4
تفوَّهت ديلارايلا بكلمات غير مترابطة بعد أن فقدت قدرتها على التفكير المنطقي.
وبدت وكأنها نسيت وضعها تمامًا، حيث قالت كلامًا فارغًا عن رغبتها في مقابلة مارسيل، الذي هجر العائلة ورحل.
“وإذا قابلتِهِ؟ هل ستأتين بدليل على أنه لم يبع اللقب مثلاً؟”
“نعم … نعم، سأفعل ذلك!”
“ولماذا عليَّ الموافقة؟”
“… ماذا؟”
انفجر فيسينتي ضاحكًا فجأة وهو ينظر إلى ديلارايلا التي بدت فاقدة لصوابها. وبدا لسبب ما مستمتعًا ومنتعشًا للغاية.
“لماذا يتعين عليَّ تلبية طلبِ خائنةٍ مثلكِ؟”
“آه …”
كانت كلماته كمن سكب الماء البارد فوق رأسها. لم تستطع ديلارايلا التفكير في أي رد.
كان ينبغي لها أن تنطق بأي شيء كما فعلت قبل قليل، لكن تعابير ولي العهد الساخرة ونبرته جعلتها عاجزة عن استحضار أي كلمة.
“الكونت الصغير سيُعدم، والآنسة ستُنفى. هناك طريقة نظيفة وسريعة، لذا سألتُكِ عن السبب الذي يدفعني لتجشُّم هذا العناء.”
“هذا، هذا لأنَّ …”
قبضت ديلارايلا يدها فقط إثر الضغط الذي شعرت به من فيسينتي القريب منها. كانت أفعالها، ونظراتها، وحتى إجاباتها، كلها تحت سيطرة هذا الرجل.
“أليس من الوقاحة أن تطلبي فرصة دون تقديم أي مقابل؟”
كانت كلمات فيسينتي كسكين حادة تمزق قلب ديلارايلا.
ارتجفت شفتاها من كلماته التي كانت توبخ سلوكها. وأحنت رأسها تلقائيًا خجلاً من تلك المشاعر التي انتفخت بداخلها ولو قليلاً لمجرد رؤية فيسينتي مجددًا.
“أنا، ماذا عليَّ أن أفعل …”
ازدادت ابتسامة فيسينتي عمقًا وهو يرى المرأة تغرس أظافرها في الأرضية الحجرية.
شهق الواقفون بجانب ولي العهد من هول المنظر؛ إذ هبط الهواء حولهم فجأة بسبب التعبير الغريب على وجه ذلك الرجل القاسي.
“هل عليَّ أن أعلمكِ حتى أشياء كهذه؟”
تغيرت نبرة فيسينتي الحادة لتصبح هادئة وتحمل نبرة ضحك.
“هناك جملة لا يمكنكِ قولها لي أبدًا، أليس كذلك؟”
شعر ذهن ديلارايلا بالخدر من صوته المليء بالدعابة. لم تكن تفهم ما يرمي إليه، فاكتفت برمش عينيها الغارقتين بالدموع.
<لا أريد تلقي مساعدتكَ يا فيسينتي>
فجأة، دوّى صدى صوتها من مكان ما.
في ذلك اليوم الذي رفضت فيه مساعدته وهربت. الكلمات الأخيرة التي قالتها لفيسينتي تدفقت الآن كحجر أُلقي في مياه راكدة فأحدث اضطرابًا.
كانت تلك الكلمات بقايا حماقة كتمتها في أعماق قلبها.
خرجت منها ضحكة يائسة. كان من الواضح أن فيسينتي اختار كلماته عمدًا لينهش روحها. وكأنه يبتلع كل لحظة لم ينسها فيها.
كان التوسل لطلب المساعدة يثير بداخل ديلارايلا شعورًا بالخزي. وخاصةً إذا كان الأمر متعلقًا بفيسينتي. لهذا السبب هربت منه آنذاك؛ لأنها كانت حمقاء وعنيدة، ولأنها أرادت أن تترك له ذكرى طيبة فقط.
ديلارايلا، التي لم تطلب شيئًا من أحد طوال حياتها، تجمد جسدها من الخزي لأنها مضطرة لقول الكلمات التي لم ترد قولها أبدًا، وللرجل الذي لم ترد أن تظهر أمامه بهذا المظهر أبدًا.
أرادت حك الندبة المحفورة كوشم على معصمها، لكن عينيه الحمراوين لم تفارقها؛ فبدأت بدلاً من ذلك بخدش الأرضية الحجرية الصلبة.
تشوهت تعابير وجه ديلارايلا تدريجيًا وهي عاجزة عن استعادة توازنها من كلماته.
أما فيسينتي، فقد ضغط عليها لتتوسل إليه وهي تضع أمن عائلتها بين يديه.
لو كانت هي الوحيدة المقبوض عليها هنا، لما نطقت بتلك الكلمات أبدًا. لكنها لم تستطع التضحية بشقيقها المريض من أجل كبريائها.
“… أعطني، أعطني فرصة …”
لم تستطع كلمة “ساعدني” الخروج من فمها. سقطت دموعها بغير إذن؛ ولم تكن ديلارايلا تعرف إن كانت تلك الدموع بسبب خيبة أملها فيه، أم بسبب وضعها الذليل.
بدأ لون الأرضية الحجرية يتغير بسبب قطرات الدموع المتساقطة.
شعرت بالغرابة من نفسها وهي تنتظر رد فيسينتي الذي منحها هذا الخزي. خافت من ألا يعطيها فرصة، أو أن يطردها بقسوة. شعرت وكأن آخر ذرة من كبريائها تتلاشى تمامًا.
لكن فيسينتي لم يمنح ديلارايلا إذنًا بسهولة.
رفعت ديلارايلا عينيها المتسعتين وشعرت وكأن ضحكة يائسة ستخرج منها.
لم يكن هناك أي دفء في تعابير فيسينتي.
عضت ديلارايلا شفتيها وتوسلت.
“أرجوك … يا صاحب السمو ولي العهد. تلطف بي وارحمني … سأفعل أي شيء، أي شيء تريده …”
رفعت ديلارايلا رأسها وحاولت رسم ابتسامة.
متوسلةً بتلك الأيام السعيدة لتكسب قلب فيسينتي. لكن، وخلافًا لما أرادت، لم تكن الابتسامة سلسة. فالدموع العالقة في عينيها المشوهتين لم تكن تتناسب مع الابتسامة المرسومة على فمها.
“بما أنكِ تجيدين فعل ذلك، لماذا لم تفعلي من قبل؟”
لمس فيسينتي يدها المستندة إلى الأرض بيده ساخرًا. ثم نظر إلى المرأة التي يغطيها ظله بالكامل ورسم ابتسامة جميلة.
الرجل الذي ابتسم لأول مرة منذ عشر سنوات، بدا عليه رضاءٌ أعمق من أي وقت مضى.
نظرت ديلارايلا إلى ذلك المنظر بعينين مهتزتين، واجتاحها خوفٌ مجهول السبب.
“حسنًا يا ديلارايلا. سأعطيكِ فرصة.”
* * *
بدا أن كلامه عن منحها فرصة كان حقيقيًا، إذ خرجا ديلارايلا ولوان بسلام من ذلك المكان المرعب.
بل إنه خصص غرفة في القصر الملحق من أجل لوان الفاقد للوعي. لقد كلف توسل ديلارايلا ثمنًا باهظًا جدًا.
تلك الغرفة التي استبدلتها ببؤسها لم تكن مكانًا غريبًا.
وكأن هذا المكان وحده لم يتأثر بمرور الزمن، فقد كان كل شيء كما كان قبل عشر سنوات. لم يتغير شيء لدرجة أنها كانت تعرف مكان كل غرض حتى لو أغمضت عينيها. حتى الزهور الذابلة الموضوعة في المزهرية كانت كذلك.
نظرت ديلارايلا إلى الزهور الجافة وعضت لحم فمها الرقيق.
لم تستطع فهم نيته من عدم التخلص منها حتى الآن.
كانت تلك هي الزهور التي قطفتها ديلارايلا سرًا من الحديقة من أجل ذلك الصبي الذي لم يكن يستطيع الخروج آنذاك.
“آنسة، لقد استدعاكِ صاحب السمو.”
بينما كانت تحدق في تلك الأشياء، سمعت صوتًا مهذبًا.
أمسكت ديلارايلا بقميصها الملطخ بالدم عند سماع الكلمات من وراء الباب. كان القماش القديم يشفُّ عن بشرتها في مواضع متفرقة. ولم تكن تتذكر حتى أين سقط شالها.
وبما أنها قُبض عليها كخائنة، لم يكن بإمكانها طلب شيء لترتديه، فاكتفت بفرك ذراعيها العاريتين.
لقد رآها بالفعل، لذا كان قلقها بلا جدوى.
عندما فتحت الباب، نظرت امرأة في منتصف العمر إلى ديلارايلا للحظة ثم سارت أمامها في الممر. وتوقفت في مكان ليس ببعيد وانحنت.
“يمكنكِ الدخول إلى الداخل.”
أمسكت بمقبض الباب بناءً على توجيهات الخادمة المهذبة، لكنها لم تكن ترغب في فتحه. لم يمر وقت طويل على ذلك الإذلال … وكان من الطبيعي ألا ترغب في مواجهة وجهه.
فركت ديلارايلا عينيها المتعبتين ودخلت.
تشتتت رؤيتها للحظة بسبب ضوء شمس بداية الصيف المتسرب من النافذة الكبيرة. أغمضت عينيها المحمرتين ثم فتحتهما، لتلمح رجلاً يسقط عليه الضوء بشكل مائل.
كان فيسينتي، الذي كان يطغى بحضوره على كل الزخارف الفاخرة المحيطة به.
شعر فيسينتي بحركتها فرفع عينيه فقط ونظر إليها.
تلك العينان الحمراوان اللتان كانت تشعر ذات يوم بأنهما تلمعان كالجواهر، بدتا الآن وكأنهما تمزقان لحمها. شعرت بدغدغة في جلدها فضمت كتفيها.
سرعان ما سحب نظرته المؤلمة. بدا مستمتعًا قبل قليل، لكنه الآن بلا تعابير تمامًا.
كان يجلس على الأريكة واضعًا ساقًا فوق الأخرى كتمثال. لم تكن تعلم أن التعامل مع شخص بلا تعابير صعبٌ إلى هذا الحد.
“تعالي إلى هنا.”
أشار فيسينتي بيده إلى ديلارايلا التي كانت تقف عاجزة عن التصرف.
نقلت قدميها، اللتين لم ترتديا حذاءً واحدًا بشكل صحيح، بتردد. ظلت تتردد لفترة طويلة وهي تتساءل إن كان يقصد الجلوس على الأريكة أم لا.
“أردتُ التأكد من بعض الأمور.”
بمجرد أن جلست ديلارايلا على حافة الأريكة، قال فيسينتي كلمات غامضة وكأنه قطع سياق الحديث. بدا عليه الملل قليلاً من هذا الموقف.
“ماذا ستفعلين إذا قابلتِ مارسيل وتأكدتِ من أنه باع اللقب لأولئك الخونة؟”
بصراحة، لم تكن تعرف. وبدقة أكثر، لم تكن تملك الثقة.
الكلمات التي تفوهت بها عشوائيًا لإنقاذ لوان، هل كانت تحمل أي فكرة وراءها؟ الآن وقد هدأ عقلها، أدركت أنه كان طلبًا سخيفًا.
وإذا سُئلت إن كانت تثق بمارسيل … حسنًا، الإجابة هي لا.
فمن الصعب عقد أي أمل على رجل باع حتى مقتنيات والدتها الراحلة.
“… إذا حدث ذلك، فسأتقبل أي عقاب بصدر رحب. وعاقبني أنا بدلاً من شقيقي أيضًا.”
الكلمات التي يمكن قولها في هذا الموقف محدودة. وأي شيء ستقوله لن يكون مقنعًا.
كان الركوع والتوسل أمامه مرة واحدة كافيًا، وقد حصلت على الفرصة بذلك. كان عليها حماية لوان أولاً، وبعد ذلك لا يهم ما سيحدث لها.
“أي عقاب؟”
“نعم …”
المرأة التي كانت تهذي بكلام غير منطقي قبل قليل، أصبحت هادئة فجأة.
وبدأت تخفض رموشها وتتجنب النظر في عينيه، وكأنها تفكر في شيء ما مجددًا.
التوى طرف فم فيسينتي قليلاً؛ لقد بدأت تثير أعصابه مرة أخرى.
“صبري ليس طويلاً إلى هذا الحد. نصف شهر يكفي، أليس كذلك؟”
“هذا، هذا ضيقٌ جدًا …”
تصلبت وجنتا المرأة مرة أخرى وتحركت شفتاها ببطء.
وبدا عدم ثقتها بنفسها واضحًا تمامًا.
لاحظ فيسينتي ذلك الخط الأحمر المرسوم على وجنتها البيضاء الناعمة. لم يكتفِ بالنظر إلى وجنتها، بل جالت عيناه على يدها الصغيرة وملابسها الباهتة التي ترتديها.
شعر بشعور غريب وهو يرى القماش الخفيف الذي يشف عن جسدها ووجهها المليء بالخوف.
التعليقات لهذا الفصل " 4"