「يوليف!」
قُطعت الذكريات الحية، و كأنها حدثت بالأمس فقط، بصوت كانارين الصارخ. كانت قد سبقتْهُ إلى الأمام و لوّحت لهُ بيدها بحماس.
「تعال إلى هُنا! لقد تفتّحت الكثير من الزهور…」
「كانارين!」
في لحظة، سقطَ جسدُ كانارين إلى الخلف.
لقد كانت مُنشغلة تمامًا بالتلويح ليوليف لدرجة أنها لم تنتبه إلى المنحدر خلفها. في الواقع، كانَ ذلك بدايةً لمُنحدرٍ شديد الانحدار.
‘ماذا أفعل؟ هل ينبغي أن أنشرَ جناحيّ؟’
لكنَ يوليف كانَ أسرعَ منها في اتخاذ القرار.
قبلَ أن تسقُط، ضمّها إليه بقوة.
تدحرج الجسدان المُتشابكان على طول المُنحدر، بينما تطايرت بتلات الأزهار و أوراق العشب من حولهُما.
كانَ يوليف يحتضِنُها بإحكام داخل ذراعيه الصلبتين، كأنها كنزٌ لا يجِبُ أن يُفلت. كانَ دفؤها يتغلغلُ إلى أعماقه، جسدُها الناعم و الهش يبعثُ شعورًا غريبًا. تُرى، لو كبِرَ طائر الكناري ليُصبِحَ بحجم إنسان، هل سيشعُر تمامًا مثلها؟ لو شدَّ ذراعيه أكثر، هل سينفجر قلبهُ الذي قد لا يحتمل.؟
كانت هذهِ هي المرة الأولى التي يقترب فيها منها إلى هذا الحد.
「لقد انقطعَ نفسي… هذا يكفي… دعني أذهب…」
「…أنا آسف.」
على الرغم من أن المُنحدر لم يعُد يُشكِلُ خطرًا، إلا أن يوليف، الذي كانَ يحتضِنُها بقوة، استعادَ وعيهُ أخيرًا. و ما إن تراخت قبضته، حتّى أفلتت كانارين بسرعة.
أغمض يوليف عينيه و أطلقَ تنهيدةً طويلة، محاولًا تهدئةَ نبضهُ الجامح الذي كانَ يخفِقُ بجنون.
كانَ الوضعُ خطيرًا بهذا الشكل. كانارين، التي شعر بِها بجسدِه كله، حرارةُ أنفاسها التي لامست بشرته كانت مُشتعلة، تمامًا كـنهاية عُنقها الدافئ. لم يكُن سوى احتضانٍ بسيط، و معَ ذلك شعرَ بهذهِ الحرارة تشتعِلُ داخله… فـكيفَ لو لامست شفتيها شفتيه…؟
「يوليف! هل تأذيت؟ هل أنتَ بخير؟」
وزنٌ خفيف سقطَ عليه فجأة. فتحَ يوليف عينيه بصدمة.
كانارين كانت قد تسلقت فوقَ جسده و تنظُر إليه من أعلى.
لم يدُم الدفء الذي غمرَ قلبه بسبب عينيها اللطيفتين المليئتين بالقلق سوى لحظة. لكن الحرارة التي أخذت تتصاعدُ ببطء في جسده كانت شيئًا لم يألفهُ يوليف من قبل.
ازدادت ملامِحُ كانارين جدية و هيَ تنظُر إلى زوايا عينيه المُحمرة بسبب الحمى المُتصاعدة.
「عيناك حمراوتين… رُبما أُصيبتا بأذى…」
أصابعُها النحيلة التي لامست عينيه برقة حملت دفئًا غريبًا. لم يستطع يوليف تحملُ ذلكَ أكثر.
أمسكَ برفق بمعصم كانارين.
أصابعه الطويلة تسللت ببطء على طول معصمها، ثُمَّ راحت تحتضِنُ كفها بالكامل. كانت شفتيها مُتفرقتين قليلًا، كما لو أنها لم تجد ما تقوله، مما جذبَ انتباهه لا إراديًا.
حاولَ يوليف جاهدًا أن يصرف نظرهُ نحوَ عينيها بدلًا من شفتيها، لكنهُ لم ينجح في ذلك.
「كانارين.」
اجتاحهُ اندفاعٌ حار.
كانَ يوليف شخصًا عقلانيًا حتّى النخاع. كانَ ذلكَ جيدًا من ناحية، لكنهُ سيئ من ناحية أُخرى، إذ كانت مشاعِرهُ باهتة، و نادرًا ما أظهرَ اهتمامًا بالآخرين. لم يكُن هذا فقط بسبب طبيعته الهادئة، بل أيضًا لأنهُ بلغَ مرحلةً سامية قبلَ أن يصل حتّى إلى سن البلوغ.
مُنذُ أن فقد والدته، التي كانت تعتني به، لم يعد هُناكَ شيءٌ يُحرك مشاعره. لم يكُن سعيدًا، و لا حزينًا، و لا حتّى يائسًا؛ بل كانَ يقضي أيامه بهدوء، يؤدي المهام الموكلة إليه بلا رغبة حقيقية في أي شيء، و من دون أن يكون لديه ما يشتكي منهُ حقًا.
حتى التقى بـكانارين.
مُنذُ لقائِه الأول بها، لم يستطِع أن يُشيح بنظره عنها. كانَ يعتقد أن الأمر طبيعي.
مظهرها الفريد، صوتها العذب الذي يُشبه زقزقة الطيور، و الطريقة التي كانت تُحدق بها مُباشرةً في عينيه بينما تهزّ كتفيها بخفة… كُلُّ ذلك كانَ ساحرًا. هل كانَ هُناكَ من يُمكنه أن يتجاهلها عندما تكون أمامهُ مُباشرةً؟ ظنَّ أن الأمر لا يتجاوز مُجرّد اهتمام عابر.
لكنهُ كانَ أحمق، لم يُدرك حتّى أنهُ كانَ حُبًا.
يبدو أن الندم لم يكُن الشيء الوحيد الذي خلّفهُ إدراكه المُتأخر.
يوليف كبحَ بشدة الرغبة المُلتهبة التي اجتاحت جسده. لم يكُن يستحق كانارين. لم يكُن يستطيع، أو بالأحرى، لم يكُن ينبغي لهُ أن يرغب بها. و معَ ذلك… كانَ يُريدها.
اندفعت رغبةٌ جامحةٌ عبرَ عروقه، مُتسللةً إلى كُلِّ خليةٍ في جسده. مدَّ ذراعيه ببطء و أحاطَ خصرها النحيل، مُستخدمًا قوةً بالكاد تُلحظ، مُجرّد لمسة خفيفة، لـيجذب جسدها إلى أحضانه مرّةً أُخرى.
عبقها، المُمتزج بعطر الأزهار، جعلَ رأسهُ يدور.
و … شفتاها.
وقعَ بصرهُ على شفتيها، الشفتين اللتين لم يتسنَّ لهُ قط أن يتأملهُما كما يشتهي. ببطء، لفَّ إحدى يديه حول مؤخرة رأسها برفق. أراد أن يضغطَ برأسها نحوَه و يُقبّلها بعمق، أن يتذوّقها، أن يُشاركها أنفاسها حتّى تنقطع تمامًا. كانَ يرغبُ في أن يلتهمها بالكامل، من رأسها حتّى أخمص قدميها.
لكن قبلَ أن يتحوّل إلى وحشٍ خاضعٍ لرغباته، عادَ يوليف إلى وعيه. ثُمَّ اجتاحهُ كرهٌ شديدٌ لنفسه.
لو لم تكُن كانارين أمامه، لشعرَ بألمٍ يعتصره، رُبما حتّى كانَ سيصفعُ نفسه لـيُعيدَ عقلهُ إلى صوابه. حاولَ إقناع نفسهُ، كما لو كانَ يخضعُ لعملية غسيل دماغ.
‘لا تنسَ هدفك… لا تنسَ ما عليك فعله.’
「يوليف؟」
نادتهُ كانارين بحذر، لكن يوليف لم ينطق بكلمة. سادَ صمتٌ محرجٌ بينهُما.
ظلَّ يوليف صامتًا. لم يكُن هذا الصمت جديدًا عليه، فقد مرَّت أيامٌ و ساعات من الصمت بينهُما، لكن هذا الصمت كانَ غريبًا بعض الشيء. كانت يديه اللتين أحاطتا بخصرها ساخنتين للغاية.
حركت كانارين جسدها و اقتربت أجسادهم أكثر، و في تلكَ اللحظة، أطلق يوليف يدهُ منها بلا رحمة. كانت حركةٌ باردةٌ لدرجة أن كانارين فتحت عينيها في دهشة.
「ابتعدي عني.」
「ماذا؟ آه… نعم، أنا آسفة.」
قفزت كانارين عن جسد يوليف بسُرعة.
كانَ في صوته البارد تذمرٌ نادر.
هل هوَ غاضبٌ منها لأنها لم تُراعِ حدود جسده؟
نظرت كانارين في عينيه.
لم ينظُر إليها يوليف حتّى. احترقت أُذنا كانارين بالاحمرار عندما رأتهُ يتجاهلها بهذا الشكل الفاضح.
شعرت بالخجل.
「هل سيأتي أحد؟」
「ماذا يجِبُ أن أفعل؟ هل نذهب إلى مكان آخر؟」
「لقد فات الأوان. من الآن فصاعدًا، لا تستخدمي لغُة الهويرا.」
عضت كانارين شفتيها برفق. لم تكُن تعرِفُ سببَ تغير تصرف يوليف فجأة.
هل كانَ بسبب الشخص الذي يقترب؟ من كانَ هذا الشخص بالضبط؟
كانت متوترة للغاية و نظرت في الاتجاه الذي كانَ يوليف يُحدق فيه.
***
كانَ لوسيان، ولي العهد و ابن الإمبراطور الوحيد،
مُشغولًا للغاية من الصباح حتّى المساء.
كانَ ديلتينوس يتمتعُ بشهيةٍ رائعة للنساء، لكنهُ لم يتزوج ملكة أو جارية أُخرى، و لم يخلُق مزيدًا من الورثة معهم. كانَ يعتقدُ أن طفلاً واحدًا يكفي لتسليم العرش. و كانَ يشكو كثيرًا من أن إنجاب العديد من الأطفال هوَ مُجرّدُ إزعاجٍ غيرِ ضروري.
لهذا السبب، تمَّ تعليم لوسيان لـيُصبحَ ملكًا مُنذُ سنٍ مُبكرة. و لِحُسن الحظ، على عكس ديلتينوس، كانَ لوسيان ذكيًا و ذو قلبٍ طيب.
و رغم نضوجه، إلا أنهُ كانَ لا يزالُ مُجرّد طفل قد بلغَ العاشرة من عُمره.
استمرَ الجدولُ المُزدحم لعدة أيام، و كانَ لوسيان يبحثُ عن فُرصة هروب غير مُتوقعة.
وفقًا لجدوله، كانَ مِنَ المُفترض أن يأخُذ لوسيان قيلولة مُباشرة بعد شاي بعد الظهر. و بما أن ذلك جزءٌ من روتينه اليومي، لم يكُن هُناكَ رقابةٌ مُشددةٌ حولَ غُرفة ولي العهد. وضعَ وسادة تحت اللحاف ليُشكّلَ جسمًا مقببًا، ثُمَّ خرجَ بسُرعة من الغُرفة.
و كانت وجهتهُ بالطبع، القصر المُنفصل حيثُ يقعُ قصر الإمبراطورة.
‘هل سأتمكنُ من لقاء عمي و آنسة كانارين مثل المرة السابقة؟’
من الغريب أنهُ لم يرَ كانارين مُنذُ ذلكَ اليوم.
كانَ يوليف شخصًا مشغولًا جدًا، و لم يكُن من الصعب رؤيته لفترة عندما حاولَ لوسيان مقابلته، لكن لم تكُن هُناكَ طريقةٌ للقائِه معَ كانارين.
لم يكُن الأمر أنهُ لم يُفكر في طلب الحضور من الخادم ليُحضر كانارين، لكن… لسببٍ ما، شعرَ أنهُ لا يجِبُ أن يطلُبَ ذلك، فأستسلم. لأنهُ شعرَ أن عمهُ يوليف كانَ يُحاول إخفاء كانارين.
الطفل الذي نشأ و هوَ يُشاهد تقلُبات مزاج ديلتينوس مِن وقتٍ لآخر، طورَ هذا الحدس بشكلٍ خاص.
‘أُريدُ أن أرُدَ لها الجميل لأنها عثرت على منديلي…’
“…أوه!”
كان لوسيان غارقًا في أفكاره، و عندما دارَ حولَ الزاوية، صُدِمَ بشخصٍ آخر. و عندما اكتشفَ حذاء الشخص الأسود، ارتجفَ لوسيان، كانت الأحذية السوداء بوضوح أكثرَ شيءٍ مُرعبٍ في العالم.
“جـ – جلالتك… لم أنظُر أمامي، آسف… عمي؟”
رفعَ لوسيان عينيه ببطء، ثُمَّ رفعَ رأسهُ أيضًا، مُدركًا أنهُ ليسَ من الأدب أن يُبقيه مُنخفضًا.
كانَ يوليف يُحدقُ به بوجهه الخالي من التعبير المُعتاد. تفاجأ عندما علِمَ أنهُ لم يكِن ديلتينوس، و عادَ قلبهُ الذي كانَ ينبضُ بشدة إلى هدوئِه بسُرعة.
ظهرَ على وجه لوسيان ارتياحٌ و فرحٌ واضحين.
“عمي! إلى أين تذهب؟”
“هذا هوَ الطريق للذهاب لرؤية جلالته. لكن، لماذا أنت هُنا؟ أعلم أنهُ وقت القيلولة الآن.”
“أممم… ذلك.”
“خرجتَ سرًا.”
“أوه، آه، لا! كانت أمي… كُنتُ سأذهبُ لرؤية أمي! لا أستطيعُ أن أُحييها في الصباح!”
صرخَ لوسيان بيأس. كانَ لديهِ درسٌ في المُبارزة مُنذُ الصباح الباكر، لذا لم يكُن يكذب.
حدقَ يوليف في لوسيان، الذي كانَ مُضطربًا و مُرتبِكًا، دونَ أن يقولَ كلمة.
سُرعانَ ما استقرت يدهُ على رأس لوسيان.
“سمو الأمير ليسَ لديه موهبة في الكذب.”
“آسف، عمي… حسنًا. سأعودُ إلى غرفتي فورًا، لذا من فضلك، لجلالته… من فضلك حافظ على هذا سرًا!”
“هل تخاف من جلالته؟”
لم يردّ لوسيان بسهولة. لقد ذكرتهُ كلمات يوليف أن عيون الإمبراطور كانت في كُلِّ مكان في القصر.
‘إذا سمِعَ أحدٌ هذهِ المُحادثة و أخبرَ الإمبراطور…’
أومأَ يوليف برأسه كما لو كانَ يقول إنهُ لا بأس من أن يُخبره. ترددَ لوسيان ثُمَّ فتحَ فمه.
“قليلًا… إنهُ مُخيف.”
“ماذا عني، ألستَ خائفًا مني؟”
“عمي ليسَ مُخيفًا. جلالته يغضب فجأة، لذلك أخاف. و أيضًا أخافُ أنهُ إذا فعلتُ شيئًا خاطئًا، ستتلقى أمي اللوم بدلًا مني. جلالته لا يبدو أنهُ يُقدّر أمي.”
“هل هذا صحيح؟”
جاءَ الردُ جافًا كما هوَ المُعتاد.
“لوسيان أحبَ اليد الكبيرة التي كانت تُداعب رأسه كما لو كانت تواسيه.
عندَ التفكير في الأمر، كانت هذهِ المرة الأولى التي يُداعب فيها يوليف شعره. و كانَ ذلكَ شيئًا غريبًا آخر.
“عمّي.”
“نعم.”
“هل مِنَ المُمكن أن أُناديك بـ’عمّي’ اليوم؟ ألم تطلُب مني دائمًا أن أُناديك بـ’الدوق’؟”
عيني لوسيان، اللتين استعادتا نشاطهُما بسُرعة، تألقا ببريقٍ مُشرِقٍ. كانَ مِنَ اللطيف حقًا أن يرى يوليف و هوَ يُداعب شعره.
بدا على وجه يوليف تعبيرًا صعبًا قراءته ثُمَّ أغلقَ فمه. بدا و كأنهُ غارقٌ في أفكاره للحظة، لذا انتظر لوسيان بصبر حتّى فتحَ فمهُ مُجددًا.
“هُناكَ أيامٌ أرغبُ فيها أحيانًا في أن أتصرف بطريقتي الخاصة، تمامًا كما فعلتَ أنت، يا صاحب السمو، عندما هربت.”
“و أنتَ أيضًا، عمي؟”
ابتسمَ لوسيان ابتسامةً واسعة، مُظهرًا سعادته لأنهُ وجدَ شخصًا يُشاطره نفس الشعور.
في ذهن الطفل، تخيلَ مشهد يوليف و هوَ يهربُ من القصر الإمبراطوري بسرية. كانَ سريعًا و أنيقًا، مثلَ فارسٍ في مُهمةٍ سرية.
غير قادرٍ على تخيّل ما كانَ لوسيان يتخيلُه، توجهَ يوليف نحوَ القصر المُنفصل.
“سآخُذك إلى القصر المُنفصل.”
أصبحَ لوسيان مسرورًا لأنهُ سيذهبُ إلى القصر الخاص معَ يوليف المُفضل لديه. رُبما يتمكن من لقاء كانارين إذا كانَ برفقة يوليف.
الطفلُ المُبتهج لم يُلاحظ شفتي الرجُل و هوَ يبتسم.
التعليقات لهذا الفصل "13"