For you in the cage - 11
قد تكونُ مُجرّد مُصادفة. فقد كانَ سياق المُحادثة مُتوقعًا إلى حدٍ كبير، حتّى دونَ معرفة لُغة الهويرا.
بينما كانت كانارين تُفكر بذلك، نظرت إلى يوليف بتوقع.
كانَ يوليف يسألُها دائمًا نفس الأسئلة: “هل أنتِ بخير؟ هل تشعُرين بألم؟ هل تناولتِ طعامكِ؟ هل ترغبين في فعل شيءٍ ما؟ كيفَ تشعُرين؟” كانت تكتفي بهز رأسها و النظر في عينيه، و إن لم يُفلِح ذلك، كانت تلجأ إلى القلم و الورق للإجابة. و معَ ذلك، كانَ من الأفضل لو استطاعت الرد عليه مُباشرةً. لكنها، و هيَ تُراقبِهُ بصمت في انتظار إجابته، شعرت و كأنهُ تجاهلَ كلماتها، فازدادت مشاعِرها ثِقلًا.
كانَ هُناكَ سببٌ آخرٌ لرغبتها في أن يفهمَ يوليف لُغة الهويرا، و هيَ الوحدة.
في هذا القصر الفسيح، وجدت نفسها مُحاصرة وحدها في عالم آخر.
حتّى الخادمات، إلى جانب ديلتينوس، كُنّ ينظُرن إليها و كأنها مُجرّد زينة خلفَ جدارٍ زُجاجيّ. كانَ مِن الصعب تحمُل ذلك وحدها. كما أن نظرات الناس الباردة تفاقمت بسببِ عجز كانارين المُتزايد عن التحدُث بِشكلٍ صحيح.
لو كانَ هُناكَ شخصٌ واحدٌ فقط يستطيعُ أن ينصت لصوتها حقًا…
「يوليف، هل تفهم هذهِ اللُغة؟」
بدت الثواني التي استغرقها يوليف لفتح شفتيه طويلةً بشكلٍ لا يُطاق بالنسبة لِـكانارين، و كأنَ الزمن قد توقّف و لم يعد للوقت أي معنى.
“أجل، أفهمها.”
「إذن، ما أقوله الآن…」
“أعلم.”
عضّت على شفتها السفلى، لكنها شعرت بحرارة دموعها تملأُ عينيها، و لم تستطِع منعها مِنَ الانهمار في النهاية.
قطرات شفّافة، كـحبات كريستال، سقطت فوق يد يوليف.
「أنا آسفة… كُنتُ أُحاول ألا أبكي…」
“لا بأس، ابكِ كما تشائين.”
「لكنكَ لا تُحب أن تراني أبكي، أليسَ كذلك؟」
“ما الذي يجعلُكِ تظُنينَ ذلك؟”
「في كُلِّ مرة أبكي، يبدو وجهُكَ مُخيفًا…」
حاولَ يوليف أن يقولَ شيئًا، لكنهُ اكتفى بزمِّ شفتيه، و كأنَ الكلمات قد خذلته هذهِ المرة، كانَ على كانارين أن تنتظر جوابه.
“وجهي دائمًا هكذا. لذا لا تقلقي بشأنه.”
「أظنُّ أن يوليف لا يعرِفُ نفسهُ جيدًا. يوليف لديه ثلاثُ تعابير فقط: وجهٌ مُخيف، وجهٌ جامد كالصخرة، و وجهٌ ودود.」
كانَ ذلك أشبهُ بمُعجزة. عندما رأتهُ للمرة الأولى، بدا لها مُرعبًا، أما الآن، فقد أصبحَ مألوفًا، بل ودودًا. تُرى، هل كانَ يوليف شخصًا طيبًا حقًا، أم أنهُ كانَ طيبًا معها فقط؟
كيفَ كانَ عليه أن يُجيب؟ صوتها، وجهها، كُلَّ شيء عنها كانَ واضحًا في ذهنه، و معَ ذلك، لم يستطع تذكُّر ما قاله في ذلكَ الحين.
لم تكُن تِلكَ ذكرى قديمة، بل ذكرى حديثة رفضَ عقلهُ أن يستحضرها. رُبما لأنهُ لم يُرِد أن يقول شيئًا. رُبما لأنهُ كانَ جبانًا.
حبٌّ لم يستطِع الحفاظ عليه.
حبٌّ لم يدرك حتّى أنهُ كانَ حُبًا.
بندمٍ عميق، عادَ إلى الماضي كما لو كانَ يفرُّ هاربًا، و معَ ذلك، ها هيَ تُخبره مُجددًا بأنهُ كانَ طيبًا معها.
زفرَ يوليف أنفاسه، و كأنهُ يُطلق تنهيدة عالقة في صدره.
“لستُ شخصًا طيبًا… بل مُثيرٌ للشفقة فحسب.”
توهّجَ ضوءٌ خافِتٌ من يده، و بمُجرد أن تسللَ دِفؤه إلى قدمها، اختفى التورم تمامًا، و تلاشى الألم كما لو لم يكُن يومًا.
اتسعت عينا كانارين في دهشة. هذهِ هيَ المرة الثانية التي تشهدُ فيها قُدرته على فِعلِ ذلك، و معَ ذلك، لم تكفّ دهشتها و لم تستطِع تصديق الأمر بعد.
“هل يؤلمكِ أي مكان آخر؟”
تلاقت نظراتهُ العميقة، الهادئِة، بعينيها.
كانَ يوليف مُخطئًا… لم يكُن قاسيًا و لا مُثيرًا للشفقة. كانَ ساحرًا عظيماً، و كانَ أولَ شخص يسألها عمّا إذا كانت لا تزالُ تتألم.
أكانَ ذلكَ بسبب عينيه؟ ذلكَ الشعور الذي هدأ في داخلها، بدا و كأنهُ عادَ مُجددًا…
بهدوء، سحبت كانارين قدميها من بين يديه.
و حينَ انتهى علاجها، أرخى يوليف قبضته بسهولة، كما لو أنهُ لم يكُن يُمسِك بها مُنذُ البداية.
「لا أشعرُ بأي ألم. شُكرًا لك.」
「لا بأس إن أردتِ الخروج، لكن لا تخرجي وحدكِ. إن شعرتِ بالضيق، أخبريني في أي وقت… سأُرافقكِ.」
「حسنًا. لكن يوليف، كيفَ تعلّمتَ لُغة الهويرا؟ من الذي علّمك إيّاها؟ كيفَ يُمكِنُك التحدث بها؟」
كانت لهجةُ الهويرا فريدةً من نوعِها، إذ بدت كأنها غناءٌ لِمن لم يألفها، مما جعلَ تعلُّمها أمرًا بالغ الصعوبة على غير أبناء قبيلتها.
عاشت كانارين طوالَ حياتها في قريتها، و لم تتحدث بهذهِ اللُغة معَ أحدٍ من خارجِ شعبها، لذا لا بُدَّ أن من علّمها ليوليف كانَ شخصًا من الهويرا.
ولكن من يكون؟ اتّسعت عيناها فضولًا، وتألّقتا بتساؤلاتها الحائرة.
「لا أعرِفُ سوى الأساسيات فحسب.」
「واو! هذا رائع حقًا! قُل المزيد… أي شيء، لا يُهم ما هو!」
حينَ تسلّلت تلكَ الكلمات المألوفة إلى مسامعها بعدَ غيابٍ طويل، شعرت و كأنها عادت إلى موطنها.
حنينٌ، دفءٌ، شعورٌ مريح.
عقلها، الذي ظلَّ مُتحفزًا طوالَ الوقت، مُثقلًا بقلق المجهول و ما قد يأتي، وجدَ أخيرًا لحظة راحة. بفضل يوليف، استطاعت أن تتحادث مع أحدهم بلُغتها.
و عندما توقف عن الكلام، أمسكت بذراعه بلهفة.
「حقًا… لا بأس أن تقول أي شيء.」
نظرَ إليها يوليف بعينين يملؤهُما شيءٌ مُعقد، مشاعر لم تستطِع فكَّ شفرتها.
لم يمر وقت طويل على معرفتها به، لكنها لم ترَ هذا التعبير على وجهه من قبل، ليسَ و لو لمرة واحدة أثناء لقاءاتهما القصيرة.
أرادت كانارين أن تفهم المعنى الكامن خلف تلكَ النظرة العميقة، الغارِقة في صمتِها.
بدلًا من سؤاله عمّا يدورُ في ذِهنه، اختارت أن تتعمقَ في عينيه. فـالعينُ أصدقُ مِنَ اللسان، إذ يُمكِنُ لـلإنسان أن يكذبَ بسهولة، لكِنهُ لا يستطيع أن يُزيَّف بريقَ نظراتِه أو يُجبِر شفتيه على ابتسامةٍ غيرِ حقيقيةٍ.
أصغت كانارين بصمتٍ إلى ما تقولُه عيناه، إلى صوت قلبِه الذي لم تكُن تعرِفُ لِمن يعودُ صداه، لكنهُ كانَ يرنُّ بوضوح في أرجاءِ روحها.
رأت في عينيه حُزنًا عميقًا، حُزنًا يلوحُ خلفَ كآبته، لكنهُ كانَ مُمتزِجًا بشيءٍ آخر… شيءٍ يُشبِهُ الراحة، كما لو أن عبئًا ما قد خُففَ عنه. و على الجانب الآخر، كانَ هُناكَ وهجٌ خافِت، أشبهُ بفرحةِ لقاءِ شخصٍ عزيزٍ بعدَ فِراقٍ طويل.
أربكها ذلكَ الشعور. لم يكُن مِنَ السهل الغوص في أعماق الآخرين و فهمهم حقًا.
لكن كانَ هُناكَ أمرٌ واحِدٌ لم يكُن عليهِ جدال.
كانَ يوليف يتشبثُ بِها بشدّة… و كأنهُ لو أرخى قبضته، ستتلاشى من بينِ يديه على الفور.
شعرت كانارين أنَّ عليها أن تكونَ هيَ من يتحدثُ هذهِ المرة، لا هوَ.
「يوليف، أنا…」
「سأكونُ أولَ نَسمةِ هواءٍ تَهبُ مِنَ الشرق نَحوَكِ.」
بينما شعرَ ذِهنها بالفراغ، نسيت تمامًا ما كانت تُريدُ قولهُ ليوليف.
عندما نظرت كانارين إلى يوليف بعينين مليئتين بالمُفاجأة، منحها ابتسامة خفيفة.
「هذهِ هيَ الكلمات التي علَّمتني إياها.」
「هل تعرف معنى تلك الكلمات؟」
「لم أسمع المعنى بالتفصيل، ذلكَ الشخص قد اختفى.」
「هل كانت من قبيلة الهويرا؟」
「نعم.」
「يبدو أنكَ كُنتَ قريبًا جدًا من ذلكَ الشخص.」
ما قالهُ يوليف كانَ مثلًا مألوفًا بينَ أفراد قبيلة الهويرا، جُملةٌ تحتوي على معنى و وعدٍ دائِم بالبقاءِ معك و حمايتك.
كانت تِلكَ العبارة يتم تبادُلها بينَ الأصدقاء المقربين، مثلَ أفراد العائِلة، العُشاق، الأصدقاء، و الزملاء القُدامى، لكن هُناكَ لمسةُ رومانسية في معناها، لذا كانت عمومًا شائِعة بينَ الأحبة.
فهمت كانارين نظرةَ يوليف الجادة. رُبما كانَ الشخص الذي علّمه لُغة الهويرا شخصًا مُميزًا بالنسبةِ له. قد يكونُ حبيبًا أو صديقًا.
لكن لماذا اختفى ذلكَ الشخص وترَك يوليف؟ كان الفضول يتسللُ إلى ذِهنها دونَ توقف.
لكن بالنظر إلى تعبير يوليف الكئيب، كانَ مِنَ الواضح أن الفُراق لم يكُن طيبًا. لذا قررت كانارين أن تطرحَ سؤالًا آخر.
「هل تُساعِدُني بسببِ ذلكَ الشخص؟」
كانت كانارين ابنةُ الزعيم، لذا كانت مشهورةً في القرية. إذا كانَ لدى يوليف معرفة بأحد أفراد قبيلة الهويرا، فلا بُدَّ أنهُ سمِعَ عن كانارين مرّةً واحِدةً على الأقل.
فقط الآن فهِمت لماذا كانَ يوليف قد ساعدها.
“إذا قلتُ ذلك، هل ستثقينَ بي؟”
「حسنًا، إذن دعنا نفعلُ هذا. إذا ساعدني يوليف على العودة إلى مسقط رأسي، فسأُساعِدُكَ في العثور على ذلكَ الشخص. أشعرُ بعدم الارتياح لأنني كأنني أنا الوحيدة التي أتلقى المُساعدة.」
「…ذلك الشخص؟」
「نعم! إذا سألتُ والدتي أو القرويين، قد نتمكنُ مِنَ العثور عليها بشكلٍ مُفاجئ بسهولة.」
لم يردّ يوليف، أصبحَ وجههُ أكثرَ ظُلمة.
ظنت كانارين أنها قد أخطأت في فهمِه. لم تكُن تعرِفُ كيفَ أو لِماذا انفصلا. رُبما هوَ لا يُريدُ مقابلتها.
و بما أنها كانت تُريدُ فِعلَ شيءٍ مِن أجلِ يوليف، تحدثت بسِرعة.
「أعتذر. لا أعرِفُ شيئًا، لكنني أعتقدُ أنني قُلت ما أردتُ قوله… فقط انسَ ما قلته…」
「أُريدُ أن ألتقي بها.」
كانَ صوته هادِئًا لدرجةِ أنهُ بدا كأنهُ غيرَ مبالٍ. و معَ ذلك، شعرت كانارين بِحُزنِه و كأنها تَشعُر بِهِ يتقلبِ في زاويا قلبها.
أحنى يوليف رأسه، لم يكُن مِن المُمكن رؤيةُ تعبيره. فكرت كانارين أنهُ رُبما يكونُ قد بكى.
「هُناكَ أشياء لم أستطِع قولها بعد.」
「دعني أُساعِدُك. حتّى يتمكنَ يوليف من لقاءِ هذا الشخص الذي يعني لكَ الكثير. أنا مُتأكدة أنكَ ستتمكنُ من قولِ ما تِريد لها هذهِ المرة.」
「لا، لا حاجة لذلك.」
نهضَ يوليف، كانت رُكبتهُ منحنية أمامها طوال الوقت.
لم يكُن يبكي. نظرَ إلى كانارين بعينيه المُعتادتين، الجافتين و لكن الودودتين.
「حتّى لو التقينا مرّةً أُخرى، فهُناكَ شيءٌ لا أستطيعُ قوله.」
「إذن أنا… ماذا يُمكِنُني أن أفعلَ مِن أجلِ يوليف؟」
شعرت كانارين بشحوبٍ خفيفٍ. لم تكُن قد غادرت القصر الإمبراطوري بعد و لم تكُن قد عادت إلى قريتها، لكنها كانت تُريد أن تكونَ مُفيدةً جدًا ليوليف. كانت تعتقدُ أنها قد وجدت طريقةً لتكريمه على مساعدتهِ لها…
كانَ يوليف أخًا أصغرً للإمبراطور، و دوقًا، و ساحرًا مُتمكنًا، لذا لم يكُن ينقصهُ شيء. حتّى لو كانَ هُناكَ ما ينقُصه، لم يكُن لدى كانارين ما يُمكِنُها تقديمهُ بمفردها. و كُلما فكرت في ذلك، شعرت باكتئابٍ مُتزايدٍ.
「أنا لا أطلُب منكِ دفَع شيءٍ مُقابِل ذلك.」
「أعلم، لكن هُناكَ مَثلٌ في قريتنا يقولُ إنهُ إذا تلقيتَ معروفًا، يجِبُ عليكَ أن تَرُدهُ مرتين.」
「لم أعتبِرهُ معروفًا.」
بدأت خدودُ كانارين بالانتفاخ كما لو كانت سنجابًا يخزنُ طعامه. نظرَ إليها يوليف بلُطف، و سألها.
「هل يُمكِنُكِ أن تُغني لي أُغنية؟」
「يُمكِنُني الغناءُ لكَ الآن.」
「لاحقًا. كُنتُ فقط أودُ أن أسألكِ إذا كُنتِ تستطيعين.」
「نعم. ليسَ بالأمر الصعب… هل أنتَ حقًا موافِقٌ على ذلك؟」
「سيكونُ كافيًا.」
مالت كانارين برأسها. كانَ مِنَ المُمكِن أن تُغني لهُ عشرات المرات لِترُدَّ الجميل الذي تلقتهُ من يوليف بدلاً من أُغنيةٍ واحِدةٍ فقط. بما أنها ستظلُ معَ يوليف لبعض الوقت، يُمكِنُه أن يطلُبَ منها الغناء في أي وقتٍ يُريد.
و فجأة، اختفت الوحدة.