“هذهِ الأيام، أقضي وقت فراغي في الرسم.”
“حقًا؟”
“بدأتُ بأشياءٍ بسيطة، لكنها لم تكُن سهلة كما كُنتُ أعتقد. و معَ ذلك، تحسّنتُ كثيرًا مُقارنةً بالمرة الأولى… هاه؟”
عندما رأى لوسيان الرجُل الواقف أسفل التل، صُدِمَ لدرجة أنهُ تجمّدَ في مكانه. كانَ هُناكَ يوليف آخر معَ كانارين.
‘ما هذا؟ لماذا لديَّ عمّان؟ هل طوّرَ سحرًا جديدًا؟’
بعيونٍ تكادُ تخرُجُ مِن محاجرها، نظرَ لوسيان بينَ الاثنين، غير قادرٍ على النطق بكلمةٍ واحدة.
“عمّي… سيدي؟”
كانت كانارين أيضًا مُتفاجئة لرؤية يوليف آخر يظهرُ من العدم.
بينما لم يتحدث أي منهُما، انحنى الرجُل الذي كانَ يقِفُ بجانب لوسيان برأسه بشكلٍ جاف.
“لم أكُن أعلمُ أن جلالة الملك سيصِلُ أولاً. دوق روبيوس يُحيّيكم.”
لا، ذلكَ الشخص ليسَ يوليف.
بمُجرّد أن سمعت كانارين صوت الرجُل، استعادت هدوءها بسُرعة.
كانوا يبدون مُتطابقين كما لو كانوا لوحات مُتشابهة تمامًا، و قد تكونُ أصواتهم مُشابهة لدرجة أنهُ يصعب التمييز بينهُما، لكن إذا استمعت عن كثب، ستدرك أنهُما ليسا مُتطابقين. رغم أن لا أحد غيرها كانَ يعلم، إلا أنها كانت تعرف.
صوتُ يوليف كانَ مُنخفضًا جدًا و مُرتدًا، و كانَ فيه جانِبٌ حلوٌ و جاد في نفس الوقت. لم يكُن بإمكانه أن يكونَ باردًا الآن لأسبابٍ مُعينة…
‘لماذا الإمبراطور يتنكرُ في شخصية يوليف؟’
اختبأت كانارين وراء ظهر يوليف، تقدمَ يوليف خطوةً للأمام ليحميها.
“أنتَ لا تزالُ كثير المزاح، جلالتك.”
“جلالتك، ماذا تقول؟ أليسَ هوَ من يتنكرُ في شخصيتي و يخدعُكِ، كانارين؟”
تجمّدت نظرات يوليف و ديلتينوس، و أصبحت باردة.
كانَ لوسيان بالكاد يستطيعُ التمييز بينَ يوليف و ديلتينوس. كانَ يُمكنهُ أن يُصدق أنهُ لو ارتدى أحدهُم نفس الملابس، لكان أحدهُم قد خرجَ من المرآة.
لكن بالنظر إلى كانارين، التي لا تبدو أنها تنوي الانتقال إلى يوليف الآخر، كانَ من المُرجح أكثر أن الرجُل الذي يقِفُ أمامَ كانارين هوَ يوليف الحقيقي.
‘إذن أنا… هل كُنتُ أُنادي جلالته بـ’العم’ حتّى الآن؟’
“كانارين، تعالي الى هُنا. أنا الحقيقي.”
مدَّ ديلتينوس يده.
عندما نودي بأسمها، حركت كانارين رأسها قليلاً، لكنها عادت بسُرعة إلى مكانها خلفَ يوليف. كانت قد سمعت همسًا يُنادي اسمها، و هوَ يُشبه كثيراً صوت يوليف.
في تلكَ الأثناء، بدأ قناع ديلتينوس، الذي كانَ أسير الغضب، يتكسرُ شيئًا فـشيئًا
كيفَ تمكنت هيَ من اكتشاف ذلكَ بهذهِ السهولة؟
سقطَ الشعور بالفرح الذي شعرَ بِهِ بعدَ خداع لوسيان البريء، الذي لم يكُن يعلمُ شيئًا عن ذلك.
لقد نجحَ في خداع لوسيان، الذي كانَ ذكيًا جدًا بالنسبةِ لطفلٍ في سنه، لذلك لم يكُن هُناكَ أي مُشكلة في تمثيله. رُبما كانت مُجرّدَ صدفة أن كانت كانارين قد تعرفت على يوليف.
لكن من ناحيةٍ أُخرى، كانَ مُهتمًا، كانارين التي تعرفت عليه من لمحة، بينما لم يتمكن حتّى ابنه من التعرف عليه. أحيانًا كانَ حتّى والديه يواجهون صعوبة في التمييز بينَ الاثنين.
‘نعم، الآن بعدَ التفكير في الأمر، هذهِ هيَ أولُ شخصٍ يتعرفُ عليّ.’
في لحظة، لمعَ ضوءٌ غريب في عيني ديلتينوس.
كُلما فكرَ أكثر في الأمر، زادَ فضوله. هيَ من أزالت عنهُ أرقهُ الطويل الذي لم تستطِع أيُّ وسيلةٍ أُخرى تخفيفه، و ذلكَ بأغنيةٍ واحدة؛ و علاوة على ذلك، هيَ الوحيدة التي تعرفهُ، بينما حتّى والديه كانا يجدان صعوبة في التمييز بينهُما في البداية.
“آه، يبدو أن الشخص الذي كانَ مِنَ المُفترض أن أخدعهُ لم يُخدع، لذلك تقلصت مُتعتي. هل نتوقف عن هذهِ اللُعبة هُنا؟”
“آه، جلالتك! أعتذر! أعتذر بشدة! لقد ارتكبتُ إهانةً عظيمةً بسبب فشلي!”
سقطَ لوسيان على الأرض بعدَ أن استوعب المعلومات.
كُلُّ الكلمات التي كانَ يُصدقها و يقولها بكُلِّ يقينٍ بأنَ جلالته هوَ يوليف خلالَ رحلتِهِ هُنا كانت كُلها مُشوشة في عقله. حتّى لو تمَّ حبسهُ بسبب جرأته في ازدراء الإمبراطور، فلم يكُن هُناكَ أيُّ عذر.
كانَ مِنَ الواضح أن ديلتينوس، الذي يكرهُ يوليف، سيجِدُ عذرًا ليتهم والدتهُ أيضًا. لم يكُن يهمه أن يُوبخ بسبب خطأ ارتكبه، لكنه لم يكُن ينبغي له أن يتسببَ بمشكلةٍ لوالدته. حتّى و إن لم يقصد ذلك، كانت والدتهُ هيَ من ستُعاني من قسوة ديلتينوس.
تدفقت الدموع من عيني لوسيان عندما فكرَ في والدتهُ المسكينة.
“جلالتك، من فضلك عاقبني. أي شيء… سأقبلُ أيَّ عقابٍ عن طيب خاطر!”
“لا بأس. من المؤسف أنكَ لم تتعرف على الإمبراطور، لكنني أيضًا من بدأ هذا، لذا لن ألومك. إذا لم تكُن قد خُدعت”
“… ماذا؟”
“أنا أقضي الكثير من الوقت في الاستمتاع. أوه، نعم. يجِبُ أن نُكافئ الطائر الذي يستحِقُ الإعجاب.”
رمى ديلتينوس شيئًا عندَ قدمي كانارين. كانَ الخاتم الذي كانَ يرتديه على إصبعه. و رغم أنهُ ليس خاتمًا يُستخدم بدلاً من الختم، إلا أنهُ كانَ ثمينًا بما فيه الكفاية.
“إذا تعرفت عليّ في المرة القادمة، سأُعطيك مُكافأة أكبر، يا طائري الذهبي الجميل.”
بعدَ أن أطلقَ ضحكة قصيرة، سارَ ديلتينوس مُبتعدًا عنهم.
انحنى لوسيان و أخذَ يبكي بصمت حتّى رفعهُ يوليف.
و بمُجرّد أن ربتت كانارين عليه بلُطف، انفجرَ الطفلُ في البكاء.
“لا بأس الآن يا جلالتك، أنتَ لم تفعل شيئًا خاطئًا.”
يوليف هدّأهُ بهدوء حتّى توقفَ لوسيان عن البكاء و هدأ. هزَّ رأسهُ نحوَ كانارين التي كانت تبدو و كأنها تحمِلُ الكثير لـتسأله.
كانَ ذهنهُ مشوشًا و كانَ بحاجةٍ إلى وقتٍ لترتيب أفكاره. و لـِحسن الحظ، ركزت كانارين على تهدئة لوسيان.
‘حتّى لو فازَ بالرهان، مِنَ الواضح أن ديلتينوس لن يترُكَ كانارين تذهب.’
***
فتحت إستيلا، إمبراطورة إمبراطورية إيلريميان، الباب و نظرت إلى ابنها بتعبيرٍ مُمتلئ بالفرح.
كانَ من دواعي سرورها أن تُشاهد ابنها يكبر شيئًا فـشيئًا. كانَ الابنُ الذي لا يُمكن استبداله و ذا قيمة عظيمة، و الذي بذلَ قصارى جهده لـيظلَ بعيدًا عن تلوث ديلتينوس.
“أمي…”
“وجهُكَ ليسَ على ما يُرام. ماذا حدث؟ هل واجهت صعوبة في الدراسة؟”
توقف قلبها عندما رأت آثار الدموع على وجه لوسيان و هوَ يقترب منها.
أمرت خدمها بمُغادرة الغرفة و جعلت لوسيان يجلِسُ على حجرها. و كأنها كانت تنتظرُه، احتضنَ لوسيان رقبتها.
“أمي، هل رأيتِ جلالته اليوم؟”
“لا. لم أرَ جلالته مُنذُ عدة أيام. لماذا؟ هل ضربك جلالته على يدك مرّةً أُخرى؟”
“لا، ليسَ ذلك…”
ترددَ لوسيان و هوَ يعض شفتيه.
كيفَ يُمكنه أن يُخبرها؟
قبلت إستيلا جبين لوسيان و خده بينما كانَ يُحاول بشدة ترتيب أفكاره. و لم تنسَ أن تتحقق من ذراعيه و كفيه بينَ الحين و الآخر.
لم يكُن هُناكَ أيُّ أثرٍ للعقاب البدني.
ديلتينوس لم يلمس لوسيان، لكن لم يكُن بإمكانها أن تكونَ مُتأكدة تمامًا. من المُستحيل التنبؤ بعقل ذلكَ الرجُل أو تصرفاته.
“… فقط رأيتُ جلالته…”
كانَ من الواضح أن شيئًا ما قد حدث معَ ديلتينوس. لم تسترخِ إستيلّا و انتظرت كلمات لوسيان التالية.
“جلالته… تقمصَ شخصية عمّي.”
“تقمصَ شخصية الدوق؟”
“نعم… قصَّ شعره بنفس الطريقة تمامًا… لم أكُن أعلم! لذا، لذا…”
كانت هُناكَ دُموعٌ في صوت لوسيان. احتضنت إستيلا لوسيان.
“لا بأس، يا عزيزي. لا بأس.”
همسة كأغنية تجعلُ قلبَ لوسيان المصدوم يهدأ. تلعثمَ لوسيان و أكملَ حديثه.
“لم أكُن أعرف أنهُ ليسَ عمي… لذا، شعرتُ بالحماس و قُلتُ شيئًا، فـغضبَ جلالته.”
“كيفَ عرفتَ أنهُ ليسَ الدوق؟”
“في البحيرة، قابلتُ عمّي الحقيقي و الآنسة كانارين. في البداية، قالا كلاهُما أنهُما عمّي، لكن بعدَ ذلك قالَ جلالته أنهُ لم يعُد مُمتعًا… و قالَ إنهُ لن يوبخني، لكنهُ لن يذهبَ إلى أمي و يغضب، أليسَ كذلك؟ حتّى الآن، إذا ذهبت و تعرضت للعقاب…!”
“اهدأ، يا عزيزي. إذا كانَ سيُعاقبك، لـكان فعلَ ذلك في الحال.”
هدأت إستيلا لوسيان و هوَ يبكي، ثُمَّ دخلت في تفكيرٍ عميق.
كانت قد سمعت أن ديلتينوس لم يظهر في الأماكن العامة خلالَ الأيام القليلة الماضية بسبب صُداعه. لذا، من المُحتمل أن الجميع لم يعرفوا أنهُ قصَّ شعره.
“إذا كانَ يكرهُ الدوق روبيوس أكثرَ من أي شيء في العالم، فـلماذا يُريدُ تقليده؟”
أسمُ كانارين. أسمٌ سمعته مرّةً أُخرى.
كانت تعرِفُ أنَّ هذا هوَ الاسم الذي جعلَ القصر الإمبراطوري يعجُ بالأحاديث.
امرأة من قبيلة الهويرا، التي أمسكَ بها ديلتينوس. امرأة يقولونَ عنها إنها كانت جميلة لدرجة أن المرء لا يستطيعُ أن يُزيلَ عينيه عنها بمُجرّد أن يراها. كانت المرأة التي منحت ديلتينوس، الذي عانى من الأرق الطويل، نومًا عميقًا كُلَّ ليلة. امرأة أظهرت اهتمامًا صريحًا بالدوق روبيوس، الذي لم يُظهِر أيَّ اهتمام بالنساء.
كانت العلاقة بين الإمبراطور و الدوق قد تعرضت لصدعٍ كبيرٍ بالفعل بسببِ كانارين، و هوَ ما أصبحَ سرًا معروفًا.
كانت الأقاويل تُشيرُ إلى أن الدوق روبيوس، الذي كانَ يسعى وراء كانارين، و الإمبراطور ديلتينوس، الذي كانَ يُحاولُ منعَ ذلك، قد تشاجرا عدةَ مرات خلالَ المُناسبات الرسمية.
‘بـماذا… بـماذا تُفكِر بحق الجحيم؟’
توقفت يد استيلا التي كانت تُداعب ظهر لوسيان لحظة، ثُمَّ نظرت إلى القصر الرئيسي حيثُ كانَ ديلتينوس.
كان لديها شعورٌ بأن السلام الهش الذي كانَ يسودُ القصر الإمبراطوري على وشك أن ينكسر قريبًا.
التعليقات لهذا الفصل "14"