For you in the cage - 1
تمَّ تشغيل الأنوار الساطِعة في قاعة الاحتفالات في القصر الملكي بعد وقتٍ طويل. كان النُبلاء يجتـمعون في القاعة مُبكرًا للحديث.
“سمِعتُ أن جلالةَ الملك في مِزاجٍ جيِّدٍ هذه الأيام، ولكن لم أكن أعلم أنه سيُقيم الحفل بنفسه.”
“و لِما ؟ لقد تخلَّصَ من الشوكة في عينيه.”
“هل يمكنك حقًّا القولُ أنه تمَّ إزالتُهُ؟”
علَّقَ شخصٌ ما على الحقيقة بطريقة ساخرة. تبادَلَ النُبلاء النظرات ذات المعاني. البعضُ منهم تنهَّدَ أو شرِبَ الشمبانيا بنظرة غامِضة إلى حدٍّ ما.
“الشوكة في العين” التي كانَ يُشير إليها كانت الأخ التوأم للإمبراطور، دوق روبيوس.
لم يكن مفاجئًا أن يستغل ديلتينوس الفرصة كلما سنحت له لقتل شقيقه. كان عناده كبيرًا لدرجة أن الحكاية التي تحدثت عن تكليف دوق روبيوس بحامية البرابرة دونَ السماح لأي جندي بمرافقته كانت مشهورة جدًا.
و معَ ذلك، كانَ يوليف يعود حيًا في كل مرة. كانت تلك ميزة قد بناها بفضل إنجازاته العظيمة في تلك العملية.
سرعان ما أصبح دوق روبيوس يُعامل كحارس لا يُقهر بين شعب الإمبراطورية. بل إنه، عندما أصبح أمرًا مضحكًا أن ديلتينوس خنق نفسه، هرع بكل جنون.
“هه هه، أكثر من ذلك، يُقال إن ‘ذلك’ سيظهر في حفل الاستقبال اليوم. هل سمعتم جميعًا بذلك؟”
“أوه، أخيرًا!”
“سمعت أن هناك قرية هويرا في أراضي الدوق. ههه، إذا مات الدوق…”
“الجميع، اصمتوا. جلالته قادم.”
سـادَ السـكون في القاعة مع صوت كبير الخدم الذي أعلنَ عن ظهور الإمبراطور. بعد لحظات، دخلَ ديلتينوس، مرتديًا ملابس فاخرة لحفل الاستقبال. كانَ الرداء الأحمر الكثيف يلفت الأنظار. سحب ديلتينوس الرداء الأحمر، و بخطوات بطيئة، مرَّ بين الحضور. بدا كأنه أفعى حمراء مغطاة بالدماء.
كما لو كانَ في مزاجٍ جيـد، ارتفعت زوايا فمه إلى أقصى حد. و مع ذلك، انحنى النُبلاء برؤوسهم و تجنبوا مقابلة نظره خشية أن يثيروا شرارة. لذا، لم يرَ أحد السوط الملفوف حول خصره.
“سـررتُ بأن الجميع يبدو مستمتعًا.”
“شكرًا لدعوتك لي إلى قصرك جلالتك.”
“جلالتك و مستقبل الإمبراطورية سيكون مليئًا بالمجد اللامتناهي.”
“لا داعي لأن تكون صارمًا للغاية. يمكنكم الاستمتاع براحة.”
ابتسم ديلتينوس ببطء، و وقف في وسط القاعة. كانَ لا يزال هناك شيء يجب قوله. كانت العديد من العيون التي كانت تراقبـه مليئة بالترقب والقلق.
“كانَ هناك شيء يبدو مفقودًا، لكن الآن أرى أنه لا توجد موسيقى. إنه أمر مقلق إذا لم تكن هناك موسيقى في الحفل. احضروها.”
أخيرًا، “ذلك” سيظهر. بطل الشائعة التي انتشرت على نطاقٍ واسعٍ في القصر الإمبراطوري.
أشار ديلتينوس بإصبعه برفق. خرج الحارس، الذي كان يرتدي درعه، وجلب عربة عليها شيء مغطى بقطعة قماش سوداء.
وقف الشيء ذو الشكل القوسي عاليًا أمام ديلتينوس. تبادل النبلاء النظرات مع عيني ديلتينوس وبينما كانوا ينظرون إلى الشيء المغطى بالقماش.
“دعوني أقدم لكم ما اصطفاه الإمبراطور في صيده.”
أمسك ديلتينوس بالقماش وسحبه لأسفل. سقط القماش على الأرض. اتسعت أعين من رأى ما ظهر أخيرًا بدهشة واندهاش.
—
كانتْ اِمرأةٌ مُحبوسةٌ داخلَ قفصٍ ضخمٍ. شَعرُها المُتموِّجُ بلون وردي كانَ مصبوغًا بالأبيضِ عندَ الأطرافِ، و كأنَّ الثلجَ قد تساقَطَ عليه، مِمّا يُوحي بأنّها ليست شخصًا عاديًّا مِنَ النظرةِ الأولى. بالإضافةِ إلى ذلكَ، كان هناكَ زوجانِ كبيرانِ منَ الأجنحةِ تَنبُتُ مِنْ ظَهرِها، و أُذُنانِ مُدبَّبتانِ تَنتَهِيانِ بريشٍ يُضيفانِ لَهَا لمسةً غامضةً.
حينَ لَمَسَ ديلتينوس القفصَ، فُتِحَ بابهُ بِصمتٍ. و عندما رأتْهُ يَدخُلُ إلى القفصِ، تراجَعَتْ سريعًا. لكنّها، و رغمَ كِبَرِ القفصِ، لم تتمكّن مِن الهربِ؛ إذ كانت محاطَةً بِقُضبانٍ مِن جميعِ الاتجاهاتِ. و سُرعانَ ما تَحوَّلَ لونُ وجهِها إلى الأبيضِ عندما ارتطَمَ ظَهْرُها بالحاجزِ الحديديِّ.
جَلَسَ ديلتينوس، مُمسكًا شَعرَها بأصابِعِهِ بطريقةٍ مُرعِبةٍ، و قَبَّلَها. ثُمَّ أَمسَكَ ذِراعَها النحيلةَ بعُنفٍ وأجبَرَها على الوقوفِ.
“أوه… آه!”
“لَم أفعَل شيئًا بعدُ، لِماذا تَرتَجِفِينَ هكذا؟”
لَفَّ ديلتينوس ذِراعَهُ حولَ خَصْرِها النَّحيلِ. صوتُهُ اللَزِجُ تَسَلَّلَ إلى أُذُنيها كَلَمسةٍ بَارِدةٍ.
“كلّ مرّةٍ تفعـلين فيها ذلك، أشعر بـماسٍ لا أستطيع تحمّـله.”
كانَ صوته المحمّل بالشّهوة مخيفًا. حاولت التّحرّك بعيدًا عن ديلتينوس، و لكن الأصفاد التي كبّلت كاحليها كانت ثقيلة للغاية.
تأمّل ديلتينوس الأصفاد المتدلّية التي تصدر أصواتًا رنّانة بعينين باردتـين، ثمّ قام بإدارتها نحو الحاضـرين.
“عصفوري الذّهبيّ الجميل، كانارين.”
تردّدت همساتٌ صغيرة وسط الجموع، لم يكن من الواضح ما إذا كانت تعبيرًا عن الحـزن أم الإعجاب، وبدأت أصوات النبلاء تتصاعد كصـدى منتشر.
“إنَّهُ من قبيلةِ الهويرا، أجل… أجملُ بكثيرٍ ممَّا قِيلَ في الشائِعاتِ.”
“لمْ يعُد العثورُ على أفرادِ قبيلةِ الهويرا بالأمرِ الهيِّنِ هذهِ الأيَّامِ.”
“يُقالُ إنَّ جلالتَهُ يقضِي وقتَهُ كلَّهُ في قصرِ النُّجومِ… هل سيُضيفُ محظيَّةً جديدةً هذهِ المرَّةِ؟”
“سمِعتُ أنَّ مواهِبَهُم الغِنائِيَّةَ مذهِلَةٌ.”
“يُقالُ إنَّ جلالتَهُ لا يستطيعُ النَّومَ بدونِ سماعِ غِنائِها.”
“عرشُ الإمبراطورةِ قدْ يكونُ في خطرٍ.”
ارتفعَتْ معنوياتُ ديلتينوس إلى أقصاها؛ كانَ في غايةِ السُّرورِ لأنَّ الغنيمةَ التي اصطادَها بنفسِهِ قدْ لاقتِ استِحسانًا كبيرًا. لكنْ، ما إن ذكرَت الحشودُ اسمَ الإمبراطورةِ حتَّى تغيَّرَ مزاجُهُ تمامًا.
—
كانَ الهواءُ المُحيطُ بديلتينوس يزدادُ وحشِيَّةً؛ شعورٌ مخيفٌ يسبِقُ عادةً موجةَ ضربٍ قاسيةٍ. كانتْ كانارين الحسَّاسةُ تدركُ هذهِ العلاماتِ بحدسِها، فارتعشَت من رأسِها إلى أخمصِ قدميها. عادَتْ ذكرياتُ الخوفِ المنحوتةُ في عظامِها من تجارِبها السابقةِ لتُلاحقَها من جديدٍ.
“غنِّي.”
كانتِ النُّبلاءُ المُجتمعونَ في قاعةِ الولائمِ ينتظرونَ بفارغِ الصَّبرِ أن يسمعُوا الغناءَ الجميلَ لأحدِ أفرادِ قبيلةِ الهويرا، تلكَ الغنيمةُ التي أسرَها الإمبراطورُ بنفسِهِ.
“أه، آ… أُوه…”
لكنَّ ما انطلقَ من شفتي كانارين لم يكن أغنيةً عَذبةً كزقزقةِ الطيورِ، بلْ أنينًا قصيرًا لمْ يُشكِّل حتَّى كلمةً واحدةً.
بدأت تجاعيدُ الجبينِ تتراكمُ على وجهِ ديلتينوس تدريجيًا. أمسكَ بذقنِ كانارين بعُنفٍ و همسَ في أُذنِها بصوتٍ خافتٍ.
“الجميع يُراقب. هل ستجعل الإمبراطور يظهر بشكل مُضحك؟”
“هوه، آه… آه، آه…”
تدفقت الدموع من عيني كانـارين. لم تخرج كلمات. كان هناك فقط أنين غريب وكأن حجرًا علق في حلقها.
لقد أصبحت صامتة لا تستطيع قول أي شيء سوى عندما تغني.
بعد أن تم القبض عليها وحبست في القصر الإمبراطوري، فعلت كل ما في وسعها. حاولت التوسل و هي تتشبث بساقي ديلتينوس، و ركعت على الأرض. و كلما حدث ذلك، كانَ ما يعود دائمًا هو ابتسامة ساخرة مجنونة وجلدة تغرس في جسدها.
—
تصرَّفَتْ كَانَارِين كما أرَادَ.
كما لو كانت تبحثُ عن والدتِها، كانت تبحثُ عـنه كلَّ ليلة، وتغني له تهويدةً بينما يحتضن فخذها. و لحسن الحظ أو سوءه، كانَ الإمبراطور يغفو سريعًا. و كلما شعرت بذلك الوزن الفاتر على فخذيها، كانت ترتعد و تشعر و كأنها على وشك الموت، لكن ذلك كان الطريق الوحيد الذي تستطيع النجاة به مع الإمبراطور المجنون.
كانت تريد الاستسلام.
كان قلبها محطمًا إلى درجة أنها لم تستطع حتى التحدث.
لكن الإمبراطور لم يكن راضيًا.
“هل تتجاهلين أوامري؟ لديك الجرأة للعب مع يوليف.”
هزت كانارين رأسها بعنف.
كل ما فعلته هو أنها التقت بيوليف بالصدفة عند البحيرة وتبادلا بعض الكلمات معًا.
ديلتينوس كـانَ يُعَذبُـها بِإصرارٍ تَحتَ ذَريعةِ لـِقائِـها الـوحيدِ معَ يـولـيف. كأنَّهُ كـانَ يصُبُّ كُـلَّ كُرهِهِ الـشَّديدِ لِيُـولـيفْ عليها. حتَّى خادِماتُـها كُـنَّ قد سَـئِـمنَ مِن سُوءِ الـمُـعامَلة الـتي تَحـرِمُها حتّى مِـنْ قَطرَةِ مـاءِ.
نَظرَ ديلتينوس إليهَـا ببُـرُودٍ. هذا كـانَ مكـانًا لِيُثبِـتَ بوضُـوحٍ مَن يَمـلِكُـها. للنُبلاء، و كذلِكَ لـكانارين.
دُفِـعت كانارين بقُـوَّةٍ عنيفةٍ و تهاوت على الأرضِ. شاهدت ديلتينوس و هوَ يَـسحبُ سَـوطًا مِن خَصرِهِ.
أَطلقَ ضربَـةً بِـذِراعهِ مرَّةً واحِدةً، فضرَبَ السَّـوطُ الأَرضَ بصوتٍ مُمزِّق. بَرقَت ذَرَّةٌ مِـنَ الجُنونِ فـي عيني ديلتينوس المُثبَّتـتينِ على كانارين.
“الطَّائِـر الذي لا يُغني، يـجِـبُ أَن يبكي.”
أَطلقَ ديلتينوس السَّـوطَ بدونِ تردُّدٍ. أَغلقَـت كانارين عينيها بـإحكامٍ و غطَّت أُذُنـيها بيدَيها.
—
كرِهت ذلك.
أن تُغنِّي لهذا الرَّجل، أن يُلقَى بها في قفصٍ مُروِّع كالقُمامة، أو أن تُحبَس في غُرفةٍ مُظلِمة و تُنادِي مُستغيثة.
كما قال الإمبراطورُ المجنون: كم كانَ سيكون رائعًا لو أن يوليف قد أنقذَها.
تفجَّرت تلك التوقّعات العبثيّة و الساذجة كفقاعة. لم يكن هناك سببٌ ليجعل الدوق، الذي لا يربطه بها شيء، يتدخّل. فوق كل ذلك، قِيل إن الدوق ذهبَ إلى الشمالِ لقمع البرابرة.
“اعذريني لتأخُّري.”
في تلك اللحظة، جاء صوتٌ آخر من أمامها مباشرةً.
رفعت كنارين رأسها ببطء. كان شخصٌ ما يقف أمامها مستديرًا بظهره نحوها.
انـلـفَّ السِّــوطُ المُوجَّهُ نحوَها حَولَ ذِراعِهِ.
الرَّجُلُ صَدَّ السِّــوطَ.
“أوه….”
نَظرت كانارين إلى ظهِرِهِ العريض، و أطلقت زفيرًا دونَ أن تُدرِكَ ذلك. بِشكلٍ مـا، و ما إن رَأَت ظهرهُ، حتّى انتابَ قَلبَها شُعورٌ بالسُّكونِ.
هل سَمِعَ صوتَها؟
التفَـتَ الرَّجُلُ بُبطءٍ.
في تِلكَ اللَّحظة، ظهرَ وجهُهُ البارِدُ و النَّقيُّ مُــشوَّهًا و كأنَّهُ يتحمَّلُ أَلمًا. و لكِنَّهُ كانَ عابِرًا جِدًّا. لِـدرجَةٍ لما يُلاحِظها أَحَد.
“… يـوليف؟”