تحت ذلك الاندفاع العاصف والجريء، بدأت رؤيا كلير تتشوش تدريجيًا، وبدأ وعيها يضعف.
حرارة جسده اللاهبة أشعلت حرارة في كل جسدها، والعبير الهادئ الذي يشبه غابة ساكنة أربك حواسها حتى استسلم جسدها وارتخى كما لو كان منوَّمًا.
تيوبالت أحاطها بقوة، وكأنه لن يسمح لها بالهرب أبدًا.
كانت عقلانيتها تصرخ بأنها يجب أن ترفضه، لكن الجسد كان يتلقّى هذا الدفء الساطع كأنه ماء حياة مُنقذ.
‘رائحة النعناع…’
كان عطر شاي النعناع الذي شاركاه معًا خلال مشاهدة الألعاب النارية لا يزال يطفو حولهما.
ومع انطفاء تلك الحرارة العنيفة، جاءت قبَلٌ ألين، مفعمة بالعذوبة.
‘هذا… شعور جميل.’
عندها اتسعت عينا كلير كأنهما ستسقطان.
ومع عودة الألم إلى الاختفاء واستعادة عقلها لصفائه، دفعت تيوبالت بخشونة بعيدًا.
رأسها بدا وكأنه سينفجر من شدة الحرارة، وكانت موجة من اليأس تجتاحها من رأسها حتى قدميها.
الشعور بالجمال بدا لها كأنه خطيئة.
أكانت قد نسيت؟
ألم تتعلم من الماضي أن دفئًا واحدًا قُدِّم لها بسذاجة كان السبب في موتها البائس؟
كل المشاعر المتوهجة ليست سوى سراب يبرد سريعًا ويختفي.
“…لِـ… لماذا تفعل هذا؟ هل تسخر مني؟ أم تشفق علي؟”
“لا أشفق عليك.”
“استخدمني كأداة، كما تريد. فقط لا تفعل شيئًا لا نرغب به كلانا.”
قالت ذلك ببرود، ثم مسحت شفتيها بظهر يدها بعنف.
كانت مضطربة بشدة، والرؤية أمامها مظلمة.
ورغم أن وجهها مخفي خلف القناع، كانت تشعر بالخوف من تعابيرها التي لا تعرف كيف تبدو الآن.
ويدها—ما الذي يجعلها ترتجف بهذا الشكل؟
الخوف كان يعصر قلبها بقسوة.
نظر إليها تيوبالت بعينين لا تهتزّان.
“وهل كنتُ سأقف أتفرج عليكِ وأنت تتألمين؟ كل ما أردته هو علاجك بسرعة.”
“يا له من علاجٍ نبيل من فارس مقدّس.”
سخريتها جعلته يجيب بصوت بارد كالثلج:
“قلتُ لكِ من قبل، أيمكنك تحمّله؟”
“لا تعالجني وفق هواك! سواء متُّ من الألم أو عشت، ما الذي يهمك؟”
لا تقترب مني هكذا.
كادت الدموع أن تنفجر من عينيها.
عضّت شفتها كي لا تنهار.
“…وهل هذا أيضًا عقاب منك لي؟”
“فكري كما تشائين.”
لم يزد على ذلك، بل حملها بين ذراعيه برفق.
صرخت، وطلبت منه أن ينزلها، لكن لا أحد من تلك الكلمات استطاع أن يغير قراره.
✦✦✦
خيم الصمت على عربة العودة.
كلير كانت تدير وجهها نحو النافذة، تحدق خارجها بصمت.
القناع الأسود ذو قرون الماعز كان في يدها، وقد عادت لارتداء حجابها المعتاد.
لم يبقَ أثر لملامحها المفعمة بالحياة، ولا لعينَيها البنفسجيتين اللتين كانتا تبحثان عنه دومًا.
تأمل تيوبالت كل ذلك بصمت، ثم انطلق منه ضحك قصير ممتلئ بالسخرية.
مزعج.
لماذا يزداد شعوره بالقذارة هكذا؟
فمه كان وكأنه ملئ بالرمال.
لم يكن هذا ما أراده.
كان ينوي استغلال نقطة ضعفها الفتاكة—قدرتها—ليحكم قبضته عليها.
وإن تجرأت كلير مجددًا على خداعه، فسيعيد لها خيانتها مضاعفة، يجعلها تنهار كما انهار هو.
لكن كل شيء كان يحدث عكس ما خطط له.
هذه المرأة الهشة، بإرادتها المدّمرة، كانت تفعل كل ما يخالف توقعاته.
اعترفت له بالحقيقة دون مقاومة…
ثم أظهرت له بيديها فظاعة قدرتها وكيف تلتهم عمرها.
وحين تذكّر وجهها المشوه بالألم حين استخدمت قدرتها، اجتاحه شعور غريب من العجز.
هل سيكون أسهل لو كسرتُ عنقها الرفيع بيدي؟
لكن مجرد تخيل ذلك جعل قلبه يهبط نحو الهاوية.
تنهد تيوبالت بحدة.
اللعنة.
رائحة بشرتها، طراوة شفتيها، وعطرها الخفيف على قميصه—كلها كانت تشعل جسده كالنار.
الغريزة التي حاول كبتها طويلًا كانت تنهض كالوحش المكبل، يثير اشمئزازه بقدر ما يثير جنونه.
كان عليه أن يخمد الغضب، يكتم ضجره الآخذ بالغليان.
هل كان اختياره من البداية صحيحًا؟
لم يعد يعرف.
استعادة شرف والدته وممتلكاتها المقدسة كان حلمه الأعظم.
ومع ذلك، القصر الإمبراطوري بقي مكانًا يخنقه حتى الآن.
فما الذي أعاده إلى ذلك الجحيم؟
كلير.
حين يراها، يشتعل قلبه بنار لا تُفهم—رغبة جامحة في أن يكون لطيفًا معها، وأخرى هدامة تريده أن يدمّر كل شيء.
على الأقل لا يمكنها رؤية ماضيّ.
أعاد نظره الذهبي البارد، واستحضر صورة كلير في طفولتها—الفتاة الدافئة كربيع لطيف، عطرها حلو، ولمعان خديها يخجل الفراشات.
الطفلة التي قال لها يومًا كذبًا إنها قبيحة فقط لأنه خجل من قول الحقيقة:
أحبك.
يا لذكريات يريد اقتلاعها من رأسه.
اشتدت حدّة نظر تيوبالت.
_ “سأحطم الشخص الذي كنتُ أثق به وأحبه أكثر من أي أحد.”
وكان الأمر غريبًا…
لأن ذلك الشخص الذي تريده كلير أن ينتقم منه… ليس هو.
كانت تنظر إلى تيوبالت، لكنها تفكر في شخص آخر تمامًا، وتخطط لتستخدم يده للقتل بدلًا من يدها.
ومع ذلك… حتى كرهها أراد الاستحواذ عليه.
لا.
هذا غير مسموح.
كلير ملكه.
جسدًا وروحًا، حتى كرهها ورغبتها في الانتقام—كلها تخصه وحده.
سواء أحبته أم كرهته، سينتهي كل شيء عنده هو.
ممتع… لنرَ إلى أي حد تستطيعين زعزعة عالمي.
وفي النهاية… من سيضحك؟
أنت؟
أم أنا؟
ابتسامة ساخرة شقت شفتيه.
هيما: البطل مسودن
✦✦✦
حتى وصولهما إلى القصر، بقيت كلير صامتة، ولم تتبادل معه ولو كلمة.
لكن وجود أحد أتباع تيوبالت هدّأ الأجواء التي كانت مشحونة.
“بفضل الوصف الدقيق الذي قدمته السيدة، استطعنا العثور على مربية الصغير بسرعة. وقد أُبلغت أسرة آل ألبهاين. والطبيب قال إن الطفل بخير.”
وبمجرد أن قال ذلك، اختفى في الظل مجددًا.
رائع…
رغم كل الغضب، شعرت كلير بالارتياح لأن إميل عاد لعائلته سالمًا.
حلّت عدة مشاكل، فعادت إلى هدوئها.
ومع ذلك، كان تيوبالت لا يزال يحدّق بها بلا تعبير واضح.
وبسبب هذا الصمت الثقيل، بدأت كلير بالكلام بصوت أكثر ليونة قليلًا.
“بشأن ما حصل سابقًا…”
“آسف.”
نطق الاثنان في اللحظة نفسها، ثم ابتلعا كلماتهما ثانية. ترددت كلير قليلًا قبل أن تتابع بصوت يحمل شيئًا من التردد. ربما منحها الحجاب الذي غطّى وجهها قليلًا من الشجاعة.
“جلالتكم، أنا آسفة لأنني غضبت قبل قليل.”
جلالتكم، هاه. عند عودتها إلى ذلك الأسلوب المهذب والمتزن، انحنى فم تيوبالت بامتعاض طفيف.
“جلالتك تفهّمت قوتي وظروفي، أعلم أنك… فقط أردت معالجتي.”
“معالجة؟”
ضحكًا بلا صوت، شدّ تيوبالت عضلات فكّه بقوة. لكن كلير، التي لم تستطع قراءة تعابيره في الظلام، شعرت بالاطمئنان لبرودته الظاهرة كعادته.
“إميل كان يلهث بشدة… لقد مررت بهذا كثيرًا من قبل. لم أستطع تجاهله مهما حاولت.”
“ذلك الطفل يشبهك؟”
“عجز إميل عن الكلام… سببه أنه رأى أخاه الوحيد يسقط من على الحصان أمام عينيه.”
هل أصيب بصدمة أفقدته النطق؟ شعر تيوبالت بانقباض في صدره، فقد تذكّر أن زوجَي الكونت روفيوس ماتا في حادث العربة وهما يحاولان حماية كلير.
“يبدو أن ذكرياته عن مشاهدة الاحتفال مع أخيه في كل مهرجان تأسيس لم تُمحَ من عقله. لهذا خرج خلسة من القصر برفقة المربية.”
فقدان شخص تحبه… الألم الأبدي الذي يترك فراغًا لا يلتئم. كلاهما كان يعرف معنى ذلك جيدًا.
“لذا… أرجوك، سامحني.”
وضعت كلير إحدى يديها على صدرها وانحنت برشاقة. لم تكن مجرد اعتذار، بل انحناءة تفيض بوقار يأسر الأنظار ويطلب الصفح بطريقة لا يستطيع أحد تجاهلها.
تقلّص حاجبا تيوبالت بضيق. صحيح أنه حاول تبرير ما فعله بالقول إنها كانت معالجة، لكنه هو من قبّلها دون إذنها.
لو أنها فقط غضبت كما فعلت سابقًا… لكان أسهل بكثير.
أما اعتذارها المهذب المليء بالاحترام، فقد جعله يشعر بعدم الارتياح من جديد.
وكلير، غير مدركة لما يجري في داخله، تابعت بصوتها اللطيف:
“أعرف أن جلالتكم ليس ممن يحملون الضغائن أو يؤذون الآخرين لمجرد اختلاف التفكير. ثم إن…”
ورغم استقامتها المهيبة، ارتعش صوتها قليلًا.
“أنا… لست معتادة على هذا. حتى لو قلنا إنه علاج… هذا أول مرة يحدث لي…”
في تلك اللحظة، احمرّت أذنا تيوبالت بلون خفيف يكاد لا يُرى.
التعليقات لهذا الفصل " 24"