For you in the cage - 7
“استلقِ بِراحة.”
هَزَّت كانارين رأسَها نفيًا. تَكوَّرت على طرف السرير و عانقت رُكبتيها.
اختفى ديلتينوس عن نظرِها، و لكن حتى معَ تغيَّرَ المكان ، إلا أنَّ قلبها ما زالَ ينبِضُ بِعُنِفٍ. و كأنهُ سيخرُج من صدرِها إن فتحت فمها. لم تكُن تعلم إن كانَ ذلك لأنها رأَتهُ للمرَّةِ الأولى مُنذُ أيامٍ، أم لأنَّ الألمَ الذي عانتهُ ما زالَ مَطبوعًا بِوضوحٍ في ذاكِرتها؟ كان ذلكَ أشَدَّ رُعبًا وهولًا مِن يومِها الأوَّلِ تحتَ سياطِ ديلتينوس.
شعرت بِقذارةِ الشَّهوةِ الوضيعةِ مِن لمساتِ يديهِ و نظراتِهِ التي انسَلَّت إلى بشرتها. كانَ الإحساسُ يُشبِهُ دودةً تَزحفُ بِعشراتِ الأرجُلِ على جِلدِها.
لن تَنسى ذلكَ طِوالَ حياتِها. قُشعريرةٌ انتشرت على ذِراعيها و لم تَختفِ بعد.
لولا السّاعةُ التي أَهداها إيّاها يوليف، و لولا وُصولُه في الوقتِ المُناسِبِ، لَكانت قد خَضعت لِرغباتِ ديلتينوس.
في الواقِع، شعرت كانارين بِقليلٍ مِن الخيانة. فإجابةُ يوليف حينَ قالَ إنهُ يحتاجُ إلى بعضِ الوقت، بدت و كأنهُ لم يكُن مُلتزِمًا بِمُساعدتِها.
قالَ الجَميعُ إنَّ يوليف ساحِرٌ عظيمٌ.
رَأَت ذلكَ بِعينيها و أختبرتهُ بِنفسِها. تفجيرُ الفُرسان، مُعالجةُ الجِراح، و تحويل ساعةٍ عادية المَنظر إلى أَداةٍ سِحريةٍ.
لِذلِك تَمسَّكت بِالأَمل. فطالَما هوَ يُساعِدُها، ستتمكنُ مِن العودة إلى القرية.
لكنَّ الإحساس بِـالخيانة بقيَ في المكانِ الذي انكسرَ فيهِ الأَمل.
و معَ ذلِك، سواءٌ كانت لَهُ أَعذارٌ أَم لا، فالحقيقةُ أنَّ يوليف قد أَنقذها مِرارًا.
هوَ مَن أَشعلَ نيرانَ الأَملِ التي كادَت أَن تنطفِئَ.
و حينها أَدركت كانارين أَنها لم تُعبر حتّى عن شُكرِها لَهُ بِشكلٍ لائِق.
“……أَه، أَه.”
“هل تَحتاجينَ شيئًا؟”
أَشارت كانارين بيديها كأَنها تكتُب. فأَحضرَ يوليف قلمًا و ورقة.
{شُكرًا لِإِنقاذِكَ لي.}
“آسفٌ لِتأَخُّري. كانَ يجِبُ أَن أَقومَ بِأَفضلَ مِن ذلك.”
{هذا غيرُ صحيح.}
“لِماذا تعتقِدينَ ذلك؟”
شعرت كانارين بِالفُضول تجاهَ سؤالِهِ. لِماذا؟
{يوليف و أَنا التقينا مَرَّةً واحِدةً فقط عِندَ البُحيرة. لم نَكُن أَصدِقاء، بَل مُجرَّدَ معرِفةٍ سطحيةٍ. ليسَ مِنَ السهل مُساعدةُ غريبٍ.}
لم يَأتِ أَيُّ ردٍّ من يوليف بعدَ أَن كانَ يُجيبُ على كُلِ كلِماتِها. فافترضت كانارين أَنهُ يوافِقُها بِصمت.
{شُكرًا لَكَ.}
“كانَ هذا واجِبي. لا تشكُريني.”
كانت نبرةُ صوتِهِ واقِعيةً لِدرجةٍ بَدت بارِدةً. شعرت كانارين بِشيءٍ مِنَ الكآبة لِسبببٍ ما.
ما معنى أَن لا تشكُرهُ؟ لِماذا يستخدِمُ كلِماتٍ قاسيةً كـهذه؟ لِماذا هُناكَ كثيرٌ مِنَ الأُمورِ التِي لا يجِبُ فِعلُها هُنا؟
وضعت القلم جانِبًا و ضَمَّت رُكبتيها من جديد. خِلالَ مُحادثتِهِما القصيرة، هَدأَ ذِهنُها المُرتجِفُ كثيرًا. و سُرعانَ ما شعرت بِبُرودةٍ في الهواء الساكِن.
بارِدٌ. و لكِنها لم تُرِد أَن تُغطيَ جسدها بِاللِّحاف، فهيَ لا تعلمُ من لمسَهُ. كانَ هذا مُباشرةً بعدَ أَن كادَ ديلتينوس يُهاجِمُها.
لَمست كانارين طرفَ شفتِها، حيثُ كانت الضربةُ التي وجَّهها لَها ديلتينوس قد تركت جُرحًا. كانَ يوليف قد عالجها.
اِختفت جِراحُها، و لم تَعُد تشعُرُ بِالألم. لم يبقَ أَيُّ أَثرٍ لِما فَعلهُ ديلتينوس.
تَمنَّت لو كانَ كُلُّ ما حدثَ مُجرَّدَ حُلمٍ.
بِرِقةٍ، أَخرجت جناحيها اللذان أَخفتهُما. إِذا غطَّت جسدها بِهِما، فستشعُرُ بِالدِّفءِ بِسُرعة.
“كانارين.”
“سأَدعُكِ تطيرينَ. إِذا كانَ ذلكَ سَيُواسيكِ.”
رفعت كانارين رأسها. فرقع يوليف بأَصابِعه.
ثُمَّ حدثَ شيءٌ سِحريٌّ.
اِنفتحت النّافِذة الكبيرة بِهُدوء، دونَ أَيِّ صوتٍ. لم تكُن تَعلمُ أَنَّ تلكَ النّافِذة، التي حاولت فَتحها حتّى تَشقَّقت أَظافِرُها و نَزفت، يُمكِنُ أَن تنفتِحَ بِكُلِّ هذهِ السُّهولة.
اِنتابها مزيجٌ مِنَ الخيبة و السّعادة في آنٍ واحِدٍ. تموَّجت الستائِر في نَسماتِ اللّيل البارِدة. و كانَ القمرُ المُكتمِلُ يشِعُّ بِنورِهِ السّاطِعِ بينهما.
وقفَ يوليف مُديرًا ظهرهُ لها، ثُمَّ اِلتفتَ قليلًا، و مَدَّ يدهُ نحوَها. في ضوء القمر، كانَ يتلألأُ بِنُعومةٍ و رِقةٍ، مِثلَ ضوء القمر نفسِهِ.
“هل تطيرينَ معي؟ و إِن كانَ لِوقتٍ قصيرٍ؟”
أَشرقَ وجهُ كانارين كَمن همَّ بِالهُروب، لكِنها تَردَّدت، ذلِكَ لأَنَّ التَّهديدات التي لَفظها ديلتينوس مِرارًا عادت لِتشغَلَ فِكرها.
“لا تُفكِّري حتّى في الهُروب. جميعُ النَّوافِذ مُغلقةٌ. و حتّى لو فُتِحت، ففي اللحظة التي تَبسُطينَ فيها جَناحيكِ و تُحلِّقين، سَتنطلِقُ السِّهامُ و التَّعويذاتُ السحريةُ لِتخترِقَ جَناحيكِ.”
نظرت كانارين إِلى يوليف بِنظرةٍ كئيبةٍ. و مَرَّةً أُخرى، تحدثَ يوليف كأَنهُ قرأَ أَفكارها.
“سيكونُ الأَمرُ على ما يُرام ما دُمتِ معي. أَنا قادِرٌ على إِيقافِ أَيِّ شيءٍ يطيرُ نَحوكِ.”
و قبلَ أَن يُتِمَّ كلِماتِهِ، بَسطت كانارين جَناحيها و حلَّقت.
تَجاوزت يوليف و انطلقت مُباشرةً خارِجَ النافِذة، تُحلِّقُ في سماءِ اللّيل.
زَوجانِ مِنَ الأَجنِحةِ النَّاصِعةِ كالأَبيضِ البهيِّ، تَفتحانِ كاللَّوحةِ المُضيئةِ في ظلامِ اللّيل. كانت الرِّيشاتُ تَتساقطُ من أَجنِحتِها، تَلمعُ في ضوء القمر كأَنها نُجومٌ تهوي.
يوليف لم يَستطِع أَن يُبعِدَ عينيه عن ذلِكَ المنظر الأَخَّاذِ وَلو لِثانيةٍ واحِدةٍ. حملت الرِّيحُ بعضَ الرِّيشاتِ إِلى داخِلِ الغُرفة، و إِحداها لَامست وجنتهُ بِنُعومةٍ، كأَنها تحمِلُ حُلمًا واهيًا في طيَّاتِها.
حلَّقت كانارين في السّماء بِرِشاقةٍ، ثُمَّ اِنخفضت بِنُعومةٍ و مدَّت يَدها نَحوَ يوليف. كانَ وجهها و هيَ تنظُرُ إِلى السّماء التي اِشتاقت إليها مُشرِقًا كـضوء القمر.
“هيا!”
لم تكُن سِوَى كلِمةٍ واحِدَةٍ، و لكِن عِندما سمِعَ يوليف صوتها، اِرتسمَ على وجههِ اِبتِسامةٌ خفيفةٌ.
تلكَ الاِبتِسامةُ التي ظهرت و اختفت في لحظةٍ كانت ساحِرةً بِشكلٍ لا يُصدق.
أَخذَ يوليف يدَ كانارين الصغيرة، و دونَ أَدنَى تَردُّدٍ، خَطا على حافةِ النَّافِذة و اِندفعَ في الفراغ. و معَ ذلك، طفَا جسدُهُ العديمُ الأَجنِحة بِخِفةٍ في الهواء، كأَنهُ كانَ مخصُوصًا لِلسماء.
كانت كانارين تَستعمِلُ قوتها لِدعمِهِ، ففجأَةً رفعت جفنيها في دهشةٍ.
“أَنا أَيضًا أستطيعُ أن أَطير.”
ضحِكت كانارين، و لو كانت قادِرةً على التحدُّثِ، لَسأَلتهُ عن السّبب في تمكُّنِهِ من فِعلِ كُلِّ هذا، و هل جميعُ السحرةِ مِثلُهُ؟ لكِن لم تكُن قادِرةً على ذلك.
جَناحان كبيران و جميلان خفَّاقان بِقُوَّة.
مهما كانت مَهارةُ يوليف، لم يكُن قادِرًا على التحلّيق في السّماء بِسلاسةٍ كما فعلت قبيلةُ هويرا التي عاشت معَ الرِّيح و السّماء كأَصدِقاء.
كانت كانارين تحلِقُ في السّماء حتّى لم تَجِد يوليف حولها. فـتفاجأَت و نظرت حولها بتَعجُّبٍ.
“سأَبحثُ عنكِ و أجدُكِ، فـماذا لو ذهبتِ وحدكِ؟”
فجأَةً، ظهرَ يوليف من خلفِها و كانت نَبرتُهُ هادِئةً، فسَهَّلَ على كانارين أَن تفهمَ أَنهُ كانَ يمزح.
أَمسكَ بيدِ كانارين بِشدَّةٍ. و كانارين، التي كانت تُحدِّقُ في يدِهِ التي أَمسكها بِها، طوَت جَناحيها ناحيةً و قامت بِحركةٍ كأَنها تمشي على الغيوم. كانت تُحاوِلُ أَن تكونَ حذِرةً معَ يوليف، الذي لم يكُن معتادًا على الطّيران.
يوليف، الذي فطِنَ إِلى نيتِها، استخدم قوَّتهُ السِّحرية ليُحافِظَ على توازُنِ جسدِهِ و يمشي في السّماء مِثلِها.
تَلألات أضواءُ النجوم و تمازجَ لحنٌ خفيفٌ معَ هواءِ اللّيل الهادئ. كانت تَرنيمةً همست بِها كانارين. كانَ فيها سرُورٌ رقيقٌ بِلا كلِمات.
فتحت كانارين عينيها بِبطئ بعدَ أَن غرقت في الطّيران لمُدَّةٍ طويلةٍ.
قاسَ شعبُ الهويرا اتِّجاهاتِهِم و مسافاتِهِم و زمنهُم بِحسبِ كيفيةِ لمسِ الرّيح لِجناحيهِم. قريتها التي كانت وطنها و منزِلُها بعيدةٌ. لكِن لا بأسَ بِذلِك، فما دامَ لديها جَناحانِ قويانِ يُمكنانِها مِنَ الطّيران بِحُرِّيةٍ في السّماء، فإِنها ستكونُ قادِرةً على العودة في أَيِّ وقت.
“يجِبُ أن نعود الآن.”
توقفت تَرنيمتُها، عضت كانارين شفتها السُّفلى و نظرت إِلى يوليف بِوجهٍ حزينٍ.
كانَ من الصَّعبِ أَن تُصدِّقَ أَن صوتًا يُعلِنُ نِهايةَ نُزهةِ اللّيل كانَ جميلًا إِلى هذا المَدى.
تَدفَّقت مشاعِرُ الخيانة التي كانت تظُنُّ أنّها نَستها، فانهارَت كالموج، مُحطِّمَةً التَّوقُّعات التي كانت تَتَصاعدُ خفيةً في زاوية قلبِها كـحصنٍ من رَملٍ.
من الواضح أن يوليف قد أخبرها بهذا، في اللحظة التي سبقت فتحهُ للنّافِذة. كانت تعلم و تتذكر، و معَ ذلك، كانت الحُرية التي لم تتذوقها مُنذُ فترةٍ طويلةٍ حُلوةٍ إلى درجةِ أنها لم ترغب في العودة. لم ترغب في العودة إلى القصر الإمبراطوري، حيثُ كانَ خانِقًا و مؤلِمًا.
إذا تشبثت بِهِ، باكيةً، هل قد يشعُرُ، رُبما، بالتردُّد في إخراجِها مُجددًا؟ لا، لم يكُن عليهِ أن يأخُذها في المقامِ الأول. لو أنهُ تظاهرَ بعدمِ معرِفتِها…
أمسكت كانارين بِكُمِّ يوليف. كانت عيناها الحزينتان محجوبتين عن تعبيرهِ الهادئ. كانت كانارين في يأسٍ لِلحظة.
“لا بُدَّ أنكِ صُدمتِ مما حدثَ اليوم. أنا أعرف.”
لا، لم يكُن يعرف. لم يُحتَجز قط، كيف لهُ أن يعرف؟
هزّت كانارين رأسها بِعُنف. تابعَ يوليف حديثه.
“كُلُّ ذلك خطأي. لن يحدثُ مرَّةً أُخرى.”
كانَ صوتُ يوليف ينكسِرُ في ألم، و كأنهُ صوتُ رِمالٍ جافةٍ.
فجأة، تساءلت إن كانَ هوَ أيضًا يُعاني، لكن سُرعانَ ما تلاشت الفكرة، لا يوجدُ سببٌ لهُ لكي يُعاني.
تحدثَ يوليف، واضِعًا يدهُ اليُمنى على صدرِه الأيسر. كانَ كمن يضغطُ على قلبِه.
“ثقي بي لِمرة واحِدة فقط.”
إذا كانَ هُناكَ شيءٌ تحتاجُ أن تؤمِن بِه، فكانت كانارين ترغبُ في أن تُصدقَ كلامهُ على الفور. إذا لم تثِق بِه، الشخصُ الوحيدُ الذي قابلتهُ في القصر الإمبراطوري الواسِع، فـبِمن ستثق؟
لكن إذا صدقت كلامهُ، فما الفائِدة؟ الإيمانُ وحدهُ لا يُمكِن أن يُغيرَ هذا الوضع.
هل يُخططُ لِـتركِها في الغُرفة طوالَ الوقت؟ ما كانت تحتاجهُ هوَ الحُرية، و ليسَ العزاء السطحي و القاسي.
نظرت كانارين إليه بعينين مليئتين بِتلك الكلِمات.
لم يتجنب يوليف عينيها المُعقدتين المليئتين بالعديدِ مِن المشاعِر. بعد تنهيدة استسلام، توقفت في مكانِها ثُمَّ استدارت نَحوَ القصر الإمبراطوري.
كانَ ذلِك كُل ما يُمكِنُها فِعلهُ الآن.