-ماضي إيفلين-
“يا له من منظر بائس، يا راينر. كنتَ تسخر من ابنتي وتقول إن التورط مع الأثيريون خطر… وفي النهاية أنت نفسك يُقبض عليك من قِبل ولي العهد الأول بتهمة تعاطي الأدوية المحظورة؟”
“وهل هذا يشبه ما كانت تفعله هي؟”
تصادمت نظراتهما بحدة.
ارتشف راينر الخمر مجددًا وتمتم ببرود:
“انتهى الأمر. لم يعد بإمكاني العيش في الإمبراطورية. حضّري لي طريقة للهرب إلى الخارج، يا أختي.”
“هاه! من يسمعك يظن أنك تركت عندي وديعة مالية. أين ذهبت كل الأموال التي ربحتَها من بيع المخدرات؟”
“أتسألين لأنك لا تعلمين؟ ذلك الحقير، تيوبالت… كشف كل حساباتي وأحرق الوثائق أمام عيني. أنا الآن مفلس تمامًا.”
أغمضت إيفلين عينيها بإحكام.
ولسوء الحظ، كانت في وضع لم يعد لديها فيه أي سلطة داخلية لتؤمّن له مال الهروب.
“راينر، حتى أنا لا أملك سيولة الآن. إطلاق خط مستحضرات التجميل الذي استثمرت فيه ليليانا بات قريبًا جدًا.”
“وماذا عن الأشياء التي سرقتِها من جيوب كلير؟”
شرحت له إيفلين الوضع بالتفصيل.
عندها فقط أدرك راينر خطورة الموقف فضرب الطاولة الخشبية المتآكلة بقبضته.
“اللعنة! لا يهمني! لا أعرف شيئًا! اقترضي من تجار السوق السوداء، اسحبي من أي صندوقٍ سري… فقط أتي لي بالمال! إن لم أهرب هذه المرة فسأموت!”
“راينر… لا تفعل هذا. فقط تحمّل قليلًا، أرجوك. إن نجحت تجارة ليليانا، سأرسلك بنفسي للبلد الذي تريد. هل تتوقع أن أتخلى عن عائلتي؟”
ورغم كلماتها الملحّة، انفجر راينر ضاحكًا بسخرية.
لم يكن يريد البقاء يومًا واحدًا إضافيًا في هذا الكوخ البائس.
وفوق كل شيء، كان واثقًا أن تيوبالت سيجد هذا المكان في لمح البصر.
كلمات إيفلين بالنسبة له لم تكن سوى دعوة للعودة إلى قبضة ذلك الرجل الحقير وتحمّل التعذيب الجهنمي مرة ثانية.
بدأت يد راينر ترتجف من جديد.
“لا يجب على الأخت أن تعامل أخاها هكذا.”
تجمدت حركات إيفلين عند سماع نبرة صوته الساخرة.
“أنا أعرف ماضيكِ كله، وأعرف الأسرار التي تخفينها. هل ستتخلين عني الآن؟”
“ماذا تقول؟ لماذا قد أتخلى عنك؟ راينر، أرجوك… استفق وفكّر بعقل.”
كان طبعُه أنانيًا منذ البداية، لكن التعذيب حطم عقله فلم يعد قادرًا على اتخاذ قرار منطقي.
“يكفي. جهّزي كل شيء لرحيلٍ للخارج مع شروق الغد. وإن لم تفعلي… فسأذهب فورًا إلى ديتريش وأ— كهه! كاك!”
قطع الألم المفاجئ أنفاسه وسقط أرضًا.
صرخة حادة تمزقت من بين شفتيه وكأن أمعاءه تقطّعت.
حدّق في إيفلين بعينين محمرّتين غضبًا.
“أ… أنتِ… تسمّم… ينني؟”
“هاه… يبدو أن مفعول الدواء بدأ الآن.”
تمتمت إيفلين بصوت هادئ مريب.
“راينر… الآن تكرهني بالتأكيد. لكن لم يكن هناك حل آخر… لإنقاذي أنا، وإنقاذك، وإنقاذ ليليانا.”
“كههك… كاك…”
مع تزايد أنينه، انخفضت إيفلين وجلست قربه.
“لقد تعبت من تنظيف فوضاك طوال عمري. ثم إننا… نتشارك نصف الدم فقط، أليس كذلك؟ لذلك… فقط مُت بصمت. هذا يكفي.”
“……!”
“سأقيم لك جنازة كبيرة في المعبد الذي تحلم به.”
تضاءلت حركات راينر شيئًا فشيئًا حتى خمد تمامًا.
نهضت إيفلين ببطء شديد.
لم يكن هناك أي طريقة لإنقاذه.
لو تكلّم راينر وكشف أنه استخدم قوة الأثيريون، فسيدمر كل شيء.
كان إسكات فمه هو القرار الأذكى.
كان السم يوقف القلب فقط، لذا كانت تخطط لرمي جثته قرب طريق الحج.
(يمكنني استئجار من يزوّر آثار التعذيب.)
إذا اختفى راينر، فلن يشك أحد بقدرة ليليانا المزيفة على التظاهر بالقداسة.
السيطرة على عائلة لوبيوس وإيصال ليليانا لأعلى منصب في الإمبراطورية…
كان ذلك حلم إيفلين القديم وهدفها الأسمى.
فشلٌ واحد في شبابها كان أكثر من كافٍ.
(ابنتي… يجب أن تنجح مهما كان الثمن.)
بعد أن تنفست بعمق، خرجت من الكوخ.
كان الجبل مغطى بالظلال الكثيفة، والجو يبعث على القشعريرة.
سارت أسرع، تتمتم لنفسها:
“جيد. لقد فعلت الصواب. لا يمكنني السماح لذاك الوغد الحقير بأن يدمّر مستقبلي ومستقبل ليليانا.”
لكن رؤيتها بدأت تتشوش. تعثرت وسقطت أرضًا.
“آه…”
عليها أن تنهض.
كان يجب أن تنزل الجبل وترسل مرتزقة لطمس الأدلة.
غير أن رأسها كان يدور بوحشية، ووعيها يتبخر ببطء.
(جسدي… لماذا… هكذا؟)
ثقلت حركتها شيئًا فشيئًا.
هل يعقل…؟
كما سمّمت راينر… ربما سمّمها هو أيضًا قبل موتِه؟
عضّت شفتيها حتى سال الدم محاولة استعادة الوعي، لكن بلا جدوى.
وأخيرًا، غمرها ظلام دامس.
نظرت كلير إلى جسد إيفلين الملقى بلا حراك بنظرة باردة.
كانت ترتدي قناعًا بدلًا من حجاب لتتأكد من رؤية كل تفاصيلها.
رنّ صوت خافت حين نقر تيوبالت بلسانه واقفًا قربها.
“لم أتوقع أنها ستذهب إلى حد قتل شقيقها. إنها امرأة تتخطى كل الحدود.”
رفعت كلير رأسها قليلًا.
“كيف حال راينر؟”
“لقد أعطيناه عدة ترياقات، لذلك لم يمت. استخدمناه كطُعم جيدًا، والآن يجب أن يعود إلى السجن الذي ينتمي إليه.”
كان فرسان تيوبالت قد عالجوا راينر باستخدام القوة المقدسة ثم غادروا.
“…هل ستكونين بخير؟”
نظر تيوبالت إلى كلير بوجه متصلّب قليلًا، وبقيت عيناه الذهبية الساطعة معلّقة عليها.
تنفست كلير ببطء وابتسمت بخفة.
“بالطبع. الألم وحده لا يقتل الإنسان.”
تحركت شفتا تيوبالت ببطء عند سماع عبارتها ذات المغزى.
ولمّا كان على وشك قول شيء آخر، أمسكت كلير بيد إيفلين.
وبين لحظة وأخرى، انفتحت قواها، وجرت ذكريات إيفلين عبر أطراف أصابع كلير.
وُلدت إيفلين لأمٍ من عائلة نبيلة تحمل لقب بارون، وأب كاهن بسيط.
وقعت أمها في الحب، فتخلت عن لقبها النبيل، واضطرت إيفلين للعيش كعامية.
كانت تحمل دمًا نبيلًا لكن لم يحترمها أحد—ذلك كان بداية حياتها.
ثم مات والدها في حريق المعبد.
ولم تتحمل الأم الحزن، فتزوجت من كاهن آخر، وأنجبت منه راينر.
لكن بعد عدة سنوات، اجتاح الطاعون القرية، فماتت الأم والزوج الجديد تقريبًا في الوقت نفسه.
وأمام العيش المجهول، اصطحبت إيفلين راينر الصغير وذهبت إلى عائلة أمها.
العائلة كانت قد تبرأت من الأم، لكنهم—بشكل غير متوقع—قبلوا إيفلين وراينر.
كان جدّها، رب العائلة، رجلًا طماعًا.
رأى في جمال إيفلين وقوة راينر المقدسة أدوات يمكن استغلالها.
لكن راينر بطبيعته النارية لم يتحمل اضطهاد العائلة، فترك المنزل وذهب للمعبد، لتبقى إيفلين وحدها بينهم.
كانت تُهان دائمًا لأنها “نصف” فقط.
ليست نبيلة بالكامل… ولا عامية بالكامل.
وفي ذلك الظلام… مدّت إليها فتاةٌ يدها لأول مرة.
إليزابيث، الابنة الوحيدة لكونت فيتون.
كانت جميلة، طاهرة، محبوبة من الجميع—نبيلة كاملة من كل ناحية.
أعجبت بها إيفلين… لكنها في الوقت نفسه كانت تغار منها.
إلى أن جاء ذلك اليوم.
قدّمت إليزابيث خطيبها بفخر:
“تشرفت بلقائك. أنا ماكسيميليان لوبيوس.”
وقعت إيفلين في حبه من النظرة الأولى.
مظهره الأنيق، أسلوبه الراقي، علمه الواسع الذي اشتهر به في المجتمع النبيل…
كان رجلًا كاملًا بكل معنى الكلمة.
وأرادته.
تغلغلت الرغبة في قلبها ولم تستطع إخفاءها.
منذ ذلك اليوم، بدأت تخطط لتدمير إليزابيث.
نشرت الشائعات، وحرّضت الرجال الذين يشتهونها عليها.
لكن ماكسيميليان والنبلاء ظلوا يثقون بإليزابيث ويحبونها.
عندها أدركت إيفلين كم أن سمعة المرء في المجتمع قوة لا يستهان بها.
“لو كانت لدي قوة مقدسة! لو كنتُ من طبقة أعلى… لما كنتُ سأخسر ماكسيميليان لصالح إليزابيث!”
وفي النهاية، خططت لقتل إليزابيث بالسم.
لكن جدة ماكسيميليان، السيدة الكبرى، كشفت نواياها على الفور.
وبسبب ذلك ضغطت السيدة الكبرى على عائلة البارون، فخسرت إيفلين كل شيء وانتهى بها الحال إلى زاوية مظلمة.
وشاهدت زفاف ماكسيميليان وإليزابيث وهي تبكي دمًا.
“لماذا لا أكون أنا عروسه؟ أنا أجمل منها… وأُحبه أكثر منها!”
غرقت في اليأس، وفي ليلة سُكر… نامت مع شاعر جوّال يشبه ماكسيميليان.
وبعد ذلك، زُوّجت كسلعة إلى نبيل ريفي، فأصبحت زوجة بارون… لكن الفراغ لم يختفِ.
ولدت ابنتها ليليانا—وظنّت أنها أخيرًا وجدت بعض الراحة.
لكن تلك الراحة لم تدم طويلًا.
فقد كان الزواج كارثيًا من بدايته إلى نهايته.
ومع مرور الوقت، بدأ زوجها يشك بها لأن ملامح ليليانا لم تشبهه.
ولذلك… قتلته.
بهدوء، دون أن يعلم أحد.
نشرت شائعة أنه هرب مع عشيقة إلى بلد آخر.
ولم يتبقّ لها سوى أرض قاحلة ولقب بارونة بلا قيمة.
لا أمان… ولا حب… ولا شيء كان لها.
وفي نهاية تلك الحياة البائسة… وصلتها أنباء غير متوقعة.
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 38"