-اختبار آخر-
وضعت كلير الكوب البارد بيد مرتجفة على المقعد.
لم تستطع أن تنكر شيئاً.
لم يكن كلام تيوبالت محاولة لاستفزازها.
“…إذن، كنتَ تعلم.”
ولكن… منذ متى؟
وهل لاحظ غيره أيضاً؟
حتى في اللحظة التي كانت فيها الألعاب النارية تزين الظلام بألوانها، كان الصمت بينهما ثقيلاً يكاد يخنق الهواء.
قال تيوبالت بلهجة هادئة، لكن عينيه كانتا حادتين كالسيوف تفحصانها من رأسها حتى أخمص قدميها:
“بما أنني اكتشفت الأمر مؤخراً، فمن الأفضل أن نكون صريحين.”
كان ذلك نظر رجل يرى ما في قلبها بلا حجاب.
والآن وقد كانت بلا حجاب فعلاً، لم تستطع إخفاء تعابير وجهها كما اعتادت.
لكن في المقابل… تمكنت هي أيضاً من رؤية ما يجول في أعماقه.
ورأت الشك صافياً في عينيه.
عاد التركيز إلى عينيها البنفسجيتين المرتجفتين.
“لقد حذّرتك. قلتُ لكِ إنني سأشك فيكِ دائماً… وأجعل كل خطوة لكِ مهزوزة.”
“…هل هذا هو السبب فقط؟”
“لا.”
ابتسم تيوبالت بخفة، ثم أكمل:
“كل شيء كان سلساً أكثر مما ينبغي، وكأن شخصاً خطط له من البداية. ألا يثير ذلك فضولك بشأن غايتكِ الحقيقية… وقدرتك الفعلية؟”
ثم بدأ يشرح بهدوء ما لاحظه: حادثة تقيؤ الدم في الاحتفال التأسيسي، وكيف تمكنت من معرفة مكان التحفة المقدسة التي اختفت منذ سنوات دون أن يعرف أحد بمكانها.
“أعرف أيضاً أنك لم تلتقِ بالإمبراطورة الأرملة ولا بحراسها منذ حادثة التحفة. وسجلات دخولك القصر… فارغة تماماً.”
قالت كلير بصوت منخفض:
“ربما… هناك طرق أخرى للتحقق مما قالته الإمبراطورة الأرملة حين كنت صغيرة…”
لكن تيوبالت هزّ رأسه:
“الإمبراطورة الأرملة ليست امرأة مهملة. كل الفرسان والخادمات اللواتي لهن علاقة بالقضية… قُتلوا.”
استعاد ذكرى يوم تتبع الحقيقة بنفسه.
كانت الجثث في جبال توتن مجرد أشلاء بلا ملامح.
وبعض الجثث لم يتبقَّ منها سوى الجذع… وأحيانًا أقل من ذلك.
باستثناء تيوبالت وكلير—لم ينجُ أحد من أولئك الذين تورطوا في حادثة سرقة التحفة.
سادت لحظة صمت.
لم تستطع كلير الرد.
من وجهة نظره… ربما كانت ستصل إلى نفس الاستنتاج لو كانت مكانه.
كان من الطبيعي أن يشك في الطريقة التي وجدت بها التحفة المفقودة.
ثم سأله بصوت هادئ، لكنه يجرّح:
“قدرتك… هل هي معرفة موقع الأشياء أو رؤية المستقبل؟ ولهذا تقيأتِ دماً؟”
اتسعت عينا كلير.
لم تتوقع أن يصل إلى هذا الحد بهذه السرعة.
التقطت أنفاسها ببطء، تحاول استعادة هدوئها بأي شكل.
لكن تيوبالت كان يحدّق فيها بنظرة لا تسمح بالكذب.
‘لم أعد أستطيع خداعه بعد الآن.’
كانت قد توقعت دائماً أن يأتي يوم يكتشف فيه تيوبالت قدرتها.
لكنها لم تتوقع… أن يحدث بهذه السرعة.
ربما ينظر إليه النبلاء والإمبراطورة الأرملة كأمير ضعيف عاد للتو إلى منصبه.
لكن كلير كانت تعرف الحقيقة.
تعرف مدى خطورته… ومدى طول الوقت الذي قضاه في إخفاء ذلك.
كان يمتلك ثروة هائلة من الغنائم التي حصل عليها في ساحات الحرب.
وكان قائداً لفيلق الفرسان المقدسين، يملك قوة جسدية هائلة.
وفوق كل ذلك… كان لديه أتباع ومخلصون مستعدون للموت من أجله.
بينما هي… لم يكن لديها أحد.
ولا حتى شخص واحد يمكنها أن تثق به أو تعتمد عليه.
لو لم يكن قدرها مربوطاً بتلك النبوءة التي حولت حياتها لسلسلة من القيود… لربما كانت لها خيارات أخرى.
‘حسناً… إخباري له لن يغيّر شيئاً.’
وإن استطاعت أن تحصل من خلال ذلك على “ثقة” منه، ولو جزئية… فهذا مكسب.
أغمضت عينيها للحظة… ثم فتحتهما ببطء.
ربما كان هذا أيضاً أحد اختبارات تيوبالت.
اختبار لا بد لها من اجتيازه.
قالت بصوت منخفض وثابت:
“قدرتي… هي أنني أستطيع رؤية مشاهد من الماضي أو قراءتها من خلال اللمس.”
“…إذن هي الماضي، وليست المستقبل.”
ازدادت نظرات تيوبالت عمقاً.
‘هل كانت طاعتها للإمبراطورة الأرملة… فقط لتقرأ ذكرياتها وتجد التحفة؟’
يا لها من مخاطرة.
لكن لم يكن بوسعه وصفها بالغباء.
لو كان هو يمتلك قدرة مثلها… ربما لكان فعل ما هو أخطر بكثير.
ثم سأل بحدة:
“هل استخدمتِ قدرتكِ عليّ قبل قليل؟”
أومأت كلير ببطء.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة لا تشبه الضحك.
كانت الأجواء من حوله باردة… ومرعبة.
فسارعت لتوضيح الأمر:
“لا تفهمني خطأ. أعتقد أن هناك أشخاصاً لا تعمل عليهم قدرتي، لذلك حاولتُ التأكد فقط.”
“وهذا يعني… أن ذاكرتي لا يمكن قراءتها؟”
“نعم. كما رأيت بنفسك، قدرتي لها ثمن. أتقيأ دماً… وأعاني ألماً فظيعاً، كأنني أغرق في مياه متجمدة أو أُحرق بالنار.”
وضعت كلير يدها فوق يد تيوبالت.
“…لكن ماضيك أنت لا يظهر لي. ولا أشعر بأي ألم حين ألمسك. لو كنت أستطيع رؤيته… لكان من الأسهل بالنسبة لي أن أفهمك.”
كان شفاه تيوبالت، المغلقة بإحكام، تنفرج ببطء.
“كان من الأفضل ألا تريه. ذكريات قتل الناس وما شابه.”
عندما خيّم الظل على وجه تيوبالت، ارتجفت عينا كلير.
شعرت وكأن شوكة حادة قد انغرست في قلبها.
اجتاحها شعور بالذنب… لربما هي نفسها كانت السبب في دفعه إلى ساحة المعركة.
لكن كلير الصغيرة آنذاك لم تكن تعرف أي خيار آخر سوى خيانة تيوبالت.
يا لحمقها.
“هل صحيح أن قوتي المقدسة تزيل الألم؟”
“…نعم.”
حين أجابت كلير بعد لحظة تأخر قصيرة، بدا أن ملامح تيوبالت قد ارتخت قليلًا.
“إذن فسّري لي الآن بوضوح سبب رغبتك في استخدامي.”
“من أجل الانتقام.”
إذن كان انتقامًا حقًا.
تمتم تيوبالت بصوت خافت لا يحمل أي تردد.
ابتسمت كلير ابتسامة باهتة ثم تابعت:
“أريد إسقاط الشخص الذي كنت أثق به وأحبه أكثر من أي أحد.”
صديقتها العزيزة… لِيليانا، التي كانت كأخت توأم تتشارك معها الروح.
“سأدمّرها… بيدي.”
تصلّبت ملامح تيوبالت.
لم تذكر الاسم، لكنه أدركه على الفور.
رأت كلير في عينيه مشاعر معقدة وصراعًا داخليًا عميقًا.
كان مختلفًا عن ليليانا وآيموس… مختلفًا عن أولئك الشياطين.
صحيح أنه كان يُدعى “السيف المقدس الحي” ولا يرحم أعداءه،
لكن تجاه من يخصّونه، كان وفيًا وحاميًا بشدة.
كانت تعرف أنه لن يدير ظهره لشخص لمجرد الشك أو الغضب.
لكنها كانت تعرف أيضًا…
حين يعلم بحقيقة ثمن هذه القدرة، لن تبقى هي “أكثر أدواته نفعًا”.
فعلى الرغم من أنها تعرف الماضي بلمسة،
إلا أن الثمن كان… تناقص عمرها في كل مرة تستخدم فيها قوتها.
ولو علم تيوبالت بذلك…
فلا بد أنه سيتركها.
‘ليس بعد… لم يقترب أولئك الشياطين بعد من بوابة هلاكهم.’
تحولت نظرات كلير إلى قسوة.
وبينما كان الجو يغرق في ثقل، فتح تيوبالت فمه بصعوبة.
كانت عيناه الذهبيتان تحدقان مباشرة بها.
“الآن وقد عرفتُ حقيقة قوتك… ماذا تنوين أن تفعلي؟”
“منذ البداية، لم يكن لدي سوى جواب واحد.”
ابتسمت كلير بهدوء.
“مقابل مساعدتك لي… سأمنحك الشيء الذي ترغب فيه أكثر من أي شيء:
ذكريات الإمبراطورة الأرملة. أما أنا… فسأُكمل انتقامي.”
ستعيد لهم كل ألم عانته، دون أن تفوّت ذرة منه.
خفق قلب كلير بعنف.
وفي تلك اللحظة، انفجرت الألعاب النارية من جديد في السماء.
وتراقصت الأضواء فوق وجه تيوبالت، كاشفة عن مشاعر مختلطة.
✦✦✦
في النهاية، غادر الاثنان الحديقة دون أن يشاهدا الألعاب النارية حتى النهاية.
ارتدت كلير قفّازَيها جيدًا وركّزت بكل حواسها على ألا تصدر أي حركة خاطئة.
حتى لو كانت عجزت عن قراءة ذكريات تيوبالت،
فإن قدرتها لا تزال في وضع التشغيل.
وعلى خلاف ما حدث قبل قليل، لم يُمسك تيوبالت يدها هذه المرة.
لهذا أبقت كلير خطواتها بطيئة متعمدة لتبتعد عنه قليلًا.
ثم حدّقت بصمت في ظهره المتقدم أمامها.
“لا بد أنّ تيوبالت في دوامة من التفكير الآن…”
وربما…
ربما المسافة بينهما الآن أفضل.
ما أغرب أن ترغب في أن تكون مفهومة، وفي الوقت نفسه غير قادرة على الثقة بأحد.
يا لها من مشاعر أنانية.
“ربما أنا الفوضى نفسها.”
نظرت كلير حولها.
كان الناس يستمتعون بالمهرجان، يصرخون إعجابًا بالألعاب النارية.
كانت الأصوات صاخبة، لكن الصخب نفسه بدا جزءًا طبيعيًا من الاحتفال.
“هل سأتمكن من رؤية مهرجان مرة أخرى؟”
مع امتداد تلك الحسرة داخلها، تباطأت خطواتها أكثر.
ثم فجأة، توقفت نظراتها عند امرأة تتحرك بسرعة في مكان ما.
“إيفلين؟”
الانستغرام: zh_hima14
التعليقات لهذا الفصل " 22"