لم يستطِع النُبلاء، الذين كانوا يراقبون ديلتينوس لفترة طويلة، إخفاء دهشتهم. السبب في ذلك هوَ أن شعر الإمبراطور كانَ قصيرًا و مُصففًا جيدًا، و كانَ مِنَ المُستحيل التمييز بينهُ و بينَ دوق روبيوس. لولا وقفته المتعالية المعتادة أثناءَ جلوسه على العرش و هوَ يضعُ ساقًا على ساق، لكان بإمكانه أن يدير ظهره و لن يعرف أحد.
“سمِعتُ أنَّ صداعك قد زادَ سوءًا مرّةً أُخرى، هل أنتَ في صحة جيدة، جلالتك؟”
كانَ نبيل الإمبراطورية المركزيّ و أقرب مساعد لديلتينوس، الكونت إنديرك، قد أدركَ الأجواء المتوترة سريعًا. بدا أنهُ شخص يرضي ديلتينوس بقدرتهِ على فهم المواقف بسرعة.
هرعَ باقي النُبلاء بعدَ قليل للتعبير عن قلقهم بشأن صحة ديلتينوس.
“هل تعرف من جعلَ صداعي يزدادُ سوءًا؟”
كانَ سؤالًا يحمل إجابة واضحة. و معَ ذلك، لم يستطع أي من الحاضرين أن يلفظ اسم “يوليف” بسهولة. كانوا يخشون أن يثيروا غضب ديلتينوس بلا مبرر.
“لماذا الجميع صامتون هكذا؟ سيظُن الآخرون أنني إمبراطور مجنون يتقل الناس من وقتٍ لآخر، أليسَ كذلك؟ “
“لا، جلالتك. ماذا عن طرد دوق روبيوس إلى دوقيته؟”
قالَ أحد النُبلاء، فأجابَ ديلتينوس بصوتٍ هادئ.
“لا داعي للقلق. سيكون هناك حل قريبًا. أيها النُبلاء، دعونا نأخذ الأمور ببساطة و نراقب.”
“كونت إنديرك، لدي سؤال لك.”
“تفضل، جلالتك.”
“ماذا يجِبُ أن أفعل لإرضاء امرأة؟”
ترددت أنفاسٌ عميقة في المكان.
كانَ كونت إنديرك يحاول الظهور بمظهر هادئ، لكنهُ كانَ في الواقع متفاجئًا للغاية. فـديلتينوس، الذي كانَ يعتبر النساء مُجرّد وسائل للتسلية و يتركهن بلا رحمة عندما يفقد اهتمامه، كانَ يسألُ سؤالًا لا يليقُ بمقامه.
رفعَ عينيه بحذر و نظر إلى ديلتينوس. كانَ ديلتينوس يحدقُ في كونت إنديرك بنظرةٍ ملؤها الملل.
مهما كانت نوايا الإمبراطور، سيحتاجُ الأمر إلى اكتشافه في وقتٍ لاحق، و لكن في الوقت الراهن، كانَ من الضروري الإجابة على سؤاله قبلَ أن يظهر الغضب في عينيه الشبيهتين بعيني الأفعى.
“بصراحة، من الأفضل أولًا أن تفهمَ ذوق الشخص الآخر.”
“هل عليَّ أن أذهب إلى هذا الحد؟”
“عندما تتلقى هدية تتناسب معَ ذوقها، فإنها تشعر بالراحة من تلقاء نفسها، و لكنها أيضًا تشعر أنكَ تهتمُ بها و أنها محبوبة، مما يجعلها تميلُ إليكَ أكثر.”
“هذا مُزعجٌ حقًا.”
“بالطبع، لا توجد امرأة في الإمبراطورية تجرؤ على رفض فضل جلالتكم.”
“كُنتُ أظنُ ذلكَ أيضًا، لكنها فعلت.”
لم يكِن في صوت ديلتينوس أي انزعاج عندما أجابَ بصرامة. بل على العكس، شعر الكونت إنديرك أنهُ متحمس بشكلٍ غريب. بدا و كأنهُ يستمتعُ بالأمر.
و معَ ذلك، كانت “المرأة” التي أشارَ إليها ديلتينوس ليست إستيلا، الإمبراطورة.
“بعيدًا عن الهدايا المادية، ماذا عن تحضير هدايا أخرى؟”
“هدايا أخرى؟”
“سمعِتُ أنهُ في الأوساط الاجتماعية هذهِ الأيام من المألوف مشاهدة الأوبرا. الأوبرات التي تُعرض في مسرح غارد تعتبر مشهورة و هيَ مُمتعة للعينين و الأذنين، و يمكنكما الجلوس جنبًا إلى جنب في مكان صغير و التحدث عن أشياء متنوعة.”
“أوبرا.”
مررَ ديلتينوس إصبعه على ذقنه.
ثُمَّ تشكلت ابتسامة على شفتاه كما لو أنهُ راضٍ.
***
في وقتٍ مُبكرٍ مِنَ الصباح قبلَ شروق الشمس، ظهرت آثار التكرار الزمني بعدَ فترة طويلة.
ألقى يوليف تعويذة على غرفة كانارين بحيث لا يستطيع أحد دخولها. ثُمَّ أغلقَ على نفسه في غرفة أخرى بعيدًا عن الجميع. و معَ ذلك، بدأ عدد الآثار الجانبية يقل و شدتها تضعف. كانت تلكَ الآثار الجانبية ناتجة عن الزمن، لكن الزمن كانَ دواءً. إذا فكرَ في الأمر، كانَ ذلكَ مضحكًا.
لقد مضى وقت طويل مُنذُ أن كانَ بمفرده هكذا. مرّت بالفعل عدة أيام مُنذُ أن كان معَ كانارين. كانت تلكَ أفضل وسيلة لحمايتها، لكنه الآن بحاجة إلى إيجاد طريقة إٔخرى. لم يكُن يوليف متأكدًا إلى متى ستصمد قدرته على التحكم في نفسه. كانَ حبه لـكانارين ينمو يومًا بعد يوم، لذا لم يكُن يعلمُ متى أو كيفَ سينفجر.
عندما عادَ إلى غرفة كانارين بعدَ أن أنهى ترتيبه، وجدَ عدة أشخاص يقفون أمام بابها المغلق و هم يضربون الأرض بأقدامهم بقلق.
كانَ اثنان منهم مألوفين له. أحدهُما كانَ كبير الخدم، و الآخر كانت الخادمة التي تتبع كانارين كـظلها.
“ما الغرضُ من ذلك؟”
“دوق روبيوس، كُنا في انتظارك.”
انحنى كبير الخدم و الخادمات.
نظرَ إليهم يوليف بعينين باردتين.
“حسنًا. ما الأمر الذي جئتم من أجله؟”
“هل الآنسة كانارين بالداخل؟ لقد أمرَ جلالته بأن نقوم بتزيينها و إعادتها إلى القصر.”
كانت طريقة حديثه مزعجة، كما لو أنهُ يريد أن يتمَّ تغليف ممتلكاته المفضلة بشكلٍ جميل و إحضارها إليه. هل كانوا ينوون إخفاء حقيقة أنَّ يوليف سيكتشف نوايا ديليتينوس؟
لم يُخفِ يوليف استيائه. تراجعت الخادمات ببطء تحتَ وطأة ضغطه.
“ما هيَ الوجهة؟”
“عُذرًا، و لكن لأسباب أمنية، من الصعب الإفصاح عنها.”
“هُناكَ الكثير ممن سيخبرونني حتّى لو لم يكونوا من الخدم. في هذهِ الحالة، من الأفضل أن تتعاملوا معي مُباشرةً.”
تنهدَ الخادم داخليًا. فقد أمرهُ ديليتينوس بإحضار كانارين مهما كلفَ الأمر، حتّى لو قُتِلَ على يد يوليف.
و كانَ يوليف مُحقًا. فـمِنَ الأفضل بكثير التعامل معَ دوق عقلاني بدلاً من إمبراطور مجنون. على الأقل، كانَ الدوق مستعدًا للتحاور. فـعلى عكس الإمبراطور، لم يبدأ فور سماع الطلب برمي الأشياء عشوائيًا أو التلويح بسكين في وجه الخادم.
“لقد استأجرَ جلالته مسرح غارد. أعتقدُ أنهُ يريد اصطحاب كانارين لمشاهدة أوبرا.”
أوبرا؟
ابتلع كبير الخدم ريقه عندما التقت عيناه بعيني يوليف، اللتين كانتا تطالبه بالمزيد من التفاصيل.
“من بين المغنيات في المسرح، هُناكَ امرأة تحمل دم قبيلة الهويرا. لقد عيّنها جلالته كـمغنية رئيسية.”
“و الطرف الآخر؟”
“لا يوجد. كما صدرَ أمر بتقليل عدد المرافقين إلى الحد الأدنى. يبدو أنهُ يريد حقًا مشاهدة الأوبرا.”
هذا لم يكُن مُمكنًا. من هوَ ديليتينوس حقًا؟
توقفَ يوليف لوهلة، غارقًا في التفكير.
كانَ ديليتينوس شخصًا يتصرفُ خارج حدود المنطق، و يقوم بأمور استثنائية.
‘ما نوع الخداع الذي يخطط لهُ هذهِ المرة؟’
طالما أنَّ عدد المرافقين كانَ في الحد الأدنى، فـسيكون كافيًا إرسال بعض الأشخاص مسبقًا إلى مسرح غارد. بالطبع، لن يتمكن من لمس كانارين بسبب السم السري للأفعى الزرقاء الذي وضعهُ عليه.
“انتظر.”
لكن، بعيدًا عن نوايا ديلتينوس، كانَ الأهم هو سماع رأي كانارين. بطريقة ما، خطر له أن كانارين قد ترغب في مشاهدة الأوبرا.
قامَ يوليف بقياس تدفق السحر الذي تحسنَ بشكلٍ ملحوظ. عندَ هذا المستوى، لم تكُن هُناكَ مشكلة في التعامل معَ ديلتينوس. بدا أنهُ قد حانَ الوقت لإرسال تحذير واضح له.
‘أنا بجانب كانارين، لذا لا تفكر في أي حماقة.’
بعدَ أن تجاهل النظرات المتتبعة له، دخلَ يوليف الغرفة و أغلقَ الباب خلفه. فورًا، سمعَ صوتًا ناعمًا يخاطبه.
「ماذا حدث؟ من هُنا؟」
「الإمبراطور أرسلَ شخصًا.」
「هاه… هل جاءَ ليأخذني؟」
「أمرٌ مُشابه، يبدو أنهُ يريد أن يعرض عليكِ مشاهدة الأوبرا.」
「أوبرا؟」
مرَّ وقتٌ طويل، لكن عيني كانارين تألقتا كما لو كانت مهتمة بالأمر.
جلسَ يوليف على ركبتيه. كانَ هذا الوضع أكثرَ راحةً لهُ من وقوفه المُتسلط و هوَ ينظرُ إليها من الأعلى.
「هل سبقَ أن شاهدتِ واحدة؟」
「لقد استمعتُ فقط. إنها مسرحية غنائية… صحيح؟」
「نعم.」
「أخبرتني شقيقتي، التي شرحت لي الأمر، أنها شاهدت الأوبرا في مبنى يُسمى المسرح. لقد شاهدتها سرًا، و أحبتها كثيرًا لأن المسرح الملوّن كانَ رائعًا للغاية. حتّى ملابس المغنين كانت فاخرة جدًا. و قالت إنهُ في المشهد الذي ظهرَ فيه عدة أشخاص و غنّوا معًا، لم تستطِع منعَ نفسها، فـبدأت تغني معهم. لكن تمَّ الامساك بها على الفور و اضطرت إلى الهرب.”」
هل بدت سخيفة؟ تساءلت عن ذلك، لكنها لم تعتقد ذلك.
ضحكت كانارين بصوتٍ عالٍ و كأن القصة أضحكتها.
كانَ على يوليف أن يمنعَ نفسه من الابتسام و هوَ ينظر إليها.
「هل تريدين الذهاب؟」
「كُنتُ اودُ ذلك، لكن… يجِب عليَّ الذهاب معَ الإمبراطور. أنا أكره ذلك. لذلك من الأفضل ألا أتمكن من الذهاب. أوه، صحيح… يجِب عليَّ الذهاب رغم أنني لا أُريد، أليسَ كذلك؟」
سُرعانَ ما تغيرت ملامح كانارين و أصبحَ جسدها يرتجف. رفعَ يوليف يده ليمسحَ على شعرها.
「إذا كُنتِ لا تريدين الذهاب، فلا داعي للذهاب. و لكن إذا أردتِ الذهاب، سأذهبُ معك.」
「أنتَ أيضًا، يوليف؟」
أومأَ يوليف برأسه. كانت كانارين تضم يديها معًا و تغرق في أفكارها.
فكرَ يوليف إن كانت في النهاية ستخضع لفضولها و تطلب الذهاب لمشاهدتها، و لكن بشكلٍ غير متوقع، هزت رأسها.
「لا بأس. الأوبرا ليست أمرًا يجِبُ رؤيته… بسببي، يضطر يوليف للذهاب. هذا كل شيء.」
حتّى و هيَ تقول ذلك، كانت يدها الصغيرة تتحرك و كأنها تشعر بالندم.
نظرَ يوليف إلى يدها البيضاء و فتحَ فمه.
「لم أرها أنا أيضًا.」
「…حقًا؟」
「كُنتُ مشغولًا.」
「يوليف ليسَ حتّى الإمبراطور، فـلماذا هوَ مشغول هكذا كُلَّ يوم؟」
ضغطت كانارن شفتيها معًا. كانت هذهِ طريقتها في التوبيخ التي رآها منها أحيانًا في حياته السابقة.
كبحَ يوليف الشوق المتزايد.
“الأشياء التي تريدين فعلها، الأشياء التي تريدين امتلاكها، الأشياء التي تريدين تناولها. اطلبِي أيَّ شيء. لا تترددي. لا تفكري في الآخرين. أُريدكِ أن تهتمي فقط بما تريدين.”
「كيفَ يمكنني؟ لا أحد يستطيع العيش و هوَ يفعل ما يريد فقط.」
「لا بأس. سأفعلُ ذلكَ من أجلك.」
أصبحت كانارين عاجزة عن الكلام و فقط حدقت في يوليف.
هل قالَ شيئًا خاطئًا؟ هل كانَ ذلكَ مشبوهًا جدًا؟
‘لا تستسلمي لحياتكِ و أنتِ تُفكرينَ في الآخرين كما فعلتِ في حياتكِ السابقة. كنت آمل أن أُصبح شخصًا يضعُ سعادتكِ أولًا.’
اخترقت ضحكة قصيرة آذان يوليف، الذي كانَ قلقًا.
「أعتقد أن يوليف ساحرٌ عظيم حقًا. كيفَ تكونُ واثقًا هكذا؟ إذًا هل يُمكنني أن أُخبرك بأي شيء؟」
「بقدر ما تُريدين.」
「أعجبني ذلك. من فضلك استمع لي، يا أيُها الساحر. سأُخبرك برغبتي.」
امال يوليف بجسده نحوها، لامست رائحة كانارين الحلوة طرف أنفه. و كانَ تنفسها الأكثر دفئًا يدغدغُ أُذنه.
「 رغبتي هي…」
التعليقات لهذا الفصل "15"