5
شعر فيسينتي وهو يراقبها بأن شيئًا ما يخدش داخله بلطف، ولم يكن ذلك الشعور محببًا إليه.
“إن كنتِ لا تستطيعين فعل ذلك، فاعتبري أن الأمر لم يكن من الأساس.”
“آه … سأبذل، سأبذل قصارى جهدي.”
أجابت بسرعة بما أراد سماعه خوفًا من تراجعه.
عضت ديلارايلا على شفتيها بقوة وابتلعت شعور المهانة في صدرها.
نهض فيسينتي من مكانه بعد أن ظل يحدق في اضطرابها لفترة. نهضت ديلارايلا هي الأخرى بسرعة، معتبرةً ذلك إشارة للانصراف.
رغم أن هذا هو القصر الملحق، إلا أنها لم تكن تعلم متى قد تأتي جيزيل. فمن المحتمل أن يكون خبر وجودها قد وصل إلى مسامعها بالفعل.
بمجرد تفكيرها في ذلك، شعرت بدوار شديد. وعندما استدارت لتغادر وكأنها تهرب، ترنح جسدها.
“آه! ا-انتظري لحظة.”
اقترب فيسينتي بخطوات واسعة وأمسك بذراع ديلارايلا بيد واحدة وجرها إلى مكان ما.
لم تستطع ديلارايلا مجاراة طول خطواته، فكانت ركبتاها تنثنيان تعثرًا. لا تدري أكان يجرها بهذا العنف لأنها غادرت قبل صدور الأمر، أم لأنها لم تؤدِّ التحية؛ لكن قبضته كانت قوية لدرجة أن عروق ظهر يده الضخمة برزت بوضوح.
سرعان ما سُمع صوت فتح القفل والباب.
شعرت ديلارايلا بأنفاسها تنقطع لا شعوريًا عندما انزلقت قدماها وشعرت بأنها تطفو في الهواء.
وبدلاً من الألم الذي توقعته من القذف بها خارجًا، شعرت بحرارة شديدة تغمر جسدها.
وبدا الأمر أكثر سخونة بسبب خفقات قلبها العنيفة التي كانت تضخ الدماء بجنون إثر شعورها بالسقوط.
لم تستطع ديلارايلا استعادة توازنها وهي مرمية في حوض استحمام مليء بالماء الساخن.
“اغتسلي. لأنكِ قذرة.”
تخبطت بيديها محاولةً التوازن.
اندفع الماء إلى أنفها وفمها وانفجرت في نوبة سعال.
وبدا أن الماء دخل إلى أذنيها أيضًا، إذ صار حتى صوته الجميل يطن في رأسها كضجيج مزعج.
ورغم أن الحوض لم يكن عميقًا، إلا أن شعور الغرق كان مرعبًا.
“هاه … لا، لا …”
استمر سعالها المؤلم وارتجف جسدها بشدة.
كان فيسينتي مرعبًا وهو ينظر إليها ببرود وهدوء بعد أن ألقى بها في الماء وأمرها بالاغتسال.
كان فيسينتي الذي تعرفه صبيًا يمزح ويبتسم بجمال. لم يكن ينظر إليها بهذه القسوة أبدًا، ولم يكن ينطق بكلمات تنهش الروح.
ربما بسبب الماء، شعرت بحرقة في عينيها. حاولت ديلارايلا الخروج ممسكةً بحافة الحوض بيديها المرتجفتين.
“لا تجعليني أكرر كلامي مرتين، ديلارايلا.”
اخترق صوت منخفض وبطيء رأسها المبلل بالكامل. ثم غطت يد ضخمة يدها التي كانت تمسك بالحافة بصعوبة.
وضغطت تلك اليد الباردة فجأة بقوة، قابضةً على يد المرأة النحيلة.
ذُهلت ديلارايلا من هذا التلامس، ولم تستطع سوى رفع عينيها لتنظر إليه بذهول. كانت هذه المرة الأولى التي يمسك فيها يدها.
وعندما تلاقت أعينهما، أزاح فيسينتي يد ديلارايلا عن حافة الحوض بخفة. ومع تركه ليدها المقبوضة ببطء، أحدث الماء تموجات متتالية.
“لقد أخبرتُكِ أن صبري ليس طويلاً، أليس كذلك؟”
تأمل فيسينتي ديلارايلا المذهولة. كانت تبدو مثيرة للشفقة وهي غارقة هكذا. وبدا له من المضحك رؤيتها وهي تحرك أصابعها بارتباك دون أن تدرك كيف يبدو منظرها.
بقي فيسينتي يراقبها لفترة طويلة، ثم خرج بهدوء دون أن يضايقها أكثر. ظنت ديلارايلا أنه سيغلق باب الحمام خلفه بالطبع، لكنه تركه مفتوحًا واختفى عن الأنظار.
لم تستطع ديلارايلا الإفاقة من الصدمات المتتالية. وعندما خفضت رأسها شاعرةً ببلل جسدها، أصابها الذعر. فالقميص المبتل لم يعد يؤدي دوره كقطعة ملابس على الإطلاق.
أطلقت صرخة مكتومة وانكمشت على نفسها بسرعة. لكن مهما انكمشت، لم تستطع إخفاء ما برز من جسدها.
شعرت بحرارة تسري في جسدها كله وهي تتذكر وجه فيسينتي عندما أمسك بيدها.
كان من الواضح أن فيسينتي ينوي السخرية منها وإحراجها. وبالطبع لم يبدُ أنه سيعطيها ملابس لتبديلها. وبعد تفكير وهي منكمشة على نفسها، قررت الانتظار حتى تجف ملابسها قبل الخروج.
وعندما حاولت مغادرة الحوض، قفزت من مكانها ذعرًا برؤية شخص يقف عند الباب. كادت تنزلق وتتحطم، لكن ذلك الشخص اقترب بسرعة وأمسك بها، فمنع سقوطها المهين.
وعندما نظرت عن قرب، وجدت أن من أمسك بها هي الخادمة التي أرشدتها إلى الغرفة. شعرت بنعومة ملمسها وهي تمسك بذراعها لتستند إليها.
“شـ- شكرًا لكِ …”
“لا داعي للشكر.”
أعربت ديلارايلا عن شكرها بتلقائية، دون أن تدرك أن من ساعدتها هي خادمة.
وعندما ابتعدت الخادمة قليلاً، ظهر القماش المعلق على ذراعها.
وما شعرت ديلارايلا بنعومته كان ملابس جديدة ونظيفة.
* * *
بمجرد أن استعاد لوان وعيه، عادت ديلارايلا إلى قصر الكونت ودخلت مكتبه مباشرة. وبدأت في تفتيش ذلك المكان الغريب الذي لم تدخله إلا مرات قليلة في حياتها.
الأدراج، الخزائن، المكتب. لم تجد وثائق ملكية الأرض أو ختم العائلة في أي مكان بحثت فيه.
وقفت ديلارايلا بذهول وسط الفوضى التي أحدثتها الأوراق المبعثرة. لم تجد غرضًا واحدًا يمثل عائلة الكونت. لقد حاولت التشبث بقشة، لكنها كانت قشة متعفنة ومقطوعة.
ربما كان فيسينتي متأكدًا من ذلك بالفعل. إذًا لماذا منحها ذلك الشعور بالإذلال وجعلها تتوسل، ولماذا أعطاها فرصة عديمة الجدوى؟ لم تستطع الوصول إلى إجابة مهما فكرت.
<تعالي لتقديم تقرير مرة كل يومين. ولستِ بحاجة لأن أخبركِ إلى أين تأتين>
كانت تلك كلمات فيسينتي التي استوقفتها قبل مغادرتها.
لم يكن هناك مكان تلتقي به سوى القصر الملحق الذي كان محبوسًا فيه منذ القدم. لكن القصر الإمبراطوري بحد ذاته لم يكن مكانًا يُسمح لديلارايلا بالدخول إليه.
ظنت أن منحه الفرصة لها كان لمجرد مضايقتها. لكن فيسينتي، الذي لا يعلم بوعدها لجيزيل، لا يمكن أن يفعل ذلك لهذا السبب.
لم تكن ديلارايلا عاجزة عن فهم مشاعر فيسينتي؛ فهي من تركته وحيدًا في القصر.
كان فيسينتي يعيش حياة تشبه السجن في ذلك القصر الملحق.
ظنت ديلارايلا آنذاك أن فيسينتي ممنوع من الخروج فقط لإخفاء وجود ابن غير شرعي للعائلة الإمبراطورية. لكن الحقيقة كانت لإخفاء الأفعال القاسية التي تُمارس تحت مسمى ‘تعليم الوريث’ لجعله الإمبراطور القادم.
في كل مرة كان يصل فيها فيسينتي إلى القصر الملحق متأخرًا عن ديلارايلا، كان يأتي بوجه متعب للغاية وجروح جديدة في أماكن لا تغطيها الملابس.
ورغم معرفتها بتلك الحقائق، إلا أنها هجرته من أجل العيش.
كان من الطبيعي أن يعاملها فيسينتي بهذه القسوة في هذا اللقاء، ولم تستطع ديلارايلا رفع وجهها من شدة الشعور بالذنب.
التهديد الذي وجهته جيزيل، التي أصبحت الإمبراطورة، كان لا يزال يقيد ديلارايلا حتى الآن.
ضغطت ديلارايلا على عينيها بظهر يدها.
كان من الصعب عليها تحمل كل هذه الكوارث المتلاحقة. لذا حاولت تحريك جسدها دون تفكير؛ فشعرت أنها ستختنق في الهاوية إن بقيت ساكنة.
كان عليها العثور على مارسيل. فالأماكن التي يرتادها رجل طماع مثله واضحة.
لم تتردد ديلارايلا وتوجهت بنفسها إلى المكان الذي لم تكن ترغب في الذهاب إليه أبدًا.
كانت هذه المرة الأولى التي تأتي فيها إلى هنا في وضح النهار. لم يكن للكآبة المسائية أي أثر.
توجهت ديلارايلا إلى النادي الذي كان يفضله مارسيل ويرتاده باستمرار. وبما أن ملامح وجهها تشوهت تلقائيًا كالعادة، فقد تأكدت أنه هو المكان ذاته الذي كانت تأتي إليه دائمًا، رغم اختلاف الأجواء.
دفعت الباب الذي كان يتسرب منه دائمًا ضوء مشوّه في الظلام. وخلافًا لقلقها من أن يكون مغلقًا في وقت مبكر، فُتح الباب بسهولة.
فُتح الباب الزجاجي بخفة، لكن الداخل كان هادئًا.
وقفت ديلارايلا مترددة في الردهة الكبيرة التي تفوح منها رائحة خفيفة من المهلوسات. رأت بعض الأشخاص في الزوايا، لكن كان من الصعب عليها التقدم نحوهم.
سارت ديلارايلا بهدوء وتحدثت إلى أقرب شخص إليها.
“عفوًا … هل جاء الكونت مارسيل إيرلي إلى هنا مؤخرًا؟”
“هاه؟ الكونت مارسيل؟ لم أره منذ مدة. من أنتِ لتبحثي عن الكونت مارسيل هنا؟”
فتحت امرأة، يضيق صدرها الكبير داخل ملابسها، عينيها بدهشة نحو مصدر الصوت.
تفحصت ديلارايلا بسرعة وكأنها ترى شخصًا غريبًا. ثم أصبحت حادة الملامح بمجرد سماعها لاسم لم يكن من المتوقع أن يخرج من بين شفتين صغيرتين كهاتين.
“… الكونت مارسيل هو والدي.”
ضيقت المرأة عينيها وهي تقيم ديلارايلا، ثم نقرت على شفتيها بسبابتها. ابنة مارسيل؟ إذًا—
“آه! حظ مارسيل!”
عضت ديلارايلا على لحم فمها الرقيق فور سماعها لذلك اللقب الذي توقعته منذ أن بدأت المرأة بالتفكير.
لقد وصل بها الحال إلى أن تسمع هذا الكلام حتى من شخص لا تعرفه؛ كان وضعًا مضحكًا ومبكيًا في آن واحد.
“لماذا تبحثين عن والدكِ؟ ألا يعود للمنزل؟”
“…….”
“يا إلهي! كنت أعلم منذ أن بدأ يقترض المال ويقامر طوال الوقت. لقد هرب في النهاية، هرب فعلاً.”
بحثت المرأة في حقيبتها وأخرجت سيجارة ووضعتها في فمها، وتحدثت وكأن هذا الموقف كان متوقعًا تمامًا.
بدا أن سمعة مارسيل كانت معروفة في هذا الوسط. لم تجد ديلارايلا ما ترد به، فتقبلت كلمات الاستهزاء الموجهة لوالدها بصمت.
“… شكرًا لكِ على وقتكِ.”
“آه، ليس هنا، اخرجي وانعطفي عند الزاوية اليمنى، هناك مكان يدعى ‘هورن’، اذهبي إلى هناك”
“حسنًا …”
“همم. استعدي جيدًا من الناحية النفسية”
تسمرت ديلارايلا مكانها وهي تهم بالانصراف عند سماع هذه الكلمات الإضافية والسيجارة لا تزال في فم المرأة.
هزت المرأة كتفيها وأشارت بيدها لتستعجلها بالذهاب.
كان ‘هورن’ مكانًا تسمع عنه لأول مرة.
وعندما التفتت قبل مغادرة المحل، شعرت بالريبة من مظهر المرأة التي كانت تلوح بيدها بابتسامة تشبه القناع.
ومع ذلك، وبسبب فكرة العثور على مارسيل، حركت ديلارايلا قدميها الثقيلتين.
وعندما وصلت إلى نهاية الزاوية، نظرت إلى ما وراء الزقاق.
أثارت المحلات المتراصة في الزقاق الضيق شعورًا بالكآبة.
ورغم جهل ديلارايلا بأمور العالم، إلا أنها استطاعت تخمين نوع المحل الذي يمثله ‘هورن’.
التعليقات لهذا الفصل " 5"