. هل يُمكن أن يكونَ والداي، اللذانِ أنجباني، غير قادرين على التمييز بيننا؟ خرجت والدتنا، الإمبراطورة، أولًا. نَظرت إلي و ابتسمت بِلُطف. كانت تلكَ أولُ ابتِسامةٍ دافِئةٍ رأيتُها منها على الإطلاق. ثُمَّ نادت اسمي:
‘يوليف، هل جئتَ لرؤيتي وحدك؟ أنا فخورةٌ بِك. أينَ أخاك؟ هل تورطَ في حادثٍ آخر؟’
سادَ صمتٌ بارِدٌ في المقبرة بينما أغلقَ ديلتينوس فمه.
“كانت تلكَ أول مرّةً أرى فيها والدتنا الإمبراطورة بهذا اللُطف و الود. كانت حنونةَ للغاية لدرجةِ أنني بدأتُ بالبكاء في الحال. يبدو أن الإمبراطورة أدركت حينها أنني لستُ أنت. و بِمُجرد أن علِمت بالحقيقة، و بخَتني بتلكَ النظرة الصارمة التي اعتدتُ رؤيتها منها دائمًا، نظرةٌ قاسيةٌ كتمثالٍ حجريٍ. قالت بغضب:
‘هل تظُن أن هذا مُجرد مزاح!’
لكن من كانَ المخدوع في هذهِ المُزحة؟ لقد كانت الإمبراطورة نفسها، فلماذا كانت غاضِبة مني؟ هيَ التي لم تستطع حتّى التمييز بينَ ولديها. أليسَ كذلك؟ بِمُجرد أن أدركت أنني أنا و لستَ أنت، تغيرَ تعبيرُها بالكامل.”
في لحظةٍ، لمعَ بريقُ شفرةٍ أمامَ صدرِ ديلتينوس.
كانَ هُناكَ خنجر يفصِلُ بينهُ و بينَ يوليف. أخذَ ديلتينوس يُقلبُ الخنجر ذو النصل المشفر في يده و كأنهُ لعبة، يحركهُ ذهابًا و إيابًا.
على الرغم من الحركات اليدوية العدوانية، لم يرمش يوليف بعينه.
لم يكُن ديلتينوس يتوقعُ أن يُخيفهُ ذلك من الأساس، لكن هُناكَ شيءٌ ما في هدوء يوليف المُفرط أثارَ أعصابه.
اقتربَ الخنجر من يوليف بطريقةٍ تهديديةٍ، ثُمَّ ابتعدَ مرارًا و كأنهُ يسخرُ منه.
“بعدَ ذلك، تكررت أمورٌ مشابِهةٌ عدةَ مرات. كنت أظن أن الأمر سيتغير معَ تقدمنا في العمر، لكن أصواتنا أصبحت مُتشابهة أيضًا. لو لم أُطِل شعري، لكانَ هُناكَ الكثيرُ ممن لم يتمكنوا من التمييز بيننا. لا بُدَّ أن هُناكَ العديد ممن انحنوا لكَ بالخطأ، أليس كذلك؟ آه، هل لا يزالُ ذلك يحدث؟”
“ما الذي تُريد قوله؟”
لم يكُن لديه أيُّ نية للاستماعِ إلى هُراءِ ديلتينوس، فقد سئِمَ من مشاعِر النقص التي تتملكهُ. مهما كانَ يوليف صبورًا، إلا أنهُ في النهاية إنسان و لهُ حدوده. كانت كانارين تنتظرُ بِمُفردِها في الغرفة، و أرادَ العودة بأسرعِ وقتٍ مُمكِن.
بينما حاول يوليف مقاومة الرغبة في الإمساك بياقة ديلتينوس وطرحه أرضًا، اقترب الأخير بوجهه الكئيب المعتاد.
ضغط بطرف الخنجر الذي كان يمسكه بلطف على رقبة يوليف، متوقفًا عند نقطة بالكاد تسبق إحداث جرح.
“أُريدُ أن أقومَ بِرهانٍ بسيط.”
رهان؟ كانت كلمةٌ خفيفةٌ لا تتناسبُ معَ مجرى الحديث. كانَ مِن الصعب اعتبارها اقتراحًا نابِعًا من نوايا صافية.
‘ما الحيلة الأُخرى التي تُخططُ لها؟’
وجدَ يوليف الإجابة في الكلمات التالية التي نطقَ بها ديلتينوس.
“إذا تمكنت من تمييزك عني، يُمكِنكَ فعلُ ما تُريد. لن أهتم حتّى لو تزوجتها أو أيَّ شيءٍ آخر.”
“هل أنتَ جاد؟ جلالتُك لن تُقدمَ رِهانًا يصبُ في مصلحتي أبدًا.”
“هل أنتَ واثِقٌ جِدًا من الفوز؟ يا لكَ من رجُل مُتغطرِس. لكنها لن تكونَ سهلةً كما تظُن.”
ابتسمَ ديلتينوس و لوّحَ بالخنجر، ضيّقَ يوليف عينيه.
قطعَ النصل الحاد شعر ديلتينوس الداكن في لحظة. تساقطت خصلاته المقطوعة لتُغطي المساحة بينَ قدميه و قدمي يوليف.
لوّحَ ديلتينوس بيدهِ عدةَ مراتٍ أُخرى، و قصَّ شعرهُ إلى طولٍ يُماثِلُ طولَ شعرِ يوليف. لم تكن أداةُ القص مقصًا، بل خنجرًا، مِما جعلَ شعرهُ يبدو فوضويًا بسبب القص العشوائي دونَ النظر في المرآة. و معَ ذلك، فقد أصبحَ الجو بين الاثنين، اللذين كانا مُختلفين تمامًا، مُتشابهًا بِشكلٍ غريبٍ.
“لمدةِ أسبوعين، يُمكنُنا ارتداء الملابس نفسها، و ننتظر حتّى تختار الفتاة. لكن لا ينبغي أن تعرف الفتاة عن الرهان. سيكونُ الأمر أكثر درامية عندما تختار دونَ أن تعرف. أليسَ هذا عادلًا بما فيه الكفاية؟”
“و إذا اختارت كانارين جلالتكم؟”
“سيكونُ الأمرُ متروكًا لها، أنا مُتحمِسٌ بالفعل لـِمُجرد تخيّل ذلك.”
كانت ابتسامة ديلتينوس ماكرةً، مُصمَّمةً لِإثارة غضب يوليف.
يوليف بدا و كأنهُ يعتقد أن هذا الرهان يصبُ في صالِحه. لكنَ ديلتينوس لم يكُن يهتمُ حقًا بما إذا كانَ سيفوز أم لا، فـبإمكانهِ التلاعبُ كما يشاء. ما كانَ يهمُهُ أكثر من النتيجة هوَ العملية نفسها، أي ما إذا كانَ يوليف سيقبلُ الرهان أم لا.
رُبما ظنَّت الإمبراطورة الأُم أنَّ القَسَم كانَ طوق النجاة الذي أنقذَ شقيقه. لكن الواقع لم يكُن كما قد يظنُ البعض.
كانَ القَسَم بمثابةِ طوقٍ لكلبٍ لا يُطيعُ سيده.
إذا انقطعَ الطوق، كما قد يتوقع المرء، فسيكونُ الكلبُ متلهِفًا لعضِّ صاحِبه. و عِندما تبدأُ المشاعر في التداخل، فإن نقاط الضعف ستنكشف بِـلا شك. كانَ يوليف يُدرِكُ ذلكَ جيدًا، و لِـهذا لم يكُن عاطفيًا أبدًا.
لكن يوليف الحالي باتَ عاطفيًا للغاية كُلما تعلَّقَ الأمرُ بـكانارين.
لم يكُن يُهم على الإطلاق سببُ هوس يوليف بـكانارين. لقد خاطَرَ بنفسِهِ من أجلِها، و هذهِ الحقيقة وحدها كانت كافية.
نعم، كانارين… تلكَ العصفورة الذهبية الصغيرة الجميلة كانت نقطةَ ضعفِ هذا الكلب الوحيدة.
“بصفتي الأخ الأكبر، هذا هو الحد الذي يُمكنني التنازُل عنه لأخي الأصغر. القرار لك.”
آه، أضافَ ديلتينوس، و كأنهُ تذكرَ شيئًا نسيه:
“لا تأخُذ الأمر على أنهُ إن لم تقبل الرهان، فستكونُ حُرًّا في فعلِ ما تُريد.”
الآن، لم يتبقَّ سِوى الانتظار.
ارتسمت على وجهِ ديلتينوس ابتسامةً جادةً.
‘الآن، انحلَّت السلسلة. أرني طبيعتكَ الحقيقيّة التي كبتَها طوالَ هذا الوقت. هيا، بسرعة.’
“حسنًا.”
أجابَ يوليف بنبرةٍ جامِدةٍ. شيئًا فشيئًا، تلاشت الابتسامة من شفتي ديلتينوس.
“هل تقصدُ أنكَ تقبل الرهان؟”
“هذا صحيح.”
“هاه، حسنًا؟ كنتُ قلقًا مما سيحدُث لو اندفعتَ لقتلي. لا مُتعة في الأمر على الإطلاق.”
رفعَ بالخنجر ذقن يوليف.
قبضَ يوليف على النصل بيديه العاريتين. و سرعانَ ما سالَ الدم من كفه. امتزجت قطراتُ الدم التي انحدرت على النصل بقفاز يد ديلتينوس.
“لكن بالمُقابل، لا تلمس كانارين حتى ينتهي الرهان. بأي شكلٍ من الأشكال.”
“يُمكنكَ أن تفعل ذلك إن شئت. كيفَ لأخٍ عظيمٍ أن يُشاركَ في لُعبةِ أخيهِ المسكين؟ هذا الأخُ مُتأثر للغاية.”
انحنى ديلتينوس بِشكلٍ مُبالغٍ فيه و ساخر.
لم يردّ يوليف، لكنهُ أمسكَ بمعصم ديلتينوس بقوة، مُستخدِمًا يدهُ التي كانت تُمسك بالخنجر.
لم يكُن بينهُما أيُّ تلامسٌ جسدي كهذا مُنذُ الطفولة.
حاولَ ديلتينوس أن يتخلصَ من قبضةِ يوليف، لكنَ قوة يوليف تجاوزت توقُعاتِهِ بكثير. كانَ من المُخزي للغاية أن يتمكنَ يوليف من السيطرة عليه بهذهِ السهولة، و شعرَ بألمٍ و كأنَ عِظامهُ على وشكِ التهشُم. فكشرَ عن أنيابهِ بوحشية.
“أبعد يديكَ عني!”
“إنها التعويذة السرية للأفعى الزرقاء.”
و كأنهُ أنهى مهمته، أفلتَ يوليف يدهُ دونَ أي تردُد.
فجأة، ظهرت على ساعديهما نقوشٌ على هيئةِ أفعى زرقاء داكنة.
كان “سر الأفعى الزرقاء” بمثابةِ عقدٍ تكون الحياة هيَ الضمانُ فيه، و هوَ عقدٌ عالي المستوى لا يُستخدم عادةً إلا بين السحرة.
إذن كانَ يوليف يعتزمُ تثبيته. خاصةً عندما يتعلقُ الأمرُ بالوعود، كانَ يوليف، الذي لا ينسى حتّى أصغر التفاصيل، هوَ من بدأ بالعقد أولًا.
‘هل يعني هذا أن القَسَم لم يذهب؟’
نظرَ ديلتينوس إلى الأفعى التي كانت مُثبتةً على ذراعِه. كانَ اللونُ الأزرقُ قاسيًا، و ظهرَ أكثرَ غرابةَ، معَ الدم.
‘إذا لم يكُن القَسَمُ قد اختفى، كيفَ يُمكِنكَ فعلُ هذا…’
“سأغادر الآن.”
أستدارَ يوليف و غادرَ دونَ أدنى ندم.
تحولَّ اليقينُ بأنَ القَسَم لم يتمَ كسرهُ إلى شكٍّ مرَّةً أُخرى.
ألقى ديلتينوس خنجرهُ المُلطخ بالدماء على الأرض.
‘لا أعرفُ ما الذي يحدث. إذا كانَ الأمر على هذا النَحو، الخيارُ الوحيدُ هوَ الفوزُ بالرهان.’