-اللسان الماكر أو اللسان الخبيث-
اختفى الهدوء المريب عن القصر بعد رحيل إيفلين وليليانا.
جلست كلير لأول مرة منذ مدة تقلّب صفحات كتابها بارتياح.
“سيدتي.”
وضعت دوروثيا شاي الأعشاب العطري، ثم فتحت فمها بتردد واضح.
عند رؤيتها لتلك الملامح غير المألوفة، أغلقت كلير الكتاب وعدّلت جلستها.
“هل حدث شيء؟ وجهك شاحب.”
“…هناك ما يجب أن تريه بنفسك يا سيدتي.”
أخرجت دوروثيا علبة السيجار ووضعَتها أمام كلير بحذر. لم تنتظر كلير أي تفسير، بل فتحت الغطاء فورًا.
في الداخل، كان السيجار الذي دخّنه ديتريش البارحة لا يزال كما هو.
لكن داخل العلبة كان يحمل آثار احتراق داكنة لم يكن من المفترض أن تكون موجودة.
قطّبت كلير حاجبيها، فسارعت دوروثيا لشرح الأمر بنبرة حذرة:
“عادةً ما يعتني الخدم المختصون بسيجار النبلاء بدقة. وعند الخروج، توضع السيجار دائمًا في العلبة.”
“أتذكر أن والدي كان يفعل ذلك أيضًا.”
“خصوصًا في العلب الفاخرة، فهي مطلية بطبقة واقية تمنع مثل هذه الاحتراقات… نادرًا ما تظهر.”
عادت كلير تتفحص العلبة، وما إن رأت التفاصيل جيدًا حتى توقفت يدها فجأة.
إيفلين وليليانا تركتا القصر وسلّمتا السلطة المالية بسهولة مريبة.
ديتريش بعينَيه المحمرتين وبصره الضعيف.
وذلك المشهد القديم… حين لم يتعرف عليها جيدًا في حياتها السابقة.
كل شيء تجمّع في لحظة واحدة…
وخُيّل إليها أن الأرض قد انهارت تحت قدميها.
وكأن ضبابًا انقشع ليكشف مصيدة مرعبة كانت مخفية طوال الوقت.
انقبض صدرها حتى كادت أن تفقد أنفاسها.
“…دوروثيا.”
تكلمت كلير بصوت متسارع يرتجف.
“قولي لي الحقيقة… دون مراوغة.”
“اسألي ما شئتِ يا سيدتي.”
“هل… هل كان السيجار مسمومًا؟”
تجمدت حركة دوروثيا لوهلة.
ثم ظهرت على وجهها ملامح مأساوية وهي تقول:
“…أعتذر يا سيدتي. بعد فحصه بالمواد الكاشفة… تبيّن أنه يحتوي على الزئبق.”
الزئبق—
سمّ قاتل.
واستنشاقه عبر الدخان تحديدًا هو أخطر طرق التسمم.
يرتجف الجسد… تظهر الهلوسات… وقد يفقد المصاب سمعه وبصره في الحالات الشديدة.
“آه…”
اهتز جسم كلير بقوة وهي ترفع يدها إلى رأسها.
وسارعت دوروثيا إلى إمساكها كي لا تسقط.
أخذت كلير نفسًا بطيئًا محاولَة ترتيب أفكارها برباطة جأش.
إيفلين…
كانت تحب ديتريش وتعتني به أكثر من ليليانا نفسها.
فلماذا إذًا تحاول قتله؟
هل كانت حاقدة لأنها فقدت إدارة الشؤون الداخلية؟
أم هل تغيّر شيء ما في هذه الحياة الثانية عمّا حدث سابقًا؟
قشعريرة مرعبة سرت في كامل جسدها.
“لا وقت للصدمة…”
بقبضة متوترة، شدت كلير حبل النداء لاستدعاء كبير الخدم.
كانت بحاجة لمعرفة الخادم المسؤول عن سيجار ديتريش.
وكانت عيناها مثل نصل ثلجي.
✦✦✦
في وقت متأخر من بعد الظهيرة—
كان يوهان، المسؤول عن إدارة الخمور، يشق طريقه نحو صالون كلير بعد تلقيه استدعاء من كبير الخدم.
يا للدهشة…
رأى جانب الصالون مليئًا بالهدايا الضخمة التي أرسلها تيوبالت، مكدسة كجبل صغير.
تذكر همسات الخدم طوال النهار وهم يعاينون الهدايا بفضول، فابتسم داخليًا.
“أنستي، هل طلبتِ رؤيتي؟”
“نعم. أنت الذي تتولى إدارة خمور أخي وسيجاره، صحيح؟”
“نعم، هذا صحيح.”
رفع صدره بخيلاء، متفاخرًا بمهامه.
“لقد أرسل ولي العهد الأول نبيذًا، لكنني لا أشرب. لذلك، فكرتُ أن أعطيه لأخي.”
كانت على الطاولة زجاجة نبيذ فاخر من جنوب الإمبراطورية.
اتسعت عينا يوهان دهشة.
“إنه نبيذ رائع بالفعل. والسيد يشرب كأسًا كل ليلة قبل النوم، سأوصله إليه فورًا مع تحياتك.”
“حسنًا. وخذ هذا أيضًا. إنها علبة السيجار التي تركها أخي في الحديقة بالأمس.”
تغير وجه يوهان فورًا.
تحول من متحمس إلى متوترٍ بملامح غير مستقرة.
انحنى قليلًا ومد يده نحو العلبة بحركة حذرة.
“يوهان.”
تجمّد في مكانه عندما نادته كلير باسمه.
ومع صوتها الهادئ البارد، ارتعش جسده دون أن يدري.
“…نعم، أنستي.”
“هذه العلبة من تَرِكَة والدي. إن لم تمانع… هل يمكنني أن أرى كيف تبدو بعد تنظيفها هنا؟”
وضعت دوروثيا أدوات التنظيف أمامه بصمت.
أمراً غير منطوق، لا يقبل أعذاراً أو رفضاً.
فتح يوهان العلبة بيد مرتجفة، ونفض بفرشاة بقايا السيجار.
كان السواد المحترق واضحاً، لا يُرى إلا عند التدقيق.
عندها فقط شحب وجه يوهان.
“زئبق.”
“ي… يا آنسة…”
“لا أظن أنك تجرأت على فعل ذلك وحدك. هل كان بأمر إيفلين؟”
عضّ يوهان شفته وارتمى ساجدًا على الأرض.
“أ… أعتذر… البارونة فقط قالت لي… أن أملأ العلبة بالسيجار الذي جهزته هي…”
قالت كلير ببرود:
“من يستخدم السم ضد أحد النبلاء يُعدم فورًا. وحتى المتغاضي شريك في الجريمة.”
ابتسمت بخفة قاتمة.
“أود أن أعرف فقط… ما المكافأة التي جعلتك تخاطر بحياتك لهذه الدرجة؟”
لم يجب.
فحدقت فيه كلير بنظرة باردة وهي تتابع:
“أليس غريبًا؟ من يحاول إيذاء النبلاء يفعل ذلك طمعًا في المال عادة. لكنك خدمتَ في بيتنا طويلًا وجمعت ثروة ليست بالقليلة.”
ارتجفت كتفا يوهان قليلًا.
“لذلك تحريتُ عنك. وعن حياتك قبل أن تأتي إلى بيت الدوق.”
“…!”
“اتضح أنك كنتَ في إحدى المقاطعات الريفية… مع زوجة نائب مركيز دلفيني، وأنجبتَ منها طفلة.”
اتسعت عينا يوهان.
هل كانت تعرف كل شيء منذ البداية؟
“زوجة نائب المركيز كانت ترعى زوجها العجوز؛ فقد كان هذا هو زواجها الخامس، وقد جُلبت أساسًا كخادمة تمريض.”
صمت يوهان.
فما من كلمات تبرر ماضيه.
وقع الشاب الوسيم والزوجة الشابة والوحدة القاتلة في علاقة محرمة… لم يستغرق وقتًا.
وعندما علمت بأنها حامل… توسّل إليها يوهان مرارًا أن تهرب معه.
لكنها تركته.
أكملت حملها وأنجبت الطفلة… لكن لم يكن هناك أي طريقة لتسجيلها رسميًا.
ابنة غير شرعية… من دماء عامة الناس.
لم تستطع قتل الطفلة، فادّعت أنها حفيدة مرضعة، وأرسلتها إلى دير بعيد.
“هل عقدت الصفقة مع إيفلين لتحمي ابنتك؟ لأنها قريبة من ليلّيانا… القديسة.”
ظل يوهان صامتًا.
إيفلين كانت لطيفةً مع الخدم… وهذه كانت خطيئته.
فقد أخبرها بكل شيء بدافع الحنين والضعف.
وبدا أنها ملاك منقذ حين عثرت له على الطفلة في الدير.
“يوهان، لقد وجدنا ابنتك. وبفضل ليلّيانا نقلناها إلى ديرٍ أفضل لتحظى بالحماية.”
بكى من الامتنان… لم يعرف كيف يردّ لها الجميل.
لكنها رفضت بلطف.
“ابنتك بأمان، هذا يكفيني. فقط اعتنِ بديتريش جيدًا.”
لكن بعد فترة قصيرة… لاحظ آثارًا تشبه الزئبق على سيجار ديتريش.
فأسرع بإخبار إيفلين أولًا… ظنًا منه أنه يؤدي واجبه.
لكن ردها كان صادماً:
“يوهان… حان وقت ردّ الجميل.”
“ل… لكن يا سيدتي… الزئبق سمّ قاتل. هل تنوين قتل السيد؟”
ضحكت بهدوء:
“يا لك من مضحك. ديتريش أحبّ الناس إليّ. لن أقتله. فقط… سأضعف بصره قليلًا. لدي الترياق جاهزًا.”
كان يعرف…
يعرف أن لسان إيفلين الماكر يجرّه إلى الهاوية. لكن لم يعد قادرًا على التراجع. إن أغضبها… فقد تقتل ابنته.
في تلك اللحظة شعر ببرودة معدنية تلامس عنقه.
كانت لورس قد وضعت سيفها على رقبته بصمت.
خرج خيط رفيع من الدم، لكن يوهان لم يتحرك.
قالت كلير بصوت جليدي:
“إن ذهبتُ بهذه العلبة إلى أخي الآن… ستموت فورًا.”
أغمض يوهان عينيه.
ربما الموت أفضل.
على الأقل ستعيش ابنته حياة طبيعية في الدير، دون أن تعرف اسمه.
لكن صوت كلير اخترق أفكاره:
“عملتَ طويلًا في بيوت النبلاء… ومع ذلك لا تفهم شيئًا. هل تظن أن ابنتك ستكون بخير إن متّ؟”
لم يستطع الرد.
“أراهن أنك ما زلت تثق بإيفلين. مؤسف… ابنتك ليست في الدير الآن.”
“م… ماذا؟ قالت البارونة إن الطفلة…”
يا ليت كانت في الدير فعلًا.
لكن الحقيقة أبشع.
“زوجة نائب المركيز أرسلتها للدير، نعم. لكن إيفلين سرقتها من هناك… لتستخدمها كطُعم.”
شهق يوهان… وكأنه توقّف عن التنفس.
“ثم بيعت لاحقًا لمأوى بغاء.”
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 35"