2
سارت ديلارايلا وحيدة في طريق الليل المظلم، ولم تسترخِ قواها إلا بعد أن أغلقت باب القصر خلفها. استندت بظهرها إلى الباب المغلق وانزلقت بجسدها نحو الأرض، ثم دفنت وجهها بين يديها المرتجفتين.
كل يوم هو استمرار للأيام التعيسة، لذا لم يكن هناك ما يدعو للاستغراب؛ فالأمس واليوم وغدًا سيكونون دائمًا على النمط ذاته.
ورغم أنها كانت تحاول الصمود عبر إقناع نفسها بذلك، إلا أن النحس الذي يطاردها يوميًا كان يمنحها ألمًا جديدًا.
متى سيأتي الوقت الذي تصبح فيه متبلدة تجاه التعاسة؟
مهما بحثت، لم تجد إجابة لهذا السؤال.
استعادت ديلارايلا توازن أنفاسها بين كفيها، ثم نهضت لترتب تعابير وجهها وهندامها.
أنزلت مقبض الباب ببطء حتى لا توقظ صاحب الغرفة الأولى في الطابق الثاني الذي كان لا يزال نائمًا.
انتشر ضوء خافت وطويل ليصل إلى وجه الصبي الذي كان يغط في نوم عميق فوق السرير.
أغلقت ديلارايلا الباب تاركةً بصيصًا من الضوء فقط، ثم اقتربت من السرير.
فتحت درج الطاولة المجاورة للسرير وبدأت بعدّ أكياس الدواء. ولم تهدأ إلا بعد أن أحصتها بدقة؛ ولحسن الحظ، كانت الكمية تكفي حتى بعد غد.
بدأت كل هذه الكوارث بعد عامين ونصف من سفر ديلارايلا للدراسة في مدرسة كاسلي للبنات.
كان خبر مرض والدتها، التي كانت بصحة جيدة قبل سفرها، هو الدافع للعودة. لم تكن تستطيع تجاهل حالة والدتها التي كانت تسوء يومًا بعد يوم.
<أليس من الطبيعي أن تعتني بوالدتكِ وأنتِ الابنة الكبرى؟ هل تهمكِ تلك الدراسة التافهة أكثر من والدتكِ المريضة؟>
عندما تركت كل شيء وعادت إلى المنزل، وجدت طفلًا رضيعًا لم يتجاوز العام الواحد. تجمدت ديلارايلا في مكانها فور التقاء عينيها بعينيّ الطفل الصغير.
<إنه شقيقكِ، لوان. عليكِ الاعتناء بهذا الطفل أيضًا، فهو الطفل الذي عانت كاثرينا لإنجابه>
حدث هذا عندما كانت ديلارايلا في السادسة عشرة من عمرها فقط. فبينما كانت غائبة عن عائلة الكونت من أجل دراستها، كانت الأمور تتغير جذريًا.
كاثرينا، زوجة الكونت التي كانت شامخة ومقربة من العائلة الإمبراطورية، فقدت حيويتها، ووجدت ديلارايلا نفسها مضطرة للاعتناء بأخ صغير لم تسمع حتى بخبر ولادته.
<بما أن كاثرينا طريحة الفراش هكذا، فعليّ أن أبذل قصارى جهدي ليحافظ قصر الكونت على مكانته. لذا، عليكِ يا ابنتي الكبرى الاعتناء به جيدًا. هذا الأمر يعتمد عليكِ وعليّ، أفهِمتِ؟>
أمسك مارسيل بكتفي ديلارايلا الصغيرتين وهو يغرس هذه الفكرة بداخلها بقوة. لم يكن أمام ديلارايلا المذهولة سوى هز رأسها بالموافقة.
والدة مريضة، شقيق صغير، شعور بالاغتراب، والمسؤولية كابنة كبرى … كان ذهنها مشوشًا. وكان تقبُّل ضغط والدها أسهل بكثير من محاولة فهم الموقف.
ظنت أنها إذا اعتنت بعائلتها بصدق وإخلاص، فستتمكن من العودة لحياتها السابقة. لكن كاثرينا لم تكمل خمس سنوات حتى صارت حفنة من الرماد.
وكان ذلك في الوقت الذي بدأ فيه شقيقها لوان، البالغ من العمر خمس سنوات، يعاني من سعال حاد.
وحتى الآن، بعد مرور أربع سنوات، لم يتوقف سعال لوان، مما يتطلب تناول الدواء بانتظام.
أزاحت ديلارايلا خصلات الشعر عن جبين لوان النائم برفق.
لم يتبقَ من أثر كاثرينا في قصر الكونت سوى لوان؛ وكانت ترغب في حماية هذا الطفل وحده.
* * *
طاك—!
ارتجفت جفون ديلارايلا التي كانت في غفوة خفيفة وفتحت عينيها إثر صوت الباب الذي فُتح بعنف وكأنه سيتحطم.
أقد عاد والدها؟ بدا أنه في حالة مزاجية سيئة للغاية بعد أن قضى يومًا كاملاً في الخارج؛ وزاد الأمر سوءًا بلا شك مغادرة ديلارايلا لصالة القمار دون إذن.
كانت تعلم أنه إذا لم تخرج لاستقباله، فسيملأ صراخه القصر، لذا ارتدت شالها المهترئ وخرجت إلى الممر.
صرير— ، صرير—
أصدرت الأرضية صوتًا يثير القشعريرة، وكأنها صرخة غريبة تقبض على قدميها.
توقفت خطواتها المتجهة نحو الدرج فجأة. لم تكن تعرف لماذا توقفت؛ هل هو الشعور بالغرابة من الضوء الخافت المتصاعد من الأسفل؟
بدا وكأن ضوءًا أحمر متذبذبًا ورائحة دخان خانقة تتصاعدان.
غيّرت ديلارايلا وجهتها عن الدرج وسارت نحو غرفة لوان؛ فغرفته كانت تلي الدرج مباشرة. زادت من قوة خطواتها التي كانت هادئة وأسرعت في المشير.
وفي اللحظة التي مرت فيها بجانب الدرج، نظرت للأسفل وكأن شيئًا جذبها.
“ممم …!”
كممت يد معدنية برزت من الخلف فم ديلارايلا.
وفي الوقت ذاته، اتسعت عيناها بذهول؛ ليس بسبب تكميم فمها، بل بسبب مجموعة الرجال الضخام الذين تجمعوا في الردهة.
جالت ديلارايلا ببصرها في كل مكان بجزع، وتجمد جسدها؛ إذ بدت السيوف اللامعة والنيران المتوهجة وكأنها ستبتلع المكان في أي لحظة.
“فتشوا القصر بالكامل”
صدر أمر بصوت منخفض من فوق رأسها، فالتوت ديلارايلا بجسدها بعنف.
ورغم أنها لا تعرف الكثير، إلا أنها أدركت أن هؤلاء هم فرسان الإمبراطورية؛ ولا يمكن للفرسان أن يقتحموا المكان في وقت كهذا لسبب جيد.
كان عليها أن تترجاهم، بمجرد أن يحرر الرجل يده عن فمها، ألا يؤذوا شقيقها مهما كان السبب.
“ابقِ هادئة.”
أمرها الرجل الذي يكمم فمها بكلمات مهذبة. ومع ذلك، كافحت ديلارايلا للإفلات.
وزاد الرجل من قوة قبضته أمام مقاومة المرأة المستمرة.
“آه …”
كانت القوة شديدة لدرجة أن وجهها كاد يتحطم.
شعرت بحرارة في وجنتها، وكأن الجزء الحاد من القفاز المعدني قد جرح جلدها.
استندت ديلارايلا إلى صدر الرجل ولم تستطع سوى رفع عينيها للنظر إليه؛ لكنها لم تلمح سوى جرح عند زاوية فمه.
لم تشعر حتى بتلك الشجاعة التي شعرت بها تجاه الرجل الذي حاول الإعتداء عليها في صالة القمار؛ بل شعرت بأنها مسحوقة تحت وطأة الهيبة المنبعثة من خلف ظهرها.
“لا أثر للكونت مارسيل، يا سيد فالدن”
“هل هذا الطفل هو الكونت الصغير؟ حسنًا … هذا سيكون كافيًا لإرضائه.”
سمعت ديلارايلا صوتًا آخر فنظرت للأمام. كان هناك رجل يحمل شخصًا فوق كتفه كأنه طرد؛ لقد كان لوان.
عند رؤية شقيقها الذي لا يتحرك، لم تعد تشعر حتى بألم تمزق لحمها.
نظر فالدن لبرهة إلى ديلارايلا التي عادت للمقاومة، ثم صرف نظره سريعًا.
وبدا أنها على وشك فقدان الوعي بسبب أنفاسها المتسارعة، دون الحاجة حتى لضربها لإفقادها الوعي.
* * *
عندما استعادت وعيها، وجدت نفسها جاثية في مكان بارد تفوح منه رائحة زفر لزجة.
كانت حركتها مقيدة بسبب حذاء عسكري يضغط على يديها المقيدتين خلف ظهرها.
كان لوان مستلقيًا بجانبها يتنفس بضعف؛ وبدت أنفاسه الدافئة التي تلامس ساقها وكأنها ناتجة عن حمى شديدة.
“اتركوه، اتركوه من فضلكم!”
رغم أن جسدها كان باردًا كالثلج، إلا أن أنفاسها البيضاء كانت تظهر مع كل كلمة.
نظرت ديلارايلا، التي لم تستسلم لضغط القوة الممارس عليها، إلى الأمام بعناد.
لم تستطع عيناها الغارقتان في الرعب رؤية الواقع بوضوح؛ فرغم وجود مشاعل مثبتة في أماكن متفرقة من الحائط، إلا أنها لم تستطع رؤية الواقفين في البعيد.
رأت فقط بعض الأشخاص الواقفين وشخصًا جالسًا في المنتصف؛ أما البقية فكانوا ضبابيين.
سقط رأس ديلارايلا المرفوع ببطء عندما شعرت برطوبة عند ركبتيها.
“آه …!”
كان دم مجهول يتسرب إلى قميصها المتسخ. وفي نهاية الخيوط الحمراء، كان هناك قماش أبيض يغطي شيئًا ما بإهمال؛ لقد كان مصدر الرائحة التي تزكم الأنوف.
أحنت ديلارايلا رأسها بسرعة، وشعرت بالقرف من اللعاب الذي تجمع في فمها.
لماذا حدث هذا …؟ أنا، فقط …
انفجرت في البكاء—لقد وصل كبرياؤها، الذي تآكل عبر السنين بسبب تصرفات مارسيل، إلى الحضيض.
كان هذا الموقف فوق طاقة تحمل ديلارايلا التي لم تكن تذرف الدموع عادةً.
“ديلارايلا ولوان من عائلة الكونت إيرلي.”
نادى صوت هادئ الأسماء مع صوت فتح شيء ما. لكن ديلارايلا لم ترفع رأسها المنحني نحو الأرض.
“أجيبا.”
دوّى الصوت المليء بالضغط في الفضاء الفارغ.
نظر فالدن لبرهة إلى الشخصين اللذين لم يجيبا حتى النهاية، ثم حول نظره إلى الورقة التي بيده.
وبدأ يقرأ المكتوب بنبرة خالية من المشاعر، وكأنه لا يهمه إن أجابا أم لا.
“بسبب الجريمة النكراء المتمثلة في المشاركة في الخيانة العظمى، يُحكم على وريث عائلة إيرلي بالإعدام.”
بدا وكأن قلب ديلارايلا، التي كانت تبكي بصمت ووجه جامد، قد توقف فجأة.
انفتحت شفتاها المطبقتان قليلاً، لكن لم يخرج أي صوت؛ شعرت بضيق وكأن شخصًا ما يمسك بعنقها.
“أما البقية، فيُنفوْن إلى الشمال.”
جفت الدموع التي كانت تملأ عينيها الرماديتين؛ بل شعرت وكأن كل سوائل جسدها قد تبخرت. كان رأسها يطن.
لقد أعطاها الإجابة عن سبب جرها هي وشقيقها إلى هنا، لكن الكلمات لم تُستوعب بل تلاشت.
خيانة؟
لا يمكن أن تكون هناك كلمة لا تليق بعائلة الكونت أكثر من هذه. رددت ديلارايلا الكلمة بحركة شفتيها، ثم رفعت صوتها لتدافع عن نفسها بوجه مشوه من الألم.
“لا … هذا ليس صحيحًا! لا بد أن هناك سوء تفاهم …”
انقطع نَفَسها بسبب موجة الغضب المفاجئة التي اجتاحتها.
لو كانت يداها حرتين، لضربت صدرها بقوة. لم تستطع ديلارايلا إكمال دفاعها، فانكمشت على نفسها وهي تحاول التقاط أنفاسها بلهفة.
عليها أن تقول إن هذا غير صحيح. أن تقول إنه سوء تفاهم، وأن عائلتها ليست من النوع الذي يرتكب الخيانة.
عائلة إيرلي التي لا تملك مالاً وفقدت كل شرفها؛ لا يمكن أن ترتكب خيانة …
وبينما كانت ترفع وجهها لتتحدث، أُمسِكَت وجنتاها بكفين باردين ورُفعتا للأعلى.
لم تكن الرؤية واضحة لديها، فلم تستطع رؤية الشخص الواقف بالقرب منها.
بدأ الرجل يداعب الجرح الموجود على وجنة ديلارايلا بإبهامه برفق، وكأنه يمسح خدشًا في قطعة يملكها.
“لماذا توقفتِ عن الكلام.”
رأت من خلال رؤيتها الضبابية شفتين جميلتين تنطقان بكلمات ناعمة؛ بدا وكأنه يبتسم، أو كأنه يحاول كتم ضحكته.
انجذبت ديلارايلا لذلك الصوت المنخفض فتمتمت؛ كان توسلاً يمزق القلب، تقول إنه سوء تفاهم، وتترجاه أن ينقذ شقيقها على الأقل.
استمع الرجل لحديثها بهدوء وهو يمسك بوجنتها؛ كان إحساسًا مألوفًا جدًا بالنسبة لديلارايلا.
«إذا لم تأتِ أنتِ أيضًا ، فقد أموت. فأنا محبوس هنا ولا أستطيع الذهاب إلى أي مكان كما أريد»
ذلك الصوت الرقيق الذي يشتكي و هو يستند إلى كتفها ، و تلك اليد الناعمة التي تمسك بوجنتها كالعادة ؛ كانت ذكريات ثمينة لا يمكن لديلارايلا نسيانها مهما حاولت.
التعليقات لهذا الفصل " 2"