كان الناس يطلقون عليها يومًا لقب “السيدة النبيلة ذات أرقى آداب الإمبراطورية”، ويمدحونها بلا توقف.
لكن تلك النظرات كانت دائمًا عبئًا ثقيلًا عليها.
فمع أنها تحافظ على رصانتها من الخارج، كان قلبها يزداد وحدة من الداخل.
في الحقيقة، وبرغم أنها ابنة أسرة نبيلة، كانت ترغب في العمل لمساعدة الآخرين.
لكن زواجها جعل ذلك الحلم يختفي شيئًا فشيئًا.
أصبحت كونتيسة مرموقة بعد زواجها السياسي،
لكن مع مرور الوقت أصبحت في نظر العائلة مذنبة لأنها لم تستطع إنجاب وريث.
وكان زوجها، الكونت ماكشيوس، هو العزاء الوحيد لها.
رجل طيب يرعى أملاكه ويرافق الإمبراطور ماركوس بصمت.
وبفضله تمكنت دوروثيا من الصمود.
وعندما وصلها خبر اختطافه على يد البرابرة ذوي البشرة الخضراء،
وأنه قُتل بوحشية وقد قُطعت أطرافه…
شعرت دوروثيا بأن رغبتها في الحياة قد انطفأت.
وفي اليوم الذي قصدت فيه المعبد لتنهي حياتها،
التقت بالأمير المهجور… تيوبالت.
“سأثأر للكونت. وفي المقابل… احمي والدي الإمبراطور. وإن عدتُ يومًا إلى القصر، فعِشي لأجلي.”
لم تستطع دوروثيا نسيان تلك الكلمات.
كان صبيًا منبوذًا بلا سند سياسي،
لكنها—لسبب لا تفهمه—أرادت تصديقه.
قصّت جزءًا من شعرها، ذلك الشعر الذي أحبه زوجها،
ووضعته في تابوته،
ثم أقسمت الولاء لتيوبالت.
وبعدها… أوفى الأمير الصغير بوعده حقًا.
قام تيوبالت بذبح البرابرة بوحشية ودقة… من أجل تنفيذ اتفاقهما.
وعندما سمعت دوروثيا الخبر، اجتاحها الذنب.
“كيف أدفع بطفل إلى الجحيم لأطلب منه الانتقام لي؟ ما الذي فعلته…؟”
ندمت، وتساءلت ما إذا كان موتها أفضل.
لكن كلمات تيوبالت أمسكت بها من جديد.
عيشِي.
اصمدي.
وبمجرد استمرارها في الحياة، كانت تفي بوعدهما.
وهكذا أصبحت دوروثيا من خاصّة تيوبالت، وعاشت في القصر الإمبراطوري.
وعندما عاد تيوبالت وليًا للعهد، أصدر لها أمرًا غير متوقع:
“احمي كلير لوپيوس.”
وصيفة لوليّة العهد المستقبلية؟
فكرت دوروثيا بدهشة.
لقد سمعت الشائعات عن كلير.
أقاويل عن فقدانها عقلها بعد حادث العربة،
وأخرى تقول إنها صاحبة وجه دميم مليء بالتشوّه.
لم تتوقع الكثير من لقائها.
كانت تنوي فقط تنفيذ أوامر تيوبالت.
لكن عندما التقت بكلير، وجدتها مختلفة تمامًا.
كان في صوتها الهادئ حدّة تخترق القلب.
خشيت دوروثيا أن تكون هذه الفتاة خطرًا على تيوبالت،
لكن شيئًا فيها كان يجذب الانتباه… ويثير القلق عليها.
وكأنها تعرفها منذ زمن بعيد.
كانت كلمات كلير الصادقة تلامس جراحها وحزنها بصدق غريب.
وقد منحتها كلير ولروس ثقة كاملة رغم أنها بالكاد تعرفهما.
تساءلت دوروثيا:
على أي أساس تمنحنا هذه الثقة؟
وبعد تفكير طويل، أدركت الحقيقة:
إنها لا تثق بي… إنها تثق بصاحب السمو.
وعندما كشفت كلير وجهها أمامها وهي تطلب المساعدة،
حبست دوروثيا أنفاسها دون وعي.
لم يكن وجهها كما يصفون.
كان على العكس… آسرًا وساحرًا.
عندها رغبت دوروثيا في مساعدتها من قلبها.
ومجاراة أفكار كلير والعمل إلى جانبها صار أمرًا ممتعًا.
ونظرت إليها بنظرة دافئة لم تُبدِها في البداية.
لا بد أن سموّه كان يعرف هذا كله منذ البداية…
يا له من رجل خبيث ولطيف في الوقت نفسه.
وارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي دوروثيا.
ولسبب ما، شعرت بحماسة كبيرة للإمبراطورية التي سيقودها هذان الاثنان معًا.
✦✦✦
وقفت كلير بهدوء تواجه نظراتهما.
يبدو أنهما مصدومان.
هل لأن الندبة لم تكن موجودة؟
أم لأن شكلها كان مختلفًا عمّا توقعا؟
ارتجفت يد كلير قليلًا،
لكن قلبها امتلأ بفخر لأنها تغلّبت على خوفها أخيرًا.
لم تعد نظرات الآخرين تؤذيها كما في الماضي.
فقد عاشت عمرها خلف حجاب،
وكان صوتها هو الشيء الوحيد الجميل في نظرها عن نفسها.
وعندما أُجبرت يومًا على خلع الحجاب،
لم يجرؤ أحد تقريبًا على النظر في عينيها أو محادثتها.
“صاحبة السمو… شكرًا لشجاعتك.”
“شكرًا لكِ يا دوروثيا.”
“كيف يمكننا مساعدتكم؟”
“هناك الكثير من الأمور التي ستقومان بها.”
ولأول مرة، استطاعت كلير أن تتحدث مع الآخرين مواجهة لوجوههم.
شعرت بأنها تقدمت خطوة إلى الأمام، وبدأ شيء من الثقة يتكون داخلها.
من الآن لن أتوقف.
لم تعد تخشى أي عاصفة أو أمواج عاتية.
في اليوم التالي.
زارت دوروثيا مكتب ديتريش.
“……”
نظر ديتريش إلى السيدة النبيلة في منتصف العمر بنظرة باردة بعض الشيء، وكأن أي ريح عاتية لن تقدر على زعزعتها.
لقد سمع بالفعل من إيفلين ورئيس الخدم أنها فتشت غرفة كلير بكل وضوح.
ومهما كان هؤلاء من سكان القصر الإمبراطوري، فإن اقتحام غرفة ابنة لورد دون إذن كان تصرفًا أزعج ديتريش بشدة.
كانت كلير بالنسبة له أختًا صغيرة يجب عليه حمايتها.
هي التي أغلقت قلبها وعزلت نفسها بإرادتها، ولم يكن أحد قد وضعها في خطر.
“لقد كان مجرد… شعورٍ بالإعجاب. رأيتُ أنها أنسب شخص إلى جانب كلير، فبدأت مشاعري تتبع تلك الفكرة.”
وبالرغم من أنه وبّخ ليليانا بشدة وأمرها بالتخلي عن ذلك، إلا أن كلماتها كانت تحمل بعض المنطق.
ألم توافق كلير أيضًا؟
تنهد ديتريش واستدعى إحدى الخادمات.
وما إن وُضِع الشاي العطري والحلويات على المائدة، حتى قدمه لها بمهارة معتادة.
“سيدتي الكونتيسة، تفضلي.”
“أشكرك على لطفك، يا لورد لوبيوس. ولأنني لم أعد في منصب الكونتيسة، فيسعدني أن تناديني دوروثيا فحسب.”
“سأفعل.”
كانت لهجة دوروثيا وآدابها فائقة الإتقان.
ولا سيما أنها لا تحمل ذلك الشعور الضاغط الذي يرافق عادة نبلاء الطبقة العليا، وهذا جعلها مناسبة تمامًا لتكون خادمة خاصة لكلير.
“لقد أرسلني سمو ولي العهد لسبب واضح. فعلى الرغم من أن زواجها قد تحدد بالوحي، يجب علينا ترتيب أملاكها الشخصية، ومهرها، وحقوق الملكية قبل إتمام عقد الزواج.”
التعليقات لهذا الفصل " 31"