8
-الزهرة المسمومة-
“بالطبع أعرفها. لقد كانت واحدة من المواد الخام التي كان والدي يعمل على تطويرها لمستحضرات التجميل. لكن يجب التعامل معها بحذر شديد.”
“هل لي أن أسألك عن السبب؟”
“لها تأثير مدهش، فهي تجعل البشرة الباهتة أكثر بياضًا ونعومة ولمعانًا. لكن المشكلة ليست هنا، بل في صعوبة زراعتها. زهرة هيلناميليا لا تنمو إلا في تربة نُثِر عليها مسحوق كامون المعدني، لكن الكامون مادة سامة للبشر.”
“إذن لا بد من تنقية السم قبل أن تصبح صالحة للاستعمال.”
“صحيح. لا تزول سمومها إلا بعد تكرار عملية التكرير عشرات المرات، وعندها فقط تصبح آمنة. إنها مرهقة في التحضير، لكنها بالمقابل تعطي نتائج مذهلة.”
وكان كلام آنا صحيحًا. فزهرة هيلناميليا غير المكررة تحمل سُمًّا قاتلًا. وبما أن ليليانا لم تكن قد بدأت بعدُ مشروعها في مستحضرات التجميل، فلم يكن يعرف بوجود هذه الزهرة سوى القليلين. غير أنه، في المستقبل، ستُحدث مستحضرات تجميل مصنوعة من هذه الزهرة، والممزوجة بقوة القداسة المنسوبة إلى “القديسة”، عاصفة اجتاحت الإمبراطورية بأسرها.
لكن الكارثة كانت أن ليليانا وشيرك، اللذين لم يعرفا طريقة التصنيع الصحيحة، استخدما نساء الأحياء الفقيرة والأيتام كفئران تجارب لمستحضرات غير مكتملة.
معظمهم أصيب بمرض غريب أذاب بشرتهم، مرض لم يجد له أحد تفسيرًا. وعندما انتشر الخبر إلى الإمبراطور إيموس، اعتقد أنه وباء قذر نشأ في الأحياء الفقيرة، فأمر بحرق جميع المصابين أحياء.
مات الكثير من الأبرياء، ولم يجرؤ أحد حتى على تخيل أن السبب هو مستحضرات التجميل الخاصة بالقديسة، إذ إن سمعة ليليانا كانت راسخة لا تهتز.
قالت كلير بهدوء قاتم:
“شيرك… سمعت أنه بدأ مشروع مستحضرات التجميل. وهذه المرة بدعم مباشر من ليليانا.”
“ماذا؟! مـ، ماذا تقولين؟!”
“بل وأكثر من ذلك… عائلتنا، آل لوبيوس، ستدعم ليليانا بكل قوتها.”
كيف يمكن أن يتجاهل ديريتش، وريث العائلة وعمادها، مشروعًا يَعِدُ بضجة كبرى في المجتمع الراقي، ما دامت “القديسة” تقف وراءه؟
تجمدت آنا للحظة. تلك الكلمات كانت تعني أن وراء الرجل الذي دفع بوالدها إلى الموت تقف ليليانا، ومعها دعم قصر الكونت بأكمله. أصاب أصابعها ارتجافٌ لم تستطع السيطرة عليه، وانطلق من فمها أنين مكبوت. عندها تساءلت بمرارة: لماذا جاءت كلير إليها إذن؟ ألتسخر منها بعد أن باعت نفسها كجاسوسة لليليانا؟
وجهت آنا نظرات حادة إلى كلير.
“لا داعي لكل هذا التوجس. جئت لأنني أريد مساعدتك، آنا… مساعدتك في انتقامك.”
“لكن… آنستي كلير، هذا لا يعنيك. ما علاقتك بالأمر؟”
“بل يعنيّني. أنا أيضًا أملك دينًا عليهم يجب أن أوفيه.”
انعقدت على شفتي كلير ابتسامة باردة تحمل سخرية.
(إنهم السبب في تشويه بشرتي وفي موتي المؤلم بسبب مضاعفات السم في تلك المستحضرات التي صنعوها.)
عادت صور الماضي المؤلمة إلى ذهنها: البثور الحمراء التي غطت بشرتها، القيح والصديد الذي تسرب من جروح مفتوحة لم تلتئم قط، ثم تحولت إلى تقرّحات متعفنة التهمت جسدها حتى النهاية. آثار ذلك العذاب ما تزال حية في ذاكرتها.
ابتلعت آنا ريقها بصعوبة. لم تستطع رؤية تعبير وجه كلير خلف الحجاب، لكن الجو الثقيل الذي ساد فجأة جعل شعر جسدها يقف.
منذ موت والدي كلير في حادث العربة، انقطعت بينهما الصلة ولم تلتقيا إلا نادرًا. كما أن سمعة كلير في المجتمع لم تكن أبدًا جيدة: يقال إنها متغطرسة مغرورة لأنها تستند إلى نبوءة، وإنها سببت تعذيب الخادمات وطردهن، حتى قيل إن وجهها مشوّه وتخفيه خلف حجاب أسود.
لم تكن تحضر الحفلات إلا قليلًا، وإن فعلت فدائمًا إلى جانب ليليانا، كشبح لا وجود له.
لكنها الآن بدت مختلفة تمامًا.
قالت كلير بنبرة ثابتة:
“آنا، أريدك أن تصبحي خادمتي.”
كادت آنا أن تمسك بيدها في الحال، لكن…
“آسفة.”
“هل أستطيع أن أعرف السبب؟”
كانت شفتا آنا ترتجفان قبل أن تخرج الكلمات ببطء شديد.
“أختي فيفيان مريضة… لذلك لا أستطيع الذهاب إلى القصر الإمبراطوري.”
تذكّرت كلير حادثة محاولة اغتيال القديسة التي فشلت في الماضي.
“موتي! أيتها العاهرة!”
لكن في الحقيقة، من أرادت آنا قتله لم يكن سوى يوليا. إلا أن وجود ليليانا بجوارها حينها جعلها تُتهم بمحاولة اغتيال القديسة نفسها.
عندما بلغ الخبر إلى كلير متأخرًا، توسلت للإمبراطور إيموس أن يجري تحقيقًا عادلًا في الأمر. لكن ردة فعله لم تكن سوى البرود. بل إن تلك الحادثة كانت السبب في أن تُحبس كلير في القصر الجانبي القديم.
‘لم أكن أعلم حتى بوجود وسادة ليليانا بجانب العرش.’
وفي النهاية، حكم إيموس بقطع رأس آنا، وأمر ببعثرة جثتها في الحقول لتكون طعامًا للوحوش.
‘إن أردت الانتقام، فعليّ أولًا إنقاذ شقيقة آنا. لا يمكن أن يتكرر نفس الحدث مرة أخرى.’
كان مرض فيفيان يُعرف بـ”ارتجاع المانا”. وهو اضطراب يمنع تدفق المانا بشكل طبيعي فيرتد إلى الجسد، مرض كان من الممكن علاجه بسهولة إن تدخل كاهن رفيع يمتلك قوة مقدسة قوية.
لكن بسبب سيطرة ليليانا التامة على المعبد في ذلك الوقت، لم تحصل شقيقة آنا على أي علاج، وفقدت حياتها في النهاية.
كل ذلك فقط ليُملأ جيب “القديسة المزيّفة”.
آنا كانت متأكدة أن يد خادمة ليليانا، يوليا، كانت وراء كل هذا، وإيمانها بتلك الفكرة هو ما ساقها إلى النهاية المأساوية.
‘لو كان الأمر بيد ثيوباَلت وقوته المقدسة، لأمكنه علاجها بسهولة.’
لكن كلير هزّت رأسها بهدوء. لم تكن واثقة أصلًا من أنه سيقبل طلبها.
“آنا، خذي هذا.”
وضعت كلير على الطاولة بروشًا مرصعًا بما بدا أنه ألماسة من أندر وأغلى الأنواع، إلى جانب لوح خشبي دائري نُحت من خشب اللبان.
اتسعت عينا آنا كأنهما ستسقطان من مكانهما.
“هذا البروش هو إرث والدتي. بيعيه واستمري في بحثك الخاص حول زهرة الهيلناميليا. أما هذه القطعة الخشبية فهي رمز من القديسة مارغريت. قد يكون فيها شفاء لمرض فيفيان.”
بحثي الخاص… عن الهيلناميليا؟
نظرت آنا إلى كلير بذهول، ثم لوّحت بيديها سريعًا.
“ه، هذا… لا أستطيع قبول شيء بهذا القدر من الثمن!”
“فكري فيه كأجر صغير مقابل قبولك عرضي لتكوني خادمتي.”
صمتت كلير قليلًا، ثم تابعت بصوت أكثر جدية.
“أنتِ بحاجة إلى المال ومساعدة المعبد، أما أنا فأريدك أنتِ يا آنا. لذا لنستغل كلانا ما نحتاجه من الآخر، ولا تحملي الأمر على عاتقك أكثر من اللازم.”
لم تستطع كلير أن تقول مباشرة إنها تريدها أن تصبح “شخصها”. لذلك رأت أن تقدم لها ما تحتاجه أكثر من أي شيء، وتبقى العلاقة بينهما نفعية إلى أن يحققا انتقامهما.
“…سيدتي كلير.”
كلما غرقت آنا في التفكير، ازداد قلقها. كان من المفترض أن ترفض عرضًا بهذا الثقل. لكن… هل يمكن أن تحظى بمثل هذه الفرصة مرة أخرى؟
بعد انهيار عائلتها، لم يمد لها أحد يد المساعدة. لا أقارب ولا حتى الصديقات اللواتي اعتقدت أنهنّ أوفيات.
كلمات كلير “لنستغل ما نريد من بعضنا” بدت واقعية حدّ الألم.
لكن الغريب أن قلب آنا خفق بتوتر تحت ذلك الصوت البارد.
“أتمنى أن نلتقي المرة القادمة في القصر الإمبراطوري.”
“آه…”
“لقد قلت ما أردت قوله، والآن عليّ العودة. في الواقع، خرجت خلسة.”
“سي، سيدتي كلير، انتظري لحظة.”
وبعد صمت قصير، همست آنا بصعوبة.
“هل يمكنك الانتظار… فقط حتى ألتقي بالقديسة مارغريت؟”
“بكل تأكيد. لكن أسرعي قليلًا، أرجوك. ليس لديّ الكثير من الوقت.”
ابتسمت كلير ابتسامة باهتة وهي تنهض من مكانها.
✦✦✦
كان المطر قد بدأ يهطل في الخارج، يتساقط خفيفًا ويمتزج بالظلام. أرسلت كلير إشارة بعكس الضوء من المرآة إلى سائق العربة، لكن آنا أسرعت بالقول بقلق:
“سيدتي كلير، انتظري. في البيت مظلة، سأجلبها لك.”
“شكرًا.”
بينما ذهبت آنا لإحضار المظلة، مدّت كلير يدها لتشعر بقطرات المطر وهي تبلل الأرض الجافة.
ثم سحبت يدها ببطء، وعاد البرود إلى ملامحها.
‘عليّ أن أكون حذرة.’
لا مجال لأن أستسلم للحظة من الحنين. قد أُقتل على يد الخونة مرة أخرى في أي لحظة.
في تلك الأثناء، دوّى صوت صاخب غليظ النبرة.
“تبا! اسلبوا كل شيء. أوغاد قذرون.”
كانوا مقامرين أضاعوا أموالهم في حانة قريبة. مخمورون، يتمايلون ويضحكون بصخب وهم يسلكون الزقاق.
اختبأت كلير بجانب الباب، ترفع عينيها إلى السماء بصمت.
لكن فجأة، اندفع أحدهم نحوها، وبحركة خاطفة أزاح حجابها.
في لحظة، امتلأ مجال بصرها بالضوء.
“…!”
ارتبكت كلير وحاولت الإمساك بالحجاب بسرعة، لكن يد الرجل كانت أسرع.
ورغم أن يديها ارتجفتا قليلًا، إلا أنها لم تشعر هذه المرة بالاختناق أو بانسداد أنفاسها. ربما لأنّها تمرّنت طويلًا على احتمال خلع الحجاب رغم الألم.
“هاه؟ ظننت أي بومة ترتدي شيئًا كهذا، لكنها… يا للعجب، ما أجملها!”
اشتدت رائحة الخمر المقيتة، فأطبقت كلير حاجبيها بامتعاض.
“أي وقاحة هذه؟”
لكن لا أحد من الرجال المخمورين أعار كلامها أدنى اهتمام.
“الحجاب ثمين، لكن ملابسك عادية بعض الشيء.”
“لا بد أنك خادمة تعمل في بيت من بيوت النبلاء.”
ضحك الرجال وهم يحاصرونها.
“إن لم تزيلي يدك فورًا، فسأرفع الأمر إلى حرس القصر.”
“أوه، ما أخوفنا! صاحبة الجلالة!”
قال أحدهم ساخرًا وهو ينحني بشكل هزلي.
“هيّا يا آنسة، أو بالأحرى… يا أرملة، تعالي وامرحي معنا قليلًا.”
بدأت كلير تتراجع ببطء، تبحث عن وقت حتى تصلها نجدة السائق. لكن العودة إلى بيت آنا لم تكن خيارًا، فهناك أختها المريضة.
‘هل فشل السائق في رؤية إشارتي بالمرآة؟’
بدأت أصابعها تبرد تدريجيًا.
“انظر! شعرها كالذهب الخالص.”
“ابتعدوا!”
حين مدّ أحدهم يده ليلمس شعرها، باغتته كلير بضربة قوية بالمرآة على جانب رأسه.
“آه!”
سال الدم من جبينه، فاستشاط غضبًا واستل خنجره من خصره.
“سأقتلك أيتها الحقيرة!”
كانت كلير تتراجع، تحاول الصراخ طلبًا للمساعدة… لكن فجأة:
“هاه؟”
ارتجف الرجل وأطلق صوتًا غبيًا قبل أن يتقيأ دمًا دفعة واحدة. وفي اللحظة نفسها، سُمع صوت معدني يمزق اللحم.
صرخة حادة ارتفعت مع الألم.
“آآااه!”
اختلطت رائحة الدم بمياه المطر، تنبعث برائحة حديدية لاذعة.
مدّت كلير يدها تبحث عن حجابها، لكن شيئًا ما سقط فوق وجهها.
كان دفئًا مألوفًا يتخلله عبق خشبي قوي جعلها تُغمض عينيها بقوة.
“من تجرؤ على ذلك!”
لم يستغرق الأمر سوى لحظة حتى خمد صوت السيوف المتصادمة.
وعندما أزاحت كلير الرداء قليلًا، أسرتها عيناها على الفور برؤية رجل ضخم الجسد، طويل القامة، ينفض قطرات الدم عن سيفه بحركة هادئة.
الانستغرام: zh_hima14
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 8"