وجـهُ الرجل كانَ مشابهًا لوجه الإمبراطور ديلتينوس.
على الرغم مـن أنّ وجوهما كانت متشابهة، إلاّ أنّ الإحساس الـذي ينقله كـل منهما كانَ مختلفًا.
بخلاف ديلتينوس، الذي بدا في حالة من الفوضى بشعر طويل يمتدُّ إلـى خصره، كانَ يوليف مرتبًا و أنيقًا. بـدا أكثر كمالاً مع تناسق تعبيره الهادئ و الخالي مـن المشاعر.
ديلتينوس لم يعـجبه ذلك أبداً. رغم أنّ يوليف اتّبـعَ أوامره بعـدم أطالة شعره.
“لماذا الدوق هُنا؟ ألم يكن مفترضًا بك أن تكون في الشـمال؟ لـم تتواصل معي إطلاقاً.”
كانَ ديلتينوس واضحًا فـي استيائه. قصدُه أن يقيّد كلام يوليف و أفعاله بـتثبيت مكانته كزائر غير مرحّب به.
“اكتشفت متأخرًا أنّ جلالتك قد زرتم المقاطعة. أتيت لأعتذر عن قلّـة الأدب لعدم قدرتي على استقبال جلالتك هناك.”
—
كانَ الأمر مضحكاً.
مرَّ شهران منذ أن أخذ ديلتينوس كانارين من مقاطعة يوليف. و رغم ذلـك، فقط الآن جـاء ليعلن عن القصة.
شخر ديلتينوس.
“ألـيس الإعتذار متأخرًا جداً؟ على كلٍّ، يسعدني سماع أنّ الدوق يفكر بهذا الشكل في الإمبراطور. هل نستمع إلى غناء قبيلة هـويرا كمكافأة؟ هـلاّ تنحيت عن الطريق، أيهـا الدوق؟”
خطـا ديلتينوس خطوة نـحو كانارين بابتسامة.
شعرت كانارين بنظرة ديلتينوس التي كانت كشفرة باردة، فارتعشت.
الخوف الّذي كانَ قد تلاشى مع الظهور المفاجئ ليـوليف عـاد للظهور بسرعة.
في الوقت ذاته، تحرّك يوليف بهدوء ليعيق وصول ديلتينوس إلى كانارين بجسده.
كتفاه العريضان كانا أكثر من كافيين لحجب كيان كانارين النحيف كاملاً.
ارتعشت زوايا شفتي ديلتينوس.
—
“أن تُجرؤ على إعاقة طريق الإمبراطور و أنت فقط دوق؟ هـل جُنِنت؟”
“سمعت أنك قمت بصيد قبيلة هـويرا في مقاطعة روبـيوس.”
كانت القرية التي يعيش فيها أهل هـويرا ضمن ممتلكـات يوليف.
و حتّى مع سـنّ قانون إقليمي يحظر الصيد، لم يستطع يوليف إيقاف الإمبراطور ديلتينوس.
ابتسم ديلتينوس ليـوليف.
ارتسمت على شفتيه انحناءة مُخيفة، و لكن عينيه كانت باردة و هو يوجه نظرته نحو كانارين.
“نـعم، و بفضلك وجدت الطائر الّذي أعجبني.”
“على الأقل في مقاطعتي، صيد أهل هـويرا محظور بموجب القانون.”
“هـل تعتقد أن القانون الإقليمي يعلـو على الإمبراطور؟ دوق روبـيوس، أنت لا تعرف مقدارك.”
“على جلالة الإمبراطور أن يكون قدوة لشـعب الإمبراطـورية.
هـل يجب أن تنتهـك قانونًا تافهًت فقط من أجل امرأه؟”
—
ظهرت شرارة توتر واضحة بـين يوليف و ديلتينوس.
هبـت ريـاح بـاردة داخل قاعة الحفل، و أحنى النبلاء رؤوسهم خشية عصيان الإمبراطور الغاضب، و لكن الموقف غير المتوقع كان مشـوقًا جـدًا.
لم يعترض يوليف على ديلتينوس مطلـقًا.
بغض النظر عن مدى غير عقلانية الأوامر، كان ينفذها بلا نقاش.
و حتّى بعد الأمر المذلّ بسحب لقب العائلة الملكية “إليمـيان” منه، و استخدام لقـب “روبـيوس”، لم يُظهر يوليف أي امتعاض.
و حتّى حين طُلب منه مواجهة البرابرة وحيدًا، أطـاع بدون شكوى.
لكنه الآن يتصدى لديلتينوس علانية، مـما يعني أن هناك سببًا ما.
“اصـمت! إن لم تتنحّ عن طريقي، سأقطـع رأسك لعصيانك.”
بالرغم من تهديدات ديلتينوس، وقف يوليف بثبات بـلا تردد.
اخفت كانارين نفسها تمـامًا خلف ظهره، حتّى أنه لم يعد يُرى شعرها.
شعرت كانارين بهالة غريبة، فأمسكت بطرف معطف يوليف.
كانت قلقة مما سيحدث لها إذا أبعد هذا الرجل يدها، و لكن لحسن الحظ لم يبدِ يـوليف أي ردة فعـل.
كانت كانارين تشعر براحة أكبـر مـع يـوليف البارد الذي لم يلقِ عليها ولو نظرة واحدة.
على الأقل لم يكن يوليف مثيرًا للاشمئزاز بالنسبة لها.
لا عداوة هناك، و لا رغبة، أو هكذا اعتقدت.
“طائري يـبدو خجولاً قليلاً، سأدعه يستريح الآن.
تـقدموا.”
أغنية كانارين أفسدت الجـو الذي أعده ديلتينوس بأفضل طريقة.
تجاوز ديلتينوس يوليف و اقترب من كانارين، يطحن أسنانه داخليًا.
بعد الحفل، سيجب أن يعاقب الطائر الغبي الذي يبدو أنه لا يعرف صاحبه.
إعلان الحرب الذي أطلقه يوليف جاء مدويّاً أثناء رفعه للقيود المتصلة بالأصفاد في كاحليها.
“سـآخذهـا.”
“…مـاذا قلـت؟”
—
“بالنسبة لجلالتكم، قد تكون هي مجرد وسيلة تسلية، و لكن بالنسبة لي، فهـي مقيمة دائمة يجب حمايتها.
لا يمكننا تجاهل المقيمين الدائمين الذين يعاملون كـالعبيد.”
“لا تسـئ الفهم. بصفتي دوق الإمبراطورية، لا أسلمها لأي أحـد.”
“آه!”
جذب ديلتينوس السلسلة المتصلة بكـانارين بشدة.
و على الرغم من أن ذراع يوليف كانت لا تزال ملفوفة حول خصرها، إلا أن كانارين فقدت توازنها فجأة و سقطت بلا حول و لا قوة نحـو ديلتينوس.
و لكن في اللحظة ذاتها، انقطعت القيود التي كانت تقيّد كانارين كما لو كانت خيطًا رفيعًا.
يوليف، الذي قطع السلسلة بسحره، ضغط قليلاً بذرراعه التي كانت تضم كانارين ليبقيها قريبة منه.
تصلبت ملامح ديلتينوس عندما شاهد الإثنان متقاربان لهذه الدرجة.
“كانارين لا تنتمي لأي أحد.”
—
“أنـا سيد الإمبراطورية. كل ما ينتمي للإمبراطـورية ينتمي لي. بـلا أي استثناء!”
“كانارين ستكون الإستثناء. و سأجعلها كذلك.”
“أين الحـراس؟! اعتقلوا دوق روبـيـوس على الفور لعدم طاعته الإمبـراطور!”
صرخ ديلتينوس بغضب.
ركض فرسان القصر الملكي، الذين كانو يحرسون خارج قاعدة المأدبة.
و لكن لم يهجم أي منهم.
يوليف كان سـاحرًا يتجاوز حدود البشر.
لم يكن خصماً يستطيع أحد مواجهته لمجرد أن أعدادهم كانت أكبر بعدة مرات.
“آآآآآه!”
في تلك اللحظة، فقد أحد الفرسان أعصابه و تغلبت عليه الضغوط، فانطلق نحو يوليف بتهور.
“أيّها الأحمق.”
—
“تم سحب جسد الفارس بواسطة الرياح و صُدم في جدار قاعة المأدبة.”
تحطّم الحجر. تحوّلت وجوه الجميع إلى اللون الأبيض عند مشاهدة الدروع المحطمة.
في القصر الإمبراطوري، أمام الإمبراطور، استخدم يوليف السحر. ظنَّ الجميع أن هذا شيء مستحيل.
“لم أقتله.”
“أنت مجنون حقاً.”
“أعتقد أنه من واجب دوق الإمبراطورية مقاومة الأوامر الخاطئة. من فضلك، استرجع الأوامر التي أعطيتها للفـرسان. لن أتراجع حتى أؤدي واجبي.”
كأنما ليثبت كلامه، توقف يوليف فجأة عن تحريك قوته السحرية. كانت كانارين التي بين ذراعيه ترتجف. كل اهتزاز منه كان يمر عبر جلده و يصل إليها.
—
كان يـوليف يربّت بلطف على رأس كانارين.
كانت يده كبيرة ودافئة. كانت مختلفة عن يدي ديلتينوس التي كانت دائمًا باردة ومبللة؛ حتى لمسـة أطراف أصابع الإمبراطور كانت غير مريحة.
رفعت كانارين رأسها بشكل غير واعٍ لتنظر إليه.
ظنّت أنها كانت تنظر للأمام، لكن يـوليف كان ينظر إليها. بهدوء و بلا انفعال.
من النظرة التي واجهتها، شعرت بحرارة غامضة. و مع ذلك، من دون أن تجد راحة من تلك الحرارة، تجنب يـوليف عيونها. لم يبعد نظره بشكل طبيعي، بل تجنب عيونها بوضوح.
ربما كان ذلك بسبب وجهها الملطخ بالدموع. كانت كانارين تفرك خديها بلطف باستخدام ظهر يدها.
“لا تتظاهر بالنبل فجأة.”
لم يكن في صوت ديلتينوس أي لباقة، كانَ و كأنّه يمضغ و يبصق. لأنّ الفرسان الذين كانوا من المفترض أن يهدّدوا يـوليف، كانوا مرعوبين بعد أن شاهدوا زميلهم الفارس يُلقى على الجدار.
—
لم يكن ديلتينوس يتوقع أن يـوليف سيتمرّد علنًا بهذه الطريقة.
نقر بلسانه داخليًا.
“سنغادر الآن. آمل أن تستمتعوا بالوليمة.”
لم يفوت يـوليف الفرصة. رفع كانارين بعناية بين ذراعيه.
كانت كانارين ترمش بعينيها المستديرتين، في حالة من الصدمة.
لم يقل يـوليف شيئًا. فقط دعم ركبتيها وظهرها بثبات، متأكدًا من أنه لا يريد أن يضعها على الأرض.
كانَ سيكون من المريح أن تلف ذراعيها حول عنقه، لكنها كانت مترددة في لمس جسده. كانت خائفة من غضب ديلتينوس. لذلك، ضمت يديها معًا أمام صدرها.
“في النهاية، أنت تفعل هذا لأنك تريد أن تمتلك تلك الطفلة أيضًا!”
(كانارين ليست طفلة حرفيًا، بل هو تعبير ديلتينوس).
—
“حقًا؟، هل سيحبسها في غرفة مثل ديلتينوس؟ ينقذها فقط ليضربها؟ هل سيلعب دور ‘الأب’ ويجعلها تغني لحنها المهدئ كل ليلة?”
“أوه، آه…”
“لا تستمعي. تلك كلمات بلا فائدة.”
أجاب يـوليف بصوت حازم. كانَ في لهجته ما يوحي بأنه يعرف ما تفكر فيه حتى و إن لم تنطقه.
شعرت كانارين ببعض الراحة، لكنها تساءلت مرة أخرى:
“إذن، لماذا أنقذني؟”
التعليقات لهذا الفصل "2"