مع أن كلير كانت على وشك المغادرة قريبًا إلى القصر الإمبراطوري، فإن إصرار غيرتروديس ودوروثيا على ضرورة تفقد مقر وليّة العهد جعل الغرفة البسيطة تتغير بالكامل.
دوروثيا، وكأنها تعرف الغرفة الحقيقية منذ البداية، لم تُظهر أيّ ردّة فعل خاصة، واكتفت بإصدار التعليمات للخادمات.
الأثاث والزينة، التي كانت تبدو رديئة، تحولت بلمسة واحدة من يديها إلى غرفة أنيقة ذات طراز عتيق.
أما غيرتروديس التي كانت تفحص الأدوات الخطرة والأشياء السحرية، فقد أظهرت انزعاجًا واضحًا.
“لا يبدو أن هناك شيئًا مريبًا بشكل خاص.”
“شكرًا لكِ، غيرتروديس.”
حدّقت كلير بصمت في غيرتروديس التي كانت تقف متصلّبة وعلى وجهها انقباض دائم.
شعرها الأسود المربوط بإحكام وزيّها الرسمي كفارس من القصر، جعلاها تبدو مذهلة.
انضباطها وقامتها المشدودة ومعالم جديّتها جعلت كلير تراها فارسًا لا يسمح بأي ثغرة.
‘كونها من عائلة هيسن النبيلة، فهي على الأرجح من أقارب تايو من جهة الأم.’
مراقِبة تتخفّى تحت اسم “حارسة”.
لكن كلير لم تمانع هذه المراقبة.
فحسب استخدام صاحبها، يمكن للسيف أن يتحول إلى درع.
ووجود أحدٍ إلى جوارها منحها شعورًا بالطمأنينة يتجاوز مجرد المواساة.
شعرت غيرتروديس بنظرات كلير، فقالت بتعبيرات وجه خالية من الانفعال.
وكان في ملامحها شبهٌ بسيط بتايوبالت.
“لقد تلقيت أمرًا من سيدي بحماية سموّكِ، لذا تكلّمي معي براحة. يمكنك مناداتي بـ روس.”
“سأفعل، يا روس.”
كانت حارسة لا هي معادية ولا هي ودودة.
لكن يكفي كلير أن تعلم أن شخصًا قويًّا يقف إلى جانبها، فذلك وحده خفّف عبئها.
على الأقل لن تموت هذه المرة عاجزة أمام أيّ قاتل تُرسله الإمبراطورة أو إيفلين.
حولت كلير نظرها.
فرأت جوليا في زاوية الغرفة، تحرّك عينيها بقلق شديد.
هيما: خطأت بأسمها بالفصول السابقة وكتبته يوليا يلا نفس الشيء
ومكياجها السميك الرث جعل النظر إليها متعبًا.
نعم، استمري بالارتباك هكذا.
“جوليا.”
“ن-نعم، آنسة كلير.”
“بوجود دوروثيا وروس، يبدو أنكِ لن يكون لديكِ عمل كثير في الوقت الحالي.”
ارتجفت كتفا جوليا.
“ولكن… أنا خادمتكِ الخاصة.”
“أنتِ أقرب إلى خادمتي الخاصة بالتجميل فقط، ولا حاجة لوجودكِ بجانبي دائمًا. عليكِ الحضور صباحًا وقبل أن أنام فقط. عندما أوكلتكِ لي ليلي، كان هذا هو الدور المطلوب منك، أليس كذلك؟”
“ه-هذا صحيح، ولكن…”
“ما لم أطلبكِ بنفسي، يمكنكِ أن ترتاحي أو تعودي إلى سيدتكِ. سأخبر ليلي بذلك.”
كلماتها كانت لطيفة… لكن فيها حزم لا يمكن معارضته.
عضّت جوليا شفتها بضيق.
فهي بحاجة لمعرفة ما الذي تتحدث به كلير مع هؤلاء الأشخاص، وما الذي تُخفيه عنها.
لكنها فوجئت بنظرة روس الحادّة، فانحنت مذعورة.
شيء في تلك النظرة جعل عمودها الفقري يقشعر.
“سأطيع أوامر الآنسة.”
استسلمت جوليا أخيرًا.
فهدفها كان مراقبة كلير للتأكد من أنها تستعمل مستحضرات هيلناميليا السامّة.
وما دام هذا يتحقق، فلا يهم الباقي.
نظرت جوليا إلى يدي كلير بخلسة.
يديها وعنقها، بلا قفازات، بدت عليها نفس البقع الحمراء التي على جلد جوليا تمامًا.
وكانت تشعر بالأسف لأنها لم تتمكن من رؤية وجهها بوضوح، لكن حتى لو توقفت عن استخدام المستحضرات الآن، فالسمّ الذي امتصّته بشرتها لن يختفي.
فمعدن كامین هو مادة سامة بطيئة المفعول.
امرأة غبية وبائسة.
ضحكت جوليا في سرّها، لكن نظرة حادّة اخترقت جسدها.
كانت نظرة الفارسة تحمل شيئًا مخيفًا.
هربت جوليا من الغرفة وكأنها تهرب من الموت.
حدّقت روس في الباب بعد خروجها، ثم قالت بوجه منزعج:
“طاقتها ليست جيدة. إن بقيت قريبة من سموّكِ، ستكون مصدر شرّ.”
“شكرًا لاهتمامك. أعلم هذا… وأنا من يستخدمها عمدًا، فلا تقلقي.”
ابتسمت كلير بنبرة متساهلة. أما روس فمال رأسها قائلة وكأنها لا تفهم.
أنهت دوروثيا ترتيب الغرفة، ثم وقفت أمام كلير باحترام.
“سموكِ، سمعت أن الآنسة آنا ستُقبَل كسيدة شرف في القصر.”
“صحيح. هل سبق أن التقيتِ بها؟”
“أجل. صاحب السموّ طلب مني أن أُدرّبها على آداب القصر قبل مجيئي إلى هنا.”
“هذا لطفٌ كبير منه.”
أخذت دوروثيا صندوقًا خشبيًّا صغيرًا يحمل حجرًا أزرق لامع بين الهدايا التي أحضرها تايوبالت.
صندوق حجر سحري؟
على عكس الأحجار الكريمة العادية، هذا اللون الأزرق الداكن لا يكون إلا لأحجار السحر.
صار وجود هذه الأحجار نادرًا لدرجة أنها لا تُقدّر بثمن.
فتحت دوروثيا الصندوق.
داخله زجاجة تشبه بالضبط زجاجات مستحضرات التجميل التي أرسلتها ليليانا.
“آنسة آنا بذلت جهدًا كبيرًا لصنع مستحضرات تجميل ودواء مضاد للسمّ لتقدّمه لسموكِ. كانت تتوق بشدّة لرؤيتكِ بنفسكِ… وهي تنتظر يوم دخولك القصر بفارغ الصبر.”
بينما كانت كلير تراقب دوروثيا وهي تتابع حديثها بهدوء، شعرت لوهلة وكأن أنفاسها توقفت.
فالسمّ الذي دمّر حياتها السابقة لم يعد قادرًا على قتلها الآن.
وانفجرت في صدرها سعادة لا يمكن التعبير عنها بالكلمات.
‘تيوبالت.’
حتى حين كان يمازحها بقسوة… كان ذلك دائمًا لأجلها.
وكما يحميها هو، أرادت كلير أيضًا أن تكون سندًا له.
ولأجل ذلك… عليها أن تُظهر صدقها لأولئك الذين وضع فيهم تيوبالت ثقته.
“دوروثيا… وروس.”
تحول نظر الاثنتين نحو كلير.
“كما ترَيان… لا يوجد في هذا القصر شخص واحد يمكنني الاعتماد عليه.”
عند كلمات كلير، تفحّصت روس المكان بنظرة حادة.
ولحسن الحظ، لم يكن هناك من يتنصّت.
سمحت كلير لروس بتفتيش الغرفة بسهولة، ليس لمجرد الأمان… بل لأنها لم تعد تملك شيئًا تخفيه.
بل كانت ترى أنه أفضل وسيلة ليعرفا بسرعة موقعها الحقيقي، وما تواجهه الآن.
“سموّه سيُعلن وليًّا للعهد قريبًا، لكن مكانته لا تزال غير مستقرة.”
فانخفض جوّ روس إلى برودة قاتلة.
“وبالطبع… لولا أنني صاحبة النبوءة، لكنتُ مجرد شريكة لا تليق بسموّه.”
“سموكِ! كيف تقولين شيئًا كهذا… أرجوكِ اسحبيه!”
اعترضت دوروثيا بسرعة، لكن كلير هزّت رأسها برقيّ.
فالكل يظنّ ذلك.
على الأقل… حتى الآن.
“عليّ دين لسموّه… دين يجب أن أُسدّده مهما كان. ولهذا… أحتاج مساعدتكما.”
التعليقات لهذا الفصل " 30"